مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم العام > الخيمة السياسية
اسم المستخدم
كلمة المرور

 
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 20-07-2001, 07:14 AM
اعصار اعصار غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2001
المشاركات: 18
Post اخر الاخبار من جحيم المعتقلات السورية

كتبه الأخ صلاح.. في سورية جريمة كبيرة ترتكب علانية وبشكل جماعي، ولكن لا يجرؤ أحد أن يتحدث عنها، لأن الخوض فيها ـ بعرف النظام ـ جريمة أخري، فخلف حاجز الإرهاب والخوف الجماعي الذي شيدته أجهزة المخابرات عبر أربعة عقود من الزمان؛ يقبع آلاف المواطنين داخل السجون السورية في عزلة كاملة عن العالم الخارجي يتجرعون مرارة الظلم والقهر ويعانون من التعذيب اليومي ويسامون الذل والاضطهاد والحرمان... أغلب هؤلاء لا يعرفون تهمتهم ولا يعلمون مصيرهم، بل إن كثيراً منهم قد فقد الأمل بلقاء أهله وأصبح ـ بالرغم من وجوده ـ في عداد المفقودين. هذه قصة شاهد عيان علي الممارسات القمعية التي ترتكبها أجهزة الأمن في سورية ضد المواطنين، وقد وقعت أحداثها خلال الفترة 2001/6/22 ــ 2000/7/23، من عهد الرئيس الجديد بشار الأسد الذي كان يتحدث قبل أيام قليلة من اعتقال صاحب هذه القصة عن الحريات العامة و الشفافية و كرامة المواطن السوري . إنها لا تختلف كثيراً عن قصص آلاف المعتقلين، ولكنها تتميز بأن صاحبها قد امتلك الجرأة ليخرج من الصمت ويتحدث عن معاناته التي استمرت 11 شهراً في أقبية فرع فلسطين .
أجري الحوار د. بشير زين العابدين

تعريف السيد هلال عبد الرزاق علي عراقي الأصل من مواليد مدينة كركوك عام 1957 متزوج من سيدة سورية ولديه أربعة أطفال. يعرفه الكثير من الرياضيين؛ فهو لاعب كرة سلة محترف شارك في العديد من البطولات العربية والآسيوية... يتحدث باعتزاز عن مواهبه والشهادات التي حصل عليها كمدرب لكرة السلة من أمريكا وإيطاليا. يعيش هلال علي منذ فترة طويلة مع أسرته في بريطانيا، النواعير في مدينة حماة (أصبح اسمه فيما بعد نادي الجماهير) بخبرته الطويلة في مجال التدريب تعاقدوا معه للإشراف علي فريق كرة السلة لديهم، وسرعان ما صعد النادي إلي الدرجة الأولي لأول مرة منذ 13 عاماً مما شد انتباه محرري صفحات الرياضة في جريدة الفداء بحماة، وظهرت صور المدرب هلال علي خلال شهر آذار (مارس) عام 2000 كذلك في جريدة الرياضة الأسبوعية، وفي جريدة الثورة التي أجرت معه مقابلة مطولة حول تاريخه الرياضي. ظهره محنياً لأنه لم يكن قادراً علي التمدد طوال ستة شهور. إنه يحتاج لسنوات طويلة حتي يسترجع صحته، أما الآلام النفسية فإنها تلازمه بشكل دائم ولا يعلم إن كان سيستطيع التخلص منها في يوم من الأيام، فهو يعاني من فقدان التركيز، ويعاني كذلك من النسيان المزمن الذي كان رحمة له كلما تذكر أبناءه وأقاربه في السجن الانفرادي. ـ سألته: ماذا حصل بعد تقدمك بطلب الإقامة؟ تذكر بأنه كان يروي قصة اعتقاله، وعاد ليقول: المخابرات العسكرية بحماة في يوم الأحد 2000/7/23 اتصل بي شخص من إدارة المخابرات العامة وطلب مقابلتي بخصوص أوراق الإقامة التي تقدمت بـها، فقابلته في النادي حيث طلب مني جواز سفري وهوية زوجتي، وفي هذه الأثناء وصل ستة عناصر مسلحين من الأمن العسكري وطلبوا مني مرافقتهم فامتثلت لأمرهم، وعندما هممت بصعود السيارة صرخ ابني عبد الله: وين رايح بابا؟ لم أكن أملك إجابة واضحة ولكن أحد المسلحين تطوع بالإجابة عني: بابا بده يغيب شي ساعتين زمان وراجع . صاحبت العناصر إلي مركز المخابرات العسكرية بحماة والذي ,ولم يكن لدي كثير من المعارف في مدينة حماة. ثم أخذت أفكر لبرهة بأن احتجازي في هذه الغرفة قد يكون بسبب تشابه في الأسماء أو خطأ وقع فيه أحد المخبرين فلم أرتكب ـ في علمي ـ أي مخالفة للقانون، وترجح الظن لدي بأنهم يريدون أن يسألوني عن قريب زوجتي المدعو (أ). في هذه الأثناء كان الحراس يستفزونني بحمل أسلحتهم وينظرون إلي بأعين ملؤها التحدي والاستخفاف. ثم انقطع الصمت الطويل بدخول رجل متوسط الطول له شارب كبير، يلبس زياً مدنياً وقد علمت فيما بعد أنه العميد محمد الشعار. نظر إلي العميد بازدراء ثم سأل الحراس: هدا هو هلال؟ فقالوا: نعم سيدي عند ذلك سألني بفظاظة: بتعرف (ج)؟ فأجبته: لا ما بعرف (ج) . ثم خرج دون تعليق وبقيت أنتظر حتي طلبني العميد إلي مكتبه الواسع، فجلست قريباً منه، ولكنه انتهرني بعنف وأمرني بالجلوس بعيداً عنه في آخر الغرفة فامتثلت، وجلست حيث أراد. ثم أومأ إلي الحراس فأدخلوا قريب زوجتي وهو يرتجف من شدة الخوف، وقد قيدت يداه وغطيت عيناه بقماشة (يسمونها طماشة)، ودار بينهما الحوار التالي: ـ بتعرف هلال؟ ـ نعم سيدي ـ شو علاقته بـ (ج) ـ ماله علاقة سيدي ـ طلعوه لبره وهنا التفت إلي الضابط وقد نفد صبري، وقلت له ليس لي أي علاقة بالمدعو (ج) فما هو الداعي لاحتجازي هنا؟ فقال لي بأنني لست الشخص المطلوب، ولكنني سأبقي عندهم الليلة لاستكمال التحقيق، فذكرته بأن لدي أطفالاً وأقارب وهم قلقون علي ولا يعرفون مكان وجودي الآن، فلم يزد أن قال: اتفضل وبكرة منشوف شو بيصير وفي حركة سريعة اقتادني الحراس خارج الغرفة وقيدوا يدي وأخذوني إلي سجن الفرع حيث استقبلني سجان مرعب اسمه عمران، وكان صوته غاية في الخشونة فصرخ في وجهي بقصد التخويف: حقير... وقف منيح ولا ، ثم جرني إلي الزنزانة المنفردة رقم (4)، وأقفل من خلفي الباب. تلفت حولي فإذا هي زنزانة ضيقة في غاية القذارة وفيها مرحاض تنبعث منه روائح كريهة، فجلست علي الأرض وقد أسقط في يدي وعدت أسترجع الساعات الأخيرة التي مرت علي كأنـها كابوس مزعج وكلي أمل أن تنتهي في الصباح. كانت هذه هي المرة الأولي التي أسجن فيها، فقد أمضيت اغلب حياتي في الملاعب وفي طريق الاحتراف، بل إنني لم أذهب مرة واحدة إلي مركز شرطة ولم يكن لدي أي سبب لمخالفة القانون أو ارتكاب الجرائم، فقد كنت ميسور الحال وعندي أربعة أطفال أرغب في تربيتهم أحسن تربية، وأخذت الهواجس تنتابني حتي غلبني النوم فافترشت الأرض والتحفت بطانية قذرة ونـمت حتي الصباح. في صباح يوم الإثنين 2000/7/24، ابتدأ مسلسل الرعب الذي استمر دون توقف لمدة 11 شهراً فقد استيقظت علي أصوات مختلطة من الضرب والشتائم والأنين والاستغاثة، وعلمت بأنها أول نوبات التعذيب الوحشي الذي كان يتعرض له المعتقلون داخل الفرع. كان السجانون يأتون في الصباح الباكر ويفتحون أبواب الزنازين بعنف ويخرجون ضحاياهم مقيدين ومغمضي العيون ثم يسوقونهم كالخراف وأنا أنظر إليهم، وقد ارتعدت مفاصلي من شدة الرعب، ثم يبدأ الجلد بالأسلاك الكهربائية (الكيبلات) علي ظهورهم وسائر أنحاء الجسد دون تمييز، ويرتفع صوت الجلادين وهم يكررون نفس الأسئلة: مين بتعرف؟ ، شو علاقتك بفلان؟ ، إيـمتي شفته؟ . وأخذت أفكر كيف كان اعتقالي مثل اعتقال الكثير من هؤلاء؛ بناء علي دليل الهاتف الذي عثروا عليه عند قريب زوجتي فاتصلوا بي وأحضروني إلي الفرع، هذه الطريقة الجائرة نفسها هي التي أودت بحياة كثير من الأبرياء وغيبتهم لسنوات طويلة في غياهب السجون لا لجرم إلا أنـهم وجدت أسماؤهم وأرقام هواتفهم مكتوبة في دليل أحد المشبوهين. كنت أنتظر أن يأتي الجلادون ويأخذونني إلي التعذيب في أي لحظة، وبالفعل جاء أحدهم فأخرجني من الزنزانة و طمش عيني وقيدني وجرني إلي غرفة التحقيق حيث دخل أحد المحققين وأمر بفك القيد عني وأعطاني ورقة وقلماً لأكتب قصة حياتي كاملة! وعندما كتبت له قصة حياتي تناول الأوراق وأخذ يصحح ويشطب علي بعض السطور، ويضيف من عنده فاعترضت علي هذا الأسلوب، وعند ذلك قال لي: بدك تعلمني شغلي؟ وخرج من الغرفة ثم عاد ليخبرني بأن العميد قد انزعج لإصراري علي عدم الاعتراف، فأخبرته بأنه ليس لدي ما أعترف به، وهذا ما عندي، فأمرني أن أبصم علي ما كتبت، ثم عاود السؤال علي (أ) مرة أخري عن علاقتي بالمدعو (ج) فأجابه بأنه ليس هناك أي علاقة، وعندما تأكدوا من ذلك أعادوني إلي الزنزانة المنفردة وجلست هناك لمدة ثمانية أيام لم يكلمني فيها أحد. كان التعذيب يبدأ يومياً من الساعة الثامنة صباحاً ويتوقف عند الثانية، ثم يبدأ مرة أخري في الثامنة مساء حتي الحادية عشرة، ومع أنني لم أتعرض للتعذيب فإن صرخات المعتقلين وأنينهم كانت أشد من لسع السياط التي تصدر صفيراً مرعباً قبل أن تحط علي ظهور المساجين وهم يئنون من شدتها، ومع أنني كنت متماسكاً فقد لازمتني حالة عجيبة من الهلع، خاصة عندما أصيبت إحدي السجينات في زنزانتها الانفرادية بانـهيار عصبي وأخذت تصرخ بأعلي صوتها قبل أن ينقلوها إلي المستشفي. وفي يوم السبت 2000/7/29 جاء رئيس المحققين في الفرع الرائد غسان الجواد وأخذ يمر علي الزنازين وينظر إلي المساجين بداخلها حتي وصل إلي زنزانتي ففتح الباب وقال لي: إبني نحنا عارفين أنك بريء ومنتظرين خبـر من الشام حتي نفرج عنك اليوم أو بكرة . وعرض علي الانتقال إلي السجن الجماعي ففرحت لذلك وشكرته، ثم نقلوني إلي حيث أشار فوجدت نفسي مع خمسة من المساجين وأخذنا نتبادل أطراف الحديث فسألت كل واحد منهم عن تـهمته، وإليكم الجرائم التي ارتكبوها: ـ كان الأول قد امتنع عن التصويت لبشار الأسد في انتخابات الرئاسة فجروه إلي السجن وأخذوا يضربونه ضرباً مبرحاً لتمرده! ـ أما الثاني فقد ورد في إحدي تقارير المخابرات أنه قال: أهل حلب وحماة قبضايات لأنهم قاوموا ، كان شاباً صغيراً ولم يكن سنه قد تـجاوز أربع سنوات عندما اندلعت أحداث حماة، ومع ذلك فكان يتعرض للصعقات الكهربائية حتي يعترف بالذي علمه هذا الكلام! ـ وتـحدث الثالث بـحزن عن مكالمة هاتفية دارت بينه وبين أقاربه قال فيها بأنه سيذهب إلي القرداحة في وفد رسمي لزيارة قبر الرئيس الراحل، ولما