الثقافة...
الثقافة
مفهوم ذاتي متجدد
على الرغم من سيادة لفظ "ثقافة" كمرادف للفظ الإنجليزي" culture "، إلا أن ذلك لا يمنع وجود اختلاف كبير في الدلالات الأصلية بين المفهومين، "الثقافة" في اللغة العربية من "ثقف" أي حذق وفهم وضبط ما يحويه وقام به، وكذلك تعني: فطن ذكي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، وتعني: تهذيب وتشذيب وتسوية من بعد اعوجاج، وفي القرآن: بمعنى أدركه وظفر به كما في قوله تعالى: " مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً" (الأحزاب:61).ومن خلال هذه الدلالات يمكن تحديد أبعاد المفهوم:
1 - إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية ينبع من الذات الإنسانية ولا يُغرس فيها من الخارج. ويعني ذلك أن الثقافة تتفق مع الفطرة، وأن ما يخالف الفطرة يجب تهذيبه، فالأمر ليس مرده أن يحمل الإنسان قيمًا-تنعت بالثقافة- بل مرده أن يتفق مضمون هذه القيم مع الفطرة البشرية.
2 - إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية يعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وكل القيم التي تُصلح الوجود الإنساني، ولا يدخل فيه تلك المعارف التي تفسد وجود الإنسان، وبالتالي ليست أي قيم وإنما القيم الفاضلة. أي أن من يحمل قيمًا لا تنتمي لجذور ثقافته الحقيقية فهذه ليست بثقافة وإنما استعمار وتماهٍ في قيم الآخر.
3 - أنه يركز في المعرفة على ما يحتاج الإنسان إليه طبقًا لظروف بيئته ومجتمعه، وليس على مطلق أنواع المعارف والعلوم، ويبرز الاختلاف الواضح بين مفهوم الثقافة في اللغة العربية ومفهوم "Culture" في اللغة الإنجليزية، حيث يربط المفهوم العربي الإنسان بالنمط المجتمعي المعاش، وليس بأي مقياس آخر يقيس الثقافات قياسًا على ثقافة معينة مثل المفهوم الإنجليزي القائم على الغرس والنقل.
وبذلك فإنه في حين أن الثقافة في الفكر العربي تتأسس على الذات والفطرة والقيم الإيجابية، فإنها في الوقت ذاته تحترم خصوصية ثقافات المجتمعات، وقد أثبت الإسلام ذلك حين فتح المسلمون بلادًا مختلفة فنشروا القيم الإسلامية المتسقة مع الفطرة واحترموا القيم الاجتماعية الإيجابية.
4 - أنها عملية متجددة دائمًا لا تنتهي أبدًا، وبذلك تنفي تحصيل مجتمع ما العلوم التي تجعله على قمة السلم الثقافي؛ فكل المجتمعات إذا استوفت مجموعة من القيم الإيجابية التي تحترم الإنسان والمجتمع، فهي ذات ثقافة تستحق الحفاظ عليها أيَّا كانت درجة تطورها في السلم الاقتصادي فلا يجب النظر للمجتمعات الزراعية نظرة دونية، وأن تُحترم ثقافتها وعاداتها. إن الثقافة يجب أن تنظر نظرة أفقية تركيبية وليست نظرة رأسية اختزالية؛ تقدم وفق المعيار الاقتصادي -وحده- مجتمع على آخر أو تجعل مجتمع ما نتيجة لتطوره المادي على رأس سلم الحضارة.
وقد أدت علمنة مفهوم الثقافة بنقل مضمون والمحتوى الغربي وفصله عن الجذر العربي والقرآني إلى تفريغ مفهوم الثقافة من الدين وفك الارتباط بينهما.وفي الاستخدام الحديث صار المثقف هو الشخص الذي يمتلك المعارف الحديثة ويطالع أدب وفكر وفلسفة الآخر، ولا يجذر فكره بالضرورة في عقيدته الإسلامية إن لم يكن العكس تمامًا.ووضع المثقف كرمز "تنويري" بالفهم الغربي في مواجهة الفقيه، ففي حين ينظر للأخير بأنه يرتبط بالماضي والتراث والنص المقدس، ينظر للأول -المثقف- بأنه هو الذي ينظر للمستقبل ويتابع متغيرات الواقع ويحمل رسالة النهضة، وبذلك تم توظيف المفهوم كأداة لتكريس الفكر العلماني بمفاهيم تبدوا إيجابية، ونعت الفكر الديني -ضمنًا- بالعكس.
