كتبه: فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة : موضوع الدرس اليوم الورع فقد قيل في الورع : ترك ما يريبك ، ونفي ما يعيبك ، والأخذ بالأوثق ، وحمل النفس على الأشق .
وقيل : النظر في المطعم واللباس وترك ما به بأس .
وقيل : تجنب الشبهات ومراقبة الخطرات .
والورع أيها الإخوة : اجتناب عن الشبهات إما فعلاً أو تركاً ، فقد تفعل شيئاً من الورع ، وقد تدع شيئاً من الورع ، لكن بعض العلماء يرى أن كمال الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين ، وشر الشرين ، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح .
فقد قال بعض العلماء : الشريعة مصلحة كلها ، رحمة كلها ، حكمة كلها ، عدل كلها ، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة ، ومن العدل إلى الجور ، ومن الحكمة إلى خلافها فليست من الشريعة ، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل ، لكن الورع ليس في الواجبات ، وليس في الفرائض ، ولكن في المحرمات والمكروهات ، هناك ورع واجب ، وهو الإحجام عن المحرمات ، وهذا فرض ، وهناك ورع مندوب ؛ ترك الشبهات ، وهناك ورع من الفضائل ؛ هو الكف عن المباحات ، والاقتصار على أقل الضرورات ، وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
ورع فرض ، وورع واجب ، وورع فضل ، فالفرض ترك المحرمات ، والواجب ترك الشبهات ، والفضيلة أن تدع المباحات احتياطاً .
الورع أيها الإخوة ، متعلق أحياناً بالأعضاء ، فهناك ورع في النظر ، وورع في السمع ، وورع في الشم ، وورع في اللسان ، وورع في اليد ، وورع في البطن ، وورع في الفرج ، وورع في السعي ، وورع في الشراء والبيع ، وقد قيل : " ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط " .
هذه تعريفات ، لكن النصوص الشرعية وعلى رأسها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة يقول عليه الصلاة والسلام : ((فضل العلم خير من فضل العبادة)) .
[ أخرجه الطبراني في الأوسط والبزار عن حذيفة بن اليمان ] .
يعني إذا كنت متفوقاً في العلم أفضل ألف مرة من أن يكون العلم قليلاً والعبادة كثيرة ، ((فضل العلم خير من فضل العبادة) ، لأن العابد ينتفع لنفسه ، لكن العالم ينفع غيره ، العالم أمة ، أما العابد فهو واحد ، مع أن العبادة شيء ثمين جداً ، لكن لو وازنا العبادة مع العلم لكان العلم أفضل ، لكن لو وازنا العبادة مع المعصية ، العبادة قمة ، العبادة شيء ثمين جداً ، لكن لو وازنها مع العلم لكان العلم أفضل ، أما لو وازنها مع التفلت لكانت العبادة قمة الفلاح والنجاح ، يقول عليه الصلاة والسلام : ((فضل العلم خير من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع)) ، فأعلى درجة في الدين أن تكون ورعاً .
عن واصبة بن معبد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ((جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم فقال عليه الصلاة والسلام : جئت تسأل عن البر والإثم ، فقلت والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره ، فقال : البر ما انشرح له الصدر والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس وأفتوك)) .
[ أخرجه أحمد في مسنده ] .
كأن الله سبحانه وتعالى فطر الإنسان فطرة سليمة ، هذه الفطرة تكشف له خطئه ، فقد تنقبض نفسه من فعل معه فيه فتوى .
يقول عليه الصلاة والسلام : ((أيها الناس : اتقوا الله وأجملوا في الطلب ؛ فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب : خذوا ما حل ، ودعوا ما حرم)) .
[ أخرجه ابن ماجة عن جابر ] .
هذا من الورع ، من أمثلة الورع التي رواه النبي عليه الصلاة والسلام قال : اشترى رجل من رجل عقار له ، فوجد الرجل الذي اشترى العقار جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني ، إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب .
من يفعل هذا الآن ، قال : أنا اشتريت أرض ولم اشترِ منك ذهباً .