سأله قريبه ماذا سيلبس، أجاب: كلسون أحمر ، ولم يكن يعلم بـمراقبة المخابرات لمكالمـته الـهاتفية فاعتقل في ذلك اليوم. وكان الجلادون ينفذون تعهدهم له بتحويل لون كلسونه إلي الأزرق من شدة التعذيب حتي يتوب! ـ وكان الرابع مسجوناً بسبب العثور علي جهاز للتنقيب عن الآثار في أرض يملكها. ـ واتهم الخامس ببيع السجائر المهربة. كانوا قد تعرضوا جميعاً لشتي أصناف التعذيب من الجلد والصعق الكهربائي، أما أنا فقد نـجوت من التعذيب ربـما بسبب توسط إدارة النادي لصالحي. بعد ثلاثة أيام في السجن الجماعي أخبرت بوصول البرقية من دمشق، وكنت أترقبها علي أحر من الجمر حتي أعود لأطفالي الذين افتقدوني ولم يعلموا أين ذهبت، وسرعان ما تلاشت آمالي عندما أخبرني المحقق بأنني قد طلبت في الشام وأن علي الذهاب إلي هناك لاستكمال التحقيق. عند ذلك أخرجت مقيداً مع ثلاثة آخرين وأركبونا داخل سيارتين في كل واحدة منها أربعة عناصر مسلحين ببنادق كلاشنكوف، ولما وقع الرائد علي أوراق تسليمنا بعد طول انتظار تحركت السيارتان باتجاه دمشق، وكان علينا أن نخفض رؤوسنا طول الرحلة، وكلما رفع الواحد منا رأسه كان الحارس يهوي علي رقبته بكل ما أوتي من قوة ويقول: نزّل راسك ولك كلب ، وبقينا علي هذه الحالة حتي وصلنا إلي فرع فلسطين. فرع فلسطين توقفت السيارتان عند بوابة كبيرة وسط سور عال، وانطلقت لمسافة 70 متراً عندما استطعت أن ألـمح عمارتين كبيرتين، ثم اعترضتنا بوابة أخري استوقفنا عندها الحرس وجردوا رجال الأمن من أسلحتهم، ثم أنزلونا نحن الأربعة من السيارتين وأدخلونا إلي مكتب مدير السجن وهو رجل بذيء اللسان ممتلئ الجسم حنطي اللون برتبة مساعد أول، اسمه أحمد، ويـمتاز بصوت شديد الخشونة. تفرس فينا المدير بنظرات ملؤها الحقد وصرخ فجأة: وقف منيح ولا حمار ... ثم أمر بنقلنا إلي غرفة مجاورة، حيث جلسنا ننتظر ونحن نعاني من حرارة الشمس وكثرة الصراصير، فطرقت الباب وطلبت أن أذهب إلي الخلاء فأجابني أحد الحراس هازئاً: استني شوي راح نحولك عالـميريديان ! بقينا ننتظر أربع ساعات بطولها ثم دخل علينا رجل لا يقل خشونة عن مدير السجن ليكتب بياناتنا الكاملة، ويأخذ أغراضنا إلي صندوق الأمانات، وعندما وصل إلي دار بيننا الحوار التالي: ـ شو اسمك ولا؟ ـ هلال عبد الرزاق علي ـ شو جنسيتك؟ ـ جنسيتي ولا أصلي؟ ـ جنسيتك ولك كلب ـ بريطاني فسكت لبـرهة ثم ذهب إلي مكتب المدير الذي استدعاني إلي مكتبه مرة أخري وسألني: ـ شو جنسيتك ولا؟ ـ بريطاني ـ م ـــ ك، أنت عراقي ، ثم خاطب الحراس: نزلوا هالكلب علي المنفردة (11) ! عند ذلك فقدت صبري وقلت له أي منفردة؟ وما هي تهمتي، ولماذا تعاملونني بهذا الأسلوب؟ ففوجئت به يصرخ بأعلي صوته: ولك خدو هالحمار علي المنفردة (11) ، ولم يكد ينتهي من عبارته حتي هجم علي عدد من الحراس وجروني بعنف خارج المكتب وهم يصرخون بي: نزل راسك ولا ، خليك ماشي عالحيط ، وأنزلوني بالسلالم إلي القبو حيث رأيت عدداً من الأبواب الحديدية علي جانبي الممر، وكانوا يركضون أمامي وخلفي حتي انتهينا إلي آخره ففتحوا أحد هذه الأبواب ورموني في المنفردة (11). المنفردة (11) أطرق السيد هلال علي لفترة وحاول أن يفهمني بجمل مبعثرة بأن كل الذي حكاه لي كان مقدمة قصيرة لفصول المعاناة الطويلة التي أمضاها في الزنزانة المنفردة لستة أشهر متوالية. كان طول الزنزانة 180 سم وعرضها 80 سم تنبعث منها رائحة كريهة ولا تصل إليها سوي كمية ضئيلة من التهوية والنور، ولذلك فقد أصبحت مرتعاً للقمل والصراصير. ولأن طول هلال 190 سم فلم يكن قادراً علي التمدد لمدة ستة أشهر فانحني ظهره وأصبح يمشي مشية عجوز تجاوز الثمانين من العمر. كان يتذكر الأحداث بصعوبة لأنه يريد أن ينسي هذه الحقبة السوداء من حياته، ولكن أنين المعذبين ومعاناة المعتقلين كانت تدفعه لأن يستحضر كل شاردة وواردة لأنه عاهدهم أن يخبر العالم بـما رآه ويستصرخ أصحاب الضمائر الحية للمساعدة في رفع المعاناة عن مئات المساجين الذين تم اعتقالهم ـ مثله ـ عن طريق دليل الهاتف دون سابق تهمة أو اشتباه. ارتـمي هلال علي أرض الزنزانة وجلس علي بطانية رطبة نتنة، وأخذت الهواجس تتلاعب به، فتذكر رحلته البائسة من حماة إلي دمشق، وطول الانتظار في فرع فلسطين وخشونة التعامل التي لقيها من الحراس. لقد أصبح اسمه من الآن فصاعداً: منفردة (11) والويل له إذا ذكر اسمه الحقيقي، وصار بين عشية وضحاها سجيناً مسلوب الإرادة لا يملك من أمره شيئاً، بل إنه فقد اسمه وأصبح رقماً آخر في عداد المفقودين داخل فرع فلسطين. لقد لازمه الشك بأن هنالك خطأ ما وسيفرج عنه حال تبين هذا الخطأ، ولكن لم يكن لديه أي قرينة تدعوه إلي التفاؤل ... وبقي علي هذه الحالة من التفكير العميق حتي غلبه الإعياء فتكوم في أرض الزنزانة ونام. ثم يتحدث هلال عن صباح أول يوم في الانفرادية: استيقظت وقد قرصتني حشرة في وجهي فتورمت عيني اليسري ولم أكن أعرف نظام السجن بعد، فطرقت الباب طرقاً متتالياً حتي جاءني سجان ضخم اسمه المعلم حسن، ففتح الباب وقال: شو بدك ولا؟ ، فقلت له: شوف عيني ، فنظر نظرة لم تكن تبعث علي الاطمئنان، وقال لي: قرب ولا ، وعندما اقتربت منه سدد لكمة قاسية علي عيني اليمني فسقطت علي أرض الزنزانة من شدة الألم، وأقفل الباب ورائي وهو يتمتم بأقذع الشتائم. ولم ينقض اليوم الأول حتي عرفت نظام السجن كاملاً، فلم يكن لنا أي حق في طرق الأبواب، وكانت الفرصة الرئيسة للسجانين كي يشفوا نزعتهم السادية هي خروج المساجين من الزنازين الانفرادية إلي الخلاء... كان هناك 19 زنزانة منفردة و4 مزدوجة وكان يتناوب 42 سجيناً علي حمامين ثلاث مرات في اليوم فيخرجنا الحراس واحداً واحداً بالركل والجلد ولم يكن يسمح للواحد منا أن يبقي أكثر من نصف دقيقة في بيت الخلاء. ولا بد من الاعتراف بأنني عندما خرجت للمرة الأولي أكلت نصيباً وافراً من الركل واللكم من قبل المعلم حسن، ولم أكن أجد أي مبرراً لذلك فاعترضت بصوت مرتفع وذكرته بأنني إنسان مثله، فصرخ في وجهي صرخة منكرة قائلاً: خراس ولك كلب، هلق بخليك تاكل الخ ــ تبعك ! وبسبب هذا التضييق وانعدام الماء والصابون فقد أصيب أكثرنا بالبواسير وكانت الدماء تغطي المرحاض، وإذا تأخر الواحد منا في الخلاء كان يخرج بالقوة ويجر إلي زنزانته بالركل والضرب. كانت كل زنزانة انفرادية قد زودت بوعاء (طاسة) للأكل والشرب، وبسبب الأذي الذي كان يصيبنا من السجانين في دخول الخلاء فقد اضطر الكثير منا لقضاء الحاجة في طاسته كلما اشتد المرض عليه، ثم يغسلها ويعاود استخدامها لطعامه من جديد. ولأنني لم أكن متهماً بالدرجة الأولي فلم أكن أتعرض لوجبات التعذيب التي كانت من نصيب السجناء الآخرين، ولكن سماع أصوات المعذبين كان أشد إيلاماً علي النفس من وقع السياط في كثير من الأحيان. كانت نوبات التعذيب تبدأ في الساعات المبكرة من الصباح وتستمر حتي الواحدة والنصف وهناك نوبة ليلية تبدأ من السابعة مساء حتي العاشرة، وقد تستمر حتي الثالثة بعد منتصف الليل. كنا نسمع شتائم الجلادين واستغاثة المعذبين وتوسلاتهم، وكنا نـميز طريقة التعذيب من تتابع أنين المعتقلين الذين يخضعون للتعذيب بواسطة الكرسي الألماني الذي يهشم العمود الفقري، والتعليق من أيديهم وضربـهم علي سائر أنحاء الجسد وهم عراة، وكذلك الجلد بالأسلاك الكهربائية السميكة. لازمتني حالة رعب شديد وكنت أخاف أن يأتي الجلادون في أي لحظة ويجرونني إلي غرفة التعذيب، وكلما سمعت وقع أقدام بالقرب من زنزانتي كانت ترتعد فرائصي، حتي أمضيت 11 يوماً علي هذه الحالة، ولم يفتح باب زنزانتي خلال هذه الفترة إلا لدخول الخلاء. كنت أنام وأجلس علي البطانية المتعفنة بفعل الرطوبة وانعدام التهوية حتي اسودت ملابسي وأصابتني الالتهابات الجلدية والأورام، حتي إن السجانين كانوا يتأففون من رائحتي كلما مروا بالقرب من زنزانتي، ولم تجد توسلاتي لهم بتغيير تلك البطانية القذرة. بعد انقضاء اليوم الحادي عشر في المنفردة جاء الجلادون وأصعدوني إلي غرفة التحقيق مطمشاً ، ثم دخل أحد المحققين فأمر بفك الطماشة، وأعطاني ورقة وقلماً لأكتب قصة حياتي من جديد! وعندما انتهيت من الكتابة ابتسم المحقق وبشرني بأنني لن أبقي في الفرع عندهم أكثر من أسبوعين، فرجوته أن يأمر بنقلي إلي المهاجع الجماعية لأنني لم أعد أحتمل السجن الانفرادي، فطلب مني الصبر، وقال لي: المنفردة أحسن لك . ثم أرجعت علي نفس الهيئة التي أتيت بها إلي زنزانتي المنفردة، ومكثت بها الشهور الستة التالية دون أن يكلمني أحد أو يحقق معي من جديد. كنت مريضاً بالقولون وأعاني من مرض الربو المزمن، وانتشرت الحساسية في جسدي كله، ومع ذلك فقد كان العلاج ممنوعاً عنا طوال فترة السجن. ونتيجة للمرض وفقدان الشهية فقد انخفض وزني 45 كيلو، وطال شاربي حتي غطي فمي، ولم يسمح لي بحلق شعري طوال هذه الفترة سوي مرة واحدة، أما اللحية فكانت تحلق أسبوعياً ولكن قص الشارب كان ممنوعاً، وكانت الحلاقة من أبرز المناسبات عند الجلادين لممارسة هواية التعذيب، فكانوا يضربون المساجين علي رؤوسهم ورقابهم والويل لمن يجرؤ علي فتح عينيه أثناء الحلاقة. وبالإضافة إلي هذه الحالة المزرية فلم يكن يسمح لنا بالاغتسال أكثر من مرة كل شهرين وكانت المياه حارة في الصيف شديدة البرودة في الشتاء، أما الملابس فلم يسمح لنا غسلها سوي مرتين طوال فترة السجن الانفرادي، ولذلك فقد تشققت بفعل تراكم العرق وكثرة الضرب. كان الكلام ممنوعاً طوال الوقت، وأي محاولة لقراءة القرآن كانت تقمع بأسلوب وحشي، وذات مرة تشجع السجين في منفردة (17) بقراءة بعض السور، ولما سمعه السجان حسن اقتحم عليه زنزانته وتناوله بالضرب المبرح وهو يقول له: والله ما تعيدها مرة ثانية لشخ بتمك ، وكذلك كان نصيب السجين الذي أخذته العبرة وهو يلح في الدعاء فسمعه أحد السجانين وأخذ يضربه علي سائر أنحاء جسده ويقول له: إذا سمعتك عم تدعي مرة ثانية لح أكسر راسك يا عرص . أما أنا فقد دفعت ثـمن نزعتي الإنسانية غالياً، عندما سمعت استغاثة مخنوقة من امرأة مصابة بالربو في مهجع النساء فطرقت باب زنزانتي حتي سمعت وقع أقدام السجان حسن وهو يصرخ: شو بدك ولا كلب ، فأعطيته بخاخ الربو الذي أحضرته معي من حماة وقلت له أعطه للمرأة المسكينة، ولم أكد أنتهي من قولي هذا حتي لكمني علي رأسي ثلاث لكمات أسقطتني علي الأرض وتتابعت بعدها الركلات والشتائم المقذعة، ولم أعد أعي شيئاً حولي إلا أنني سمعت المعلم حسن يقفل باب الزنزانة وهو يقول: ولك عامل حالك شريف يا عرص، نحنا ما عنا إنسانية هون ! أما صيغة الإعلان عن وصول الطعام فلم تكن تتغير أبداً... كان السجان رفيق يصرخ في أول الممر: يا كلاب ... الأكل اليوم (ويمد الواو) شوربة ورز ... كل واحد يدير وجهه علي الحيط ... واللي بشوفه مو داير وجهه لح (فعل قوم لوط) . كان الطعام غاية في القذارة وسوء الطبخ، وكنا نأكل مرق الدجاج دون أن نري الدجاج لأن السجانين ومساعدي مدير السجن كانوا يأخذونه قبل أن يصل إلينا، وكثيراً ما كنت أرفع الصراصير والحشرات الأخري عن الشوربة والمرق وأشربـها، أما إذا كانت الوجبة بطاطس مسلوقة، أو إذا قدم لنا التفاح (في المناسبات) فكانوا يرمونه علي رؤوسنا الموجهة نحو الجدار، وكنا نحظي ببيضتين طوال الأسبوع. وكان السجانون يخبئون الفواكه والخبز الطري فوق سقف المنفردة (1) لإخفائها عن المدير ويأخذونها معهم بعد انتهاء الدوام. كنا نعاني من البرد الشديد في الشتاء ومن الحرارة الخانقة في فصل الصيف ولم تتغير البطانيات القذرة التي ورثناها عن السجناء قبلنا طوال فترة الإقامة في السجن الانفرادي. وبالإضافة إلي انتشار القمل والصراصير، فقد كنا نعاني كثيراً من الجرذان التي كانت تقتحم عزلتنا هرباً من القطط الجائعة التي كانوا يرسلونها للقضاء علي هذه الجرذان، وكثيراً ما كانت القطط تظفر بصيدها في فتحات التهوية ونعلم بوفاة الجرذ حين يتقاطر دمه علي رؤوسنا ونحن نيام . ـ ابتسم هلال عندما سألته كيف كان يقضي وقته في السجن الانفرادي لمدة 180 يوماً متواصلة، وقال لي بأن: الشهر في الزنزانة مثل الشهرين والثلاثة والأربعة... تمر الساعات الطويلة ويتعاقب الليل والنهار ونحن علي حالنا. كنت أقاوم وأبحث في خلجات نفسي عن بصيص أمل وأعد الأيام عن طريق الحفر علي حائط الزنزانة، ولا أنسي عندما دخلت علي فراشة فأنست لها كثيراً وأخذت أكلمها وهي لا تجيب، وقد أصبت عدة مرات بهياج عصبي وكنت أصرخ بأعلي صوتي: لماذا تفعلون بي هكذا؟ ما هي تـهمتي بالتحديد؟ أنا ضيف عندكم في هذه البلد أهذه هي الطريقة التي تعاملون بها الضيوف؟ وكنا نختلس الساعات التي ينام فيها السجانون في آخر الليل فنتكلم فيما بيننا همساً، وبـهذه الطريقة استطعت التعرف علي عدد من المساجين في الانفرادية، وكنت آنس للحديث إليهم كثيراً. من قصص الزنازين المنفردة طلبت من هلال أن يحدثني عن بعض السجناء الانفراديين الذين جاورهم لمدة ستة أشهر، فكان يتذكر بحزن شديد معاناة السجين في الزنزانة رقم (19)، ومن سوء المعاملة التي لقيها من السجان (محمد) الذي كان يستمتع بضربه كلما جاء دوره للخروج إلي الخلاء، فقد كان يأمره أن يضع يديه خلف ظهره ويغمض عينيه ويرفع رأسه ... ثم تتردد أصداء صفعة قوية تنخلع لها قلوبنا، ولكن السجان الآخر في نوبته (رفيق) كان يضحك ويقول له: محمد ... ما سمعت !، فيتميز محمد غضباً ويشتم السجين قائلاً: يلعن أبوك يا ابن الكلب، ولك شلون هيك بتخجلني قدام صحابي؟ ، ويصفعه صفعة أخري لا تعجب صاحبه (رفيق) فيأتي هو ويقوم بنفس الطقوس السابقة، فيأمر السجين بوضع يديه خلف ظهره، وإغماض عينيه ورفع رأسه فيمتثل وهو يئن من شدة الألم، ثم يصفعه صفعة أشد من سابقتيها، ويضحك رفيق ضحكة المنتصر ويقول: هيك بدي ياك... روح شخ . وكانت هذه العملية تتكرر مع عدد من المساجين كلما جاء دورهم لدخول الخلاء. ـ أما السجين في المنفردة (13) فكان مصاباً بـمرض السكري ولم يكن يستطيع النوم دون أن يأخذ إبرة في المساء، وكان المسكين يتوسل إليهم يومياً لعدة ساعات أن يأتوه بالإبرة ولكن السجانين كانوا يتعمدون التأخر عن ذلك، ثم يأتي أحدهم آخر المطاف مصراً علي أن يعطيه الإبرة بنفسه فنسمع صرخات شديدة من جراء الطعنة التي يلقاها من السجان وهو يقول له: خود... يلعن أبوك عرص ، وقد استمرت هذه المأساة بصفة يومية طول إقامتي في السجن الانفرادي. ـ المنفردة (16) كانت هذه الزنزانة تتميز عن غيرها برائحة نتنة تزكم الأنوف، ولم يكن يسمح لنزيلها أن ينظف زنزانته أو حتي أن يغتسل أو يغسل ملابسه، وكان كلما خرج للخلاء يعيره السجانون برائحته الكريهة