وهو ما نراه واضحًا في استخدام كلمة الثقافة الشائع في المجال الفكري والأدبي في بلادنا العربية والإسلامية؛ وهو ما يتوافق مع نظرة علم الاجتماع وعلم الاجتماع الديني وعلم الأنثروبولوجيا إلى الدين باعتباره صناعة إنسانية وليس وحيا منزلاً، وأنه مع التطور الإنساني والتنوير سيتم تجاوز الدين..والخرافة!!
أما في المنظور الإسلامي فمثقف الأمة هو المُلمُّ بأصولها وتراثها. وعبر التاريخ حمل لواء الثقافة فقهاء الأمة وكان مثقفوها فقهاء.. وهو ما يستلزم تحرير المفهوم مما تم تلبيسه به من منظور يمكن فيه معاداة الدين أو على أقل تقدير النظر إليه بتوجس كي تعود الثقافة في الاستخدام قرينة التنوير الإسلامي الحقيقي، وليس تنوير الغرب المعادي للإله، والذي أعلن على لسان نيتشه موت الإله فأدى فيما بعد الحداثة إلى موت المطلق وتشيؤ الإنسان. والله أعلم.
اتجاهات ترجمة المفهوم للعربية:
مع بداية الاتصال الفكري والمعرفي بين المجتمع العربي والمجتمعات الأوروبية انتقل مفهوم "Culture" إلى القاموس العربي واتخذت الترجمة اتجاهين:
أ - اتجاه ترجمة مفهوم "Culture" إلى اللفظ العربي "ثقافة":فكان سلامة موسى -في مصر-أول من أفشى لفظ ثقافة مقابل "Culture"- وقد تأثر في ذلك بالمدرسة الألمانية في تعريف ربط الثقافة بالأمور الذهنية، حيث عرّف الثقافة بأنها هي المعارف والعلوم والآداب والفنون التي يتعلَّمها الناس ويتثقفون بها، وميَّز بين الثقافة "Culture" المتعلقة بالأمور الذهنية والحضارة "Civilization" التي تتعلق بالأمور المادية.
ولقد عرفت اللفظة العربية بنفس المضمون الأوروبي للمفهوم، مما شجع الدعوة إلى النقل والإحلال للقيم الغربية محل القيم العربية والإسلامية انطلاقًا من مسلمات الانتشار الثقافي والمثاقفة.
ب - اتجاه ترجمة "Culture" إلى اللفظ العربي "حضارة":وهو اتجاه محدود برز في كتابات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا العرب في ترجماتهم للمؤلفات الأوروبية في هذين الحقلين، وفي المقابل ترجموا لفظ "Civilization" باللفظ العربي "مدنية"
الثقافة في الفكر الغربي
اللفظة العربية "ثقافة" هي الترجمة السائدة للكلمة الإنجليزية "Culture"، وتعود جذور الكلمة الإنجليزية إلى اللفظ اللاتيني "Culture" ويعني حرث الأرض وزراعتها، وقد ظلت اللفظة مقترنة بهذا المعنى طوال العصرين اليوناني والروماني. وفي فترة لاحقة، استخدمها المفكر اليوناني "شيشرون" مجازًا بالدلالات نفسها، حين أطلق على الفلسفة "Mentis Culture" أي زراعة العقل وتنميته، مؤكدًا أن دور الفلسفة هو تنشئة الناس على تكريم الآلهة.
وفي عام 1871م، قدم إدوارد تيلور تعريفًا لهذا المفهوم في كتابه "Primitive culture"، حيث اعتبره "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في مجتمع".