فقال الذي باع الأرض : إنما بعتك الأرض وما فيها ، فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه : ألكما ولد ؟ قال أحدهما : لي غلام ، وقال الآخر لي جارية ، قال : أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا .
كما سمعت بُني على هذا الحديث فلم كرتون ، للصغار ولقد لاق نجاحاً كبيراً جداً لو أن ما نعطيه للصغار مقتبس من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام لوجدت جيلاً غير هذا الجيل ، لكن حتى الذي يعطى للصغار ، يعطى فيه الفسق والفجور والإباحية والإلحاد ، ونحن في أمسّ الحاجة اليوم إلى مادة تقدم للصغار مقتبسة من دين هذه الأمة ، بينما الذي يقدم للصغار مقتبس من قيم ومبادئ بعيد كل البعد عن تراث هذه الأمة ، الآن يقول عليه الصلاة والسلام يطمئن الورعين : ((إنك لن تدع شيئاً ـ لن لتأبيد النفي ـ لن تدع شيئاً اتقاء لله عز وجل إلا أعطاك الله خير منه)) .
[ رواه أحمد عن قتادة وأبي الدهماء عن رجل من البادية ] .
وأنا أذكر دائماً أنه ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خير منه في دينه ودنياه .
((إنك لن تدع شيئاً اتقاء لله عز وجل إلا أعطاك الله خير منه)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ((أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث وحسن خليقة ، وعفة في طعمة)) .
[ رواه أحمد والطبراني وعن عبد الله بن عمرو وإسنادهما حسن ] .
العفة من الورع ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين)) .
[ رواه مسلم عن أبي هريرة ] .
هناك مقولة شائعة بين الناس : كلما طلبت من إنسان أن يكون مستقيماً ، قال لك: أنا لست نبياً ، ومن قال لك إنك نبي ، لكنك مؤمن ، وأنت مأمور أن تفعل ما يفعله الأنبياء ، إذا أمرنا الممرض أن يعقم الإبرة هل صار طبيبًا جراحًا ؟! لكن تعقيم الإبرة مكلف به أعلى طبيب في الأرض ، وأقل ممرض في الأرض ، وليس المعنى إذا طالبنا أن يعقم هذه الحاجة ارتقى إلى مستوى طبيب جراح ، لا ، يبقى ممرضًا ، فإذا كلفك الله عز وجل أن تستقيم ما معنى أنك نبي ، لست نبيًا ، ولا واحدًا بالمليار ، من آخر مؤمن ، لكنك مكلف أن تطيع الله عز وجل .
للتقريب : لو أن أعظم إنسان في الأرض ، عنده مستودع للوقود السائل ، هل يمكن أن يكون هذا المستودع غير محكم مستحيل ؟ وأفقر إنسان على وجه الأرض عنده مستودع للوقود السائل هل يقبل أن يكون هذا المستودع غير محكم ؟ الإحكام قضية حدية لكل الناس ، أما البذل والعطاء بحسب الوسع وبحسب الإخلاص والإيمان ، العطاء نسبي أما الاستقامة حدية .
أيها الإخوة : وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة ، وإن الكذب ريبة)) .
[ أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وابن حبان في صحيحه عن الحسن ] .
إذا تناول واحد منكم طعام الإفطار ، اشترى طعام بماله الحال ، والزوجة طبخت هذا الطعام ، وجلس هو وأولاده على هذه المائدة التي اشتراها من ماله الحلال ، وأكل ممكن تجد الإنسان في الأرض يأتي الشيخ ، ويسأله أنا هل فعلت شيئاً ، بالفطرة ما فعلت شيئاً ، لكن لا تسأل عن قضية إلا وأنت شاك فيها ، لمجرد أنك تسأل ففي النفس قلق ، يا ترى أنا على حق ، على باطل ؟ على صواب ، على خطأ ؟ فأنت مجبول جبلة راقية جداً حيث إنك إذا أخطأت نفسك تنبئك أنك أخطأت ، من دون إنسان آخر .
( سورة الشمس ) .