ويبصقون علي وجهه وهو صامت لا يتكلم. ـ المنفردة (17) نزيلها المدعو (ج) نفسه، كان الجلادون يخرجونه للتحقيق يومياً ويتعرض لـمختلف أنواع التعذيب الذي لم ينقطع عنه يوماً واحداً طوال الأشهر الستة التي قضيتها في الانفرادية. يتبع غدا ----------------------------------------------------------------- الرياضي العراقي هلال عبد الرزاق علي يروي قصص التعذيب في فرع فلسطين اشهر سجون دمشق غ 2 ـ 2 ف اشد انواع التعذيب كانت من نصيب مجموعة حاولت تهريب الاسلحة لدعم الانتفاضة الفلسطينية هلال عبد الرزاق علي (44 عاما) عراقي يحمل الجنسية البريطانية، لاعب كرة سلة محترف، شارك بالعديد من البطولات العربية والاسيوية، تعاقد مع نادي الجماهير الرياضي في حماة للاشراف علي فريق النادي لكرة السلة. بعد فترة قصيرة من اقامته في مدينة حماة وبتاريخ 2000/7/23 اعتقلته السلطات السورية لوجود اسمه في دليل هاتف احد المتهمين. وبقي في السجن حتي 2001/6/20، رغم قناعة السلطات بعدم مخالفته لاي قانون، ورغم اتصالات السفارة البريطانية في دمشق واستفساراتها المتكررة، لكن السلطات السورية كانت تؤكد للسفارة ان اسمه غير موجود لديها. عاد هلال الي لندن يوم 22 حزيران (يونيو) الماضي، وكان حاملا معه امانة من زملائه بالسجن بأن يبلغ العالم بمعاناتهم. وفي ما يلي الحلقة الثانية والاخيرة من رحلة المعاناة التي عايشها هلال في فرع فلسطين وهو اشهر سجون دمشق. أجري الحوار د. بشير زين العابدين في أواخر شهر كانون الثاني (يناير) عام 2001، ساقني الجلادون إلي غرفة التحقيق مرة أخري، ولما دخل المحقق سألت ألـم ينته التحقيق بعد؟ ، فأجابني ببرود بأنني لست متهماً ولذلك فقد ابتدأوا بالأشخاص المهمين، وقد احتاجوا لوقت طويل حتي يأخذوا جميع أقوالهم، ولكنه طمأنني بأنني سأخرج عن قريب. كانت هذه هي المرة الأولي التي أخرج فيها من قبو فرع فلسطين، وكان شكلي مرعباً للغاية، فقد طال شاربي حتي غطي فمي بأكمله، ونقص وزني وتغيرت ملامح وجهي، وماتت كثير من خلايا جسمي فلم أعد قادراً علي المشي أو حتي الوقوف، فاستأذنت المحقق أن أجلس علي الأرض، وجلس هو علي الكرسي فسألني نفس الأسئلة التي وجهت لي قبل ستة أشهر: اسمي وعملي وعلاقتي بـ (ج)، ولما لم يجد عندي جديداً قال بهدوء: يالله روح ، فتوسلت إليه أن ينقلني علي المهاجع الجماعية لأنني لـم أعد أحتمل السجن الانفرادي، فأخذ رقم زنزانتي وأمر بإعادتي إلي المنفردة، وبعد تسعة أيام صدرت الأوامر بنقلي إلي المهجع رقم (4) فخرجت مع السجانين إلي المهجع المذكور، ولما فتح الباب خرجت رائحة كريهة ونظرت داخل الزنزانة فإذا هي مملوءة عن آخرها، وتضايق المساجين الستة والأربعون من رؤيتي لأنني كنت سأشاركهم هذا المكان الضيق (4 ـ 5م). ولم أتمالك نفسي من الصراخ: رجعوني علي المنفردة... رجعوني علي المنفردة ، فدفعني السجانون إلي الداخل وأغلقوا الباب. كان المنظر في الداخل كئيباً للغاية، فلم يكن المكان يتسع لجلوس الجميع فاضطر بعضهم للوقوف، ولكنني فرحت كثيراً عندما علمت بوجود حمام داخل الزنزانة، فاغتسلت ثم حشرت نفسي داخل هذه الـمجموعة، وكان أول سؤال يوجه إلي هو سبب سجني، فأجبتهم بأنني لـم توجه إلي تـهمة، وسأخرج خلال أسبوعين علي أبعد تقدير، ولم أكن أعلم بأنني سأقضي الأشهر الخمسة القادمة في هذا المهجع الكئيب. تغير حالي كثيراً في المهجع فصرت آكل وأشرب وآنس إلي المساجين وأقضي الساعات الطويلة في التحدث والاستماع إلي المآسي التي يروونها. من قصص المهجع ـ طلبت من السيد هلال أن يحدثني عن التهم الموجهة إلي المساجين في فرع فلسطين، فأطرق لبرهة وأخذ يذكر قصصهم بالتفصيل، وقال لي: ـ أتذكر سليمان الذي قضي أحد عشر شهراً في المهجع، ولم يكن وحده فقد كانت معه والدته (عمرها سبعون عاماً) في مهجع النساء. كانت تـهمتهم أن أحد أقاربهم في الخارج اتصل بهم هاتفياً وسألهم عن حالهم بعد موت حافظ الأسد، أجابوا بديهة: مكيفين ، وكانت هذه الكلمة كفيلة بجرهم إلي السجن. ـ أبو أيـمن من اللاذقية، رجل كبير في السن عمره 67 عاما، كانت تـهمته أنه قابل أحد الـمنتسبين إلي جماعة الإخوان المسلمين أثناء رحلته إلي الحج في أوائل الثمانينيات وأعطاه ذلك الرجل مبلغ 500 ريال لإحدي الأسر المحتاجة في سورية، وبعد مرور سنوات طويلة قرر ذلك الشخص أن يعود إلي سورية فذهب إلي السفارة في الدولة التي يقيم فيها وسجل جميع اعترافاته وذكر اسم أبو أيـمن في اللاذقية، وأنه طلب منه توصيل المبلغ المذكور. وعندما أبرقت السفارة إلي دمشق كان المسكين أبو أيـمن يعالج في المستشفي جراء جلطة أصابته، ولم يكن المرض ليشفع له، فقد تم جره من المستشفي إلي فرع فلسطين لاستكمال التحقيق! ـ محمد شاهر شاب من مدينة حماة متزوج ولديه سبع بنات، وكانت تهمته الدعوة إلي الكتاب والسنة في صفوف الشباب. عندما