وبانتقال مفهوم "Culture" إلى "Kultur" الألماني اكتسبت الكلمة مضمونًا جماعيًا، فقد أصبحت تدل على التقدم الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعات أو الإنسانية بصفة عامة. بناءً على ذلك، عالج المفكرون الألمان العلاقة بين علوم الـ "Culture" والعلوم الطبيعية.
من ناحية أخرى اتجه المفكرون الإنجليز إلى النظر في التطبيقات العملية لمفهوم Culture في المسائل السياسية والدينية، لذلك عرّفها كلايد كلوكهون بأنها: مجموعة طرائق الحياة لدى شعب معيّن في الميراث الاجتماعي التي يحصل عليها الفرد من مجموعته التي يعيش فيها.
الانتشار الثقافي..وهْم استعماري:
وقد تشعب المفهوم وأصبح جزءًا من العلوم الاجتماعية وخاصة علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والذي عليه تقوم افتراضات النظريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حول تاريخ المجتمعات وتطورها وصورها السابقة والقوانين التي تحكمها، ويتخذ علم الأنثروبولوجيا مفهومي (Culture - Civilization) جوهرًا أساسيًا لمقولاته ونظرياته.
وينطلق علم الأنثروبولوجيا من ثلاث قواعد أساسية تنبع منها نظريات علمائه، وهذه القواعد هي:
1 - المجتمعات تسير في نسق تطوري في نمط متصاعد؛ انطلاقًا من الحالة البدائية الأولى التي وجد عليها الإنسان في مرحلة ما بعد انفصاله عن عالم الحيوان إلى المرحلة الراقية التي وصل إليها المجتمع الأوروبي المعاصر، والذي يقع على قمة السلم التدريجي، ويتم تقسيم المجتمعات طبقًا لمعايير نابعة من الـ "Culture". ولذلك ظهرت مفاهيم مثل: التحديث، واللحاق بالركب.
2 – الـ "Culture" تنشأ في مجتمع معين ثم تنتشر في المجتمعات الأخرى، فيما يطلق عليه "الانتشار الثقافي"، أي انتقال الثقافة من المجتمع الأكثر رقيًا إلى المجتمعات الأدنى أو الأقل تطورًا، وتحت هذا المعنى برزت مفاهيم مثل: مسألة الرجل الأبيض والثورات الثقافية.
3 - "Acculturation" أي التثاقف أو المثاقفة، ويقصد بها تأثر الثقافات بعضها ببعض نتيجة الاتصال بينها، أيَّا كانت طبيعة هذا الاتصال أو مدته، ولقد عرّف "مليفن هرسكوفيتز" التثاقف بأنه: التغيير الثقافي في تلك الظواهر التي تنشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر، مما يترتب عليه حدوث تغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى الجماعتين أو فيهما معًا. وغالبًا ارتبط هذا المفهوم بالدور الاستعماري للغزاة الأوروبيين في إفريقيا.
ويعتبر التطور في مفهوم "Culture" نتيجة منطقية للجذر اللاتيني له، حيث يعبر عن طبيعة الإنسان الأوروبي ودوره في العصور الحديثة تجاه المجتمعات غير الأوروبية، فطبيعة الإنسان الأوروبي أنه صاحب حضارة زراعية يستمد منها رموزه الفكرية، ومن ثم فليس غريبًا إذا ما تعاظم إنتاج الفكر وبدأ غرس القيم الجديدة وحصد ثمار النهضة أن يطلق الإنسان الأوروبي لفظ "Culture" على هذه العملية.
وأما عن دوره تجاه المجتمعات الأخرى فهو مفهوم يعبر عن عملية زرع القيم والأخلاق والمؤسسات الأوروبية في المجتمعات الأخرى تمهيدًا لحصاد هذه المجتمعات سواء عقول مبدعة تهاجر إلى المجتمع الأوربي أو موارد اقتصادية تغذي عجلة اقتصاده.
|