هذه الجبلة العالية ، هذه الفطرة ، الفطرة تكشف خطأك بنفسك ، بل إن هذه الفطرة مركبة في الحيوان والدليل : أن القطة خطفت قطعة لحمة تأكلها بعيدة عنك ، لأنها تعلم أنها أخطأت ، أما إذا أطعمتها قطعة لحم تأكلها أمامك ، ولا تهرب بها ، هذه بفطرتها أيضاً ، فأنت مجهز بطريقة عجيبة أنك تعرف خطأك بنفسك ، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن البر ، قال : ((البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) .
يقدِر بائع الحليب أن يضيف الماء إلى الحليب أمام الشاري ، مستحيل ؟ لأنه يضيفه خفية عنه فالعمل غير صحيح ، الحق تفعله تحت ضوء الشمس ، الحق تلقيه في الإذاعة الحق لا يستحي به ، ولا يخشى البحث ، ولا يحتاج أن تكذب له ، ولا أن تكذب عليه ، ولا أن تبالغ به ، ولا أن تقلل من خصومه ، الحق هو الله ، فالشيء الحق تقوله بملء صوتك وعلى مسمع الناس ومراهم ، وتحت ضوء الشمس ، الباطل يحتاج إلى أقبية ، إلى أمكنة مظلمة ، يحتاج إلى مواربة ، يحتاج إلى همس ، أما الحق تنطق به جلي واضحاً .
أيها الإخوة : من الورع طلب الحلال ، وطلب الحلال من الدين ، وطلب الحلال فريضة بعد الفريضة ، ملايين الطرق لكسب المال أكثرها محرمة ، ولحكمة بالغة بالغة بالغة ، جعل الله كسب المال الحلال صعباً ، وجعل كسب المال الحلال سهلاً ، الآن أربح تجارة على وجه الأرض ، المخدرات ، أحياناً الربح من بلد الزراعة إلى بلد الاستهلاك ألف ضعف ، الكيلو ألف بمكان زراعته مكان استهلاكه مليون ، ألف ضعف ، فقضية كسب المال الحرام قضية سهلة جداً ، الآن امرأة تعمل ثماني ساعات ما تأخذه العاهرة في دقائق ، فالحلال شاءت حكمة الله أن يكون صعباً امتحاناً للبشر ، تصور لو أن الحلال سهل والحرام صعب ، لأقبل الكفار على الحلال ، ما عاد في جنة التغت الجنة ، لكن الله جعل الحلال صعباً ، والحرام سهل ، غض بصر تأخذ خمس ملايين ، إذا كنت بمكان حساس ، غض بصره فقط ، مستودع تجاهله هذه خمسة ملايين ، في بضاعة خمسمئة مليون لأنه ، إذا تعمل مشكلة تبيعه كل شيء يملكه ، بس غض البصر تأخذ خمس ملايين ، فطلب الحلال واجب على كل مسلم ، يقول عليه الصلاة والسلام : ((اتق المحارم تكن أعبد الناس)) .
[ أخرجه أحمد في مسنده والترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة ] .
يعني قيام ليل ، وصيام أثنين وخميس ، وصلاة الضحى ، والأوابين ، والقيام والتلاوة ، والحفظ ، ومن لم يقرأ خمس ينسى ، لو أنك ورع وتترك المال الحرام تكون أفضل العابدين ، لذلك قال بعض العلماء : "ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام" .
دانق من حرام ، لأنك إذا كسبت المال الحرام هذا المال الحرام حجاب بينك وبين الله .
((اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)) .
هذه زوجتك ، دائماً ناقم على سوء اختياره لهذه الزوجة ، هذه زوجتك الله أكرمك بها .
((وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) .
لكن الورع الذي يرتقي إلى مستوى الواجب ، لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به ، حذراً مما به بأس .
هذا من أقوال النبي ، فما من أفعاله في الورع ؟ للنبي عليه الصلاة والسلام سيرة، وأحاديث ، سنة قولية ، وسنة عملية ، وسنة إقرارية ، فمن سنته العملية .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن على رضي الله عنهما أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : ((كخ كخ أما تعرف أنّا لا نأكل تمر الصدقة)) .