رأيته كان قد قضي سنة ونصفاً، وكان أحد الجلادين قد دأب علي وضع رأسه في المرحاض وتـمريغ وجهه بحذائه العسكري ومسح شعره بالنجاسة، ونتيجة لتكرر هذا الأسلوب الوحشي فقد جرحت وجنته ولم يعد ينبت الشعر في أجزاء من لحيته وشاربه. ـ وكانت هنالك مجموعة (حوالي 28) من الشباب السوريين والفلسطينيين الذين تجاوبوا مع الانتفاضة الفلسطينية فقاموا بمحاولة فاشلة لتهريب بعض الأسلحة إلي الأرض المحتلة عبر الحدود الأردنية، حيث ألقي القبض عليهم، وكنا نستغرب أن يتميز هؤلاء عن غيرهم بأشد أنواع التعذيب في قلعة الصمود والتصدي، وتـحديداً في فرع فلسطين ! ـ وكانت هنالك أيضاً مـجموعة من العراقيين الذين حاولوا التسلل عبر الحدود السورية ليذهبوا إلي لبنان، ومنه إلي أوروبا، وقد فر هؤلاء المساكين من الحصار والضيق الاقتصادي في بلدهم ليعانوا من الويلات في بلدهم الشقيق. ـ وأذكر من المساجين أيضاً رجلاً تم القبض عليه بتهمة بيع أشرطة إسلامية أمام أحد المساجد، وبالرغم من أن الأشرطة مصرح بها فقد تم اعتقاله، وكان يتعرض كذلك للتعذيب. ـ ولا أستطيع أن أنسي رجلاً كان معنا اسمه نعيم، وكانت رجله مقطوعة، وتهمته أنه قد ساعد في محاولة تهريب الأسلحة عبر الحدود السورية إلي الأردن، ومنها إلي فلسطين. لقد كان الجلادون يضربونه علي رجله المتبقية، ولقد رأيت بأم عيني اللحم يتساقط منها عندما يعود من حفلة التعذيب، وكنا نحمله إلي الخلاء، وبالرغم من تورم رجله وانتفاخها فقد كان يستدعي الـمرة تلو الأخري لسحب المزيد من الاعترافات منه، ولم يكن هناك شيء أشق علي نفوسنا من حمله كل يوم وتسليمه إلي الجلادين الذين كانوا يسحلونه إلي غرفة التعذيب، ثم نسمع صياحه وتوسلاته واستغاثته. وكان معنا عقيد سابق في الجيش السوري، وكان كبيراً في السن ومصاباً بضعف في القلب، وقد منع السجانون عنه الدواء فكان يتوسل إليهم بأن يحضروا له نوعاً من الحبوب التي يضعها تحت لسانه ولم يكونوا يستجيبون له، وذات مرة سقط علي أرض الزنزانة وخرج الزبد من فمه فطرقنا الباب وأخرجناه محمولاً إلي الممر، فكان السجانون يركلونه ويقولون له: قوم يا عرص ... لو عملت شو ما عملت ما في دوا ، ولما طال به الحال أحضروا الممرض الذي فحص ضغطه فوجده في حالة خطيرة فرفعوه، وجاءوا بعد فترة فطلبوا ملابسه وأغراضه، وقيل لنا بعد ذلك أنه قد انتقل إلي رحمة الله، وبالرغم من حزننا عليه فلم نجد أي شعور بالشفقة أو الذنب عند هؤلاء الجلادين الذين كانوا يقولون لنا بعد ذلك والله غير تموتوا كلكم هون متل هالكلب . هذه هي الحالة التي كنا عليها طوال الأشهر الخمسة التي قضيتها في المهجع؛ كنا نزدحم مثل قطيع من الأغنام في زنزانة لا تتسع لنصفنا نتبادل الأدوار في النوم فيقف بعضنا وينام الآخرون، وفي فصل الصيف كان يتطوع بعضنا للقيام بعملية التهوية بملابسهم القذرة، وكان الجلادون يأتون بين الفينة والأخري وينادون باسم الضحية فيتقدم من بيننا خائفاً مرتعشاً، ولا نلبث أن نسمع صياحه وأنينه من غرفة التعذيب، ومن سوء حظنا أن فتحة تـهوية المهجع كانت تطل علي غرفة التعذيب فكنا من خلالها نتمكن من معرفة ما يقع علي إخواننا من البلاء. صور من التعذيب ثم ينتقل هلال للحديث عن التعذيب في فرع فلسطين، وما يسببه ذلك له من كوابيس مفزعة، فقد كان الجلد بأسلاك الكهرباء الرباعية (الكيبلات) أمراً اعتيادياً، ولم ينج منه أحد قط، ولكن أصحاب التهم الخطيرة كانوا يتعرضون لنوع آخر من التعذيب أبرزها الكرسي الألماني الذي يثبت عليه السجين ثم يرجع به إلي الخلف حتي يصبح رأسه قريباً من رجليه فيفقد وعيه من شدة الألم، وكثيراً ما أصيب المساجين من جراء ذلك بآلام مزمنة في الظهر، وعندما يعود إلينا زملاؤنا في المهجع بعد جلوسهم علي هذا الكرسي كنا نمددهم علي الأرض وندلك ظهورهم، ويبقون متمددين علي حالهم أياماً طويلة بسبب عجزهم عن الوقوف أو المشي. وكان الجلادون يستخدمون الدولاب فيخرجون رأس السجين مع يديه ورجليه ويبقي في الطرف الآخر ظهره ومؤخرته ويضرب بعد ذلك بالعصي حتي يعترف علي نفسه بكل ما يملي عليه. وكثيراً ما كان يشتكي زملاؤنا في المهجع من تعليقهم مثل الخراف وتعريتهم وضربهم علي جميع أنـحاء الجسد، ولم يكن الضرب أشد إيلاماً من تحمل الرسغ لسائر ثقل الجسم، فيعود السجين إلي زنزانته وهو غير قادر علي تحريك يديه وقد يستمر علي هذه الحالة لبضعة أيام. كنا نعرف طريقة التعذيب من تتابع صياح الضحية، ثم ينزل المسكين ويحكي لنا ما فعل به الجلادون، وكثيراً ما كانوا يأخذون المعتقل ويبقونه واقفاً طول النهار وهو مقيد ومغمض العينين خارج غرفة التحقيق، ثم يخرج المحقق ويقول له: انزل ولك كلب، بكرة منشوف شغلنا معك فينـزل مرة أخري تحت ضرب الجلادين وركلهم حتي يدخل الزنزانة. مهجع النساء يقدر هلال بأن عدد السجينات في مهجع النساء كان حوالي 14 امرأة، وكان بعض