د.الأهدل: سبب الجريمة (6) دلالة الواقع..

[المناصر]

سبب الجريمة.. الحلقة ( 6 )

المبحث الثالث: دلالة الواقع على بطلان دعوى تلك الأسباب..

تناولنا في الحلقات السابقة.. أسباب الجريمة عند علماء الإجرام.. وإنكار هذه الأسباب من نفس العلماء..

وننبه إلى أربعة أمور:

الأمر الأول:
أن المقصود إنكار أن تكون تلك الأسباب أسباباً مستقلة، بإنشاء الجريمة أو أن يكون السبب المدعى أصلاً لإنشائها..

أما كون بعض تلك الأسباب فرعاً من الفروع التي قد تساعد على ارتكاب الجريمة، فهذا ليس محل إنكارنا..

فالفقر قد يكون من الأسباب المؤدية إلى ارتكاب الجريمة، ولكنه ليس سبباً مستقلاً بها ولا هو أصل ارتكابها.

الأمر الثانى:
أن علماء الإجرام الذين عنوا بأسباب الجريمة، هم من أهل الغرب الذين لا يعيرون الاسلام اهتماماً، وبخاصة مناهجه المنظمة لحياة البشر على أساسه، والدالة على أن السعادة ملازمة لتطبيقه، والشقاوة ملازمة للبعد عنه..

والسبب فى موقف علماء الغرب – في الغالب - هو الحقد الشديد على الإسلام وكراهة انتشاره وانتشار مبادئه، ولذلك يهملون ذكره إلا على سبيل الطعن فيه حيث أمكنهم ذلك..

وإن الأمانة العلمية التي يدعونها هم كانت تفرض عليهم أن يبحثوا في الإسلام كما بحثوا في غيره عن أسباب الجريمة..

ولكن هذه الأمانة المدعاة تفقد عندهم، إذا ذكر لهم الإيمان بالغيب - الذي يعتبرونه خرافة ويطلقون عليه "ميتافيزقا" والعلم عندهم لا يطلق إلا على ما يدخل فى عالم المادة.

الأمر الثالث:
أن علماء الإجرام اعترفوا أن الأسباب التي ذكروها كلها، غير صالحة للاستقلال فى سببية الجريمة، لأنها تفسيرات جزئية غير مؤهلة لأن تكون نظريات تفسيريه عامة..

فقالوا:
"فالحقيقة أن أي تفسير مهما كان جديداً.. ..أو حديثاً فى صياغة فرضيات علمية جديدة، لا يقوى على مجابهة هذه الظاهرة المتعددة التى ندعوها بالجريمة، والتي لا تخضع لأي منطق سببي يقوم على تفسير جزئي واحد، ليكون نظرية تفسيرية عامة فى مجال سببية السلوك الإجرامى وعلة الجريمة". [أسباب الجريمة وطبيعة السلوك الإجرامي ص: 168].

[ومعلوم أن الجديد عندهم يرجى منه ما لا يرجى من القديم بسبب توافر البحوث والإمكانات التي سبقته، والأساليب الحديثة]..

الأمر الرابع:
أن المتتبع لتلك الأسباب التى ذكرها علماء الإجرام، يرى أن كثيراً منها يخالف الواقع فى كل أجزاء الأرض، حارّها وباردها، غنيها وفقيرها - سواء كان أصل أهلها مجرمين أو أسوياء، مرضى أو أصحاء، مهاجرين أو مستقبلين فى بلادهم للمهاجرين – بشرط واحد فقط وهو أن يطبق دين الله فى تلك الأجزاء من الأرض..

والشاهد على هذا ما كان عليه العرب فى الجزيرة، من التناحر والتقاتل والنهب والسلب والإغارة، بل وأد الأطفال أحياء..

فلما جاء الاسلام ودخلوا فيه، أصبحوا دعاة إصلاح وقادة خير، وأصبح منهم المهاجرون والأنصار الذين شهد التاريخ لهم بما لم يسبق له مثيل من الحب والإثيار والتعاون على البر والتقوى..

وهاجر الكثير منهم إلى بلاد الشرق والغرب، فاتحين فكانوا فى بلدان مختلفة الأجواء من حرارة وبرودة وغنىً وفقر، ومختلفة السلالات وبها من الجرائم ما لا يعد ولا يحصى..

ولكنهم ما إن وطئت أقدامهم تلك البلدان..

حتى شيدت المساجد وارتفع ذكر الله..

وعم الإخاء وثبت الإيثار والحب..

واختفت الجرائم؛ إلا ما لا بد منه بسبب فقد الإيمان أو ضعفة، عند بعض الأفراد أو الفئات كما سيأتي ذلك كله.

وإنك لترى شخصاً مجرماً في وقت غناه، فإذا سكن الإيمان فى قلبه تحول إلى محسن إلى الناس..

كما ترى آخر فقيراً مجرماً، فإذا خالط الإيمان قلبه أصبح زاهداً ورعاً..

وترى من ينتقل من بلده مهاجراً إلى بلد آخر وهو مجرم كذلك، فإذا خالط أهل البلد الذى هاجر إليه فتأثر بالإيمان، أصبح من أولياء الله..

وكذلك يهاجر الرجل المؤمن الصالح إلى بلد يكثر فى أهله الإجرام، فيؤثر فيهم فيتحولون إلى مصلحين.

وشواهد التاريخ على ذلك لا تحصى..

وهذا كله يدل على أن تلك النظريات المدعاة فى أسباب الجريمة غير صحيحة، بل إن الواقع التاريخى يخالفها..

ولعل فى هذا ما يكفي لننتقل إلى الفصل الثاني الذي هو مقصود هذا البحث.

والذي نتناول فيه أسباب الجريمة في ضوء الكتاب والسنة.. في الحلقات القادمة إن شاء الله..