النساء يصطحبن أطفالـهن فكان في المهجع طفل عمره خمس سنوات وبنت عمرها أربع سنوات وأخري عمرها 11 سنة كانوا يرون أمهاتهم يشتمن بأقذع الألفاظ الفاحشة التي يندي لها الجبين ويسمعون أصوات التعذيب، وكنا نرق لبكاء الأطفال الذين يذكروننا بأبنائنا فلم يكن أحد منا يعرف حال أهله بعده لانعدام الصلة والانقطاع عن العالم الخارجي. كانت هناك طفلة عمرها 16 سنة حافظة للقرآن الكريم وأخري عمرها 17 سنة جيء بـهما مع والدهما، وكانت هناك امرأة متزوجة منذ خمسين يوماً جيء بها وهي حامل، وأذكر أنني سمعت صوت ثلاث نساء يسقطن، وكانت النساء تصرخ بطلب الطبيب، فيجيبهن السجان: شو دخلني أنا... هاي شغلتكن أنتو النسوان... اتصرفوا ، ولم تكن تجدي فيه الاستغاثة والولولة والعويل الذي يستمر لفترة طويلة ثم ينقطع بالتدريج. لقد ماتت الشفقة والرحمة في قلوب هؤلاء السجانين الذين لم يكونوا يميزون بين رجل وامرأة وطفل، فقد وضعت البنت ذات الستة عشر ربيعاً في إحدي الزنازين المنفردة، وكان أحد السجانين يفتح عليها الباب دون إذن فتصرخ لكرامتها، ولما تكررت هذه الحادثة هب المساجين من الزنازين المنفردة والمهاجع وأخذوا يطرقون بأيديهم العارية علي الأبواب الحديدية غضباً لهذا الاستهتار حتي نزل العميد وعدد من الضباط ونقلوا البنت إلي مكان آخر. وعندما استطعنا التواصل مع مهجع النساء عن طريق أنابيب التمديدات الصحية كانت هذه البنت المسكينة تطلب والدها وتبكي بكاء حاراً يقطع قلوبنا وتشتكي له من السجان (شادي) الذي كان يصفعها علي وجهها ويفحش في السب والشتم، ولا يزال صوتها يرن بأذني وهي تقول بصوت طفولي بريء: بابا... بابا... هدا الحارس (شادي) عمبيضربني وكل المساجين يشاركون والدها البكاء من قلة الحيلة والهوان. وقد حدثني بعض المساجين بأنـهم رأوا إحدي النساء في غرفة التحقيق وقد عراها الجلادون وهي تستر ما تستطيع بيديها وتولول وتستغيث. وكان مهجع النساء يستقبل بين الفينة والأخري بعض النساء المتهمات بالدعارة وتلقي النساء الأخريات من سوء خلقهن الكثير، وكان السجانون يفتحون باب المهجع النسائي ليتلذذوا بمشاهدة رقص هؤلاء النساء ونحن نسمع كل شيء، وإذا اشتكت أي امرأة محتشمة من ذلك كان الحارس يصرخ بـهن: اخرسوا يا كلبات، هي أشرف منكن كلكن . بل كانوا يتعمدون الإساءة إلي المرأة التي تحافظ علي سترها وينعتونـها بأقذع الشتائم، وكنا نسمع ولا نستطيع أن نحرك ساكناً. الفساد يتكون قبو سجن الفرع من ممر طويل فيه 10 مهاجع جماعية (4 ـ 5م)، و19 زنزانة انفرادية (80 ـ 180)، و4 زنازين مزدوجة بحجم المنفردة مرتين، وكان توضع في بعضها 8 سجناء، ولا ندري كيف كانوا يجلسون أو ينامون فيها، بل إن أحد المساجين قد قضي في المزدوجة سنة ونصف يشاركه سبعة آخرون في كثير من الأحيان. وكان هناك عدد من المهاجع في الطابق الأرضي. كان مدير السجن برتبة مساعد أول واسمه أحمد، وله ثلاثة نواب: شادي وحاتم وأبو عصام، وكانوا غاية في السوء والفظاظة ولم تكن الألفاظ البذيئة والفاحشة تغادر ألسنتهم علي الإطلاق، أما الحراس فكانوا ثلاث مجموعات من خمسة سجانين، تسمي نوبات، مرتبة علي النحو التالي: ـ نوبة المعلم أبو سومر ومعه: رامز، وعلي، وخصيم (أبو غضب)، وسامر. ـ نوبة المعلم حسن ومعه: إبراهيم، ورفيق، ومحمد، وأحمد. ـ نوبة المعلم محسن ومعه: سامر، وعلي، وحسام، وجمال. وقد كانت هذه المجموعات الثلاث تتناوب علي حراسة الزنازين. وقد تم اختيار هؤلاء السجانين بدقة متناهية فكانوا جميعاً من أبناء الطائفة الحاكمة ومن أصحاب السوابق الذين يمتهنون الأعمال الدنيئة، وكانوا علي درجة عالية من الغلاظة وسوء الخلق فيشتمون بعضهم البعض بألفاظ نابية ويتلذذون بتعذيب المساجين ويتسابقون في أذيتهم. لقد كان السجن هو مصدر رزقهم الوحيد، ونشأت عن هذه الحاجة سوق رائجة لا يعرفها إلا من دخل فيها والعياذ بالله: ففي المرحلة الأولي يتعاون المدير مع عصابات أمنية في الخارج لمساومة أهالي السجين علي أغلي ثـمن لقاء زيارته، وكانوا يقتسمون هذه المبالغ فيما بينهم كل حسب النسبة المتفق عليها. وقد علمنا بأن المدير كان يحصّل 5000 ليرة سورية عن كل زيارة من خلال عصابة تتعاون معه خارج السجن. ثم يسلم الأهالي مدير السجن الأموال والألبسة والمأكولات التي أحضروها لأبنائهم فيقتسم الغنيمة مع الحراس ولا يصل للسجين من ذلك إلا القليل؛ فإذا ترك الأهالي خمسة آلاف ليرة يقتطع المدير منها ثلاثة آلاف ويقول للسجين بابتسامة خبيثة: تركولك أهلك ألفين ليرة ، ولا يستطيع السجين أن ينبس ببنت شفة. وطالما كنا ننظر إلي السجانين وهم يتخاطفون الكباب والحلويات ويأكلونها بشره وهم يتضاحكون بينما لا يصل إلي السجناء منها شيء. وكان يسمح لنا بشراء بعض المواد الغذائية مرة في الشهر فنشتري الجبن والشاي والسكر والسجائر والصابون، وكانوا يسمون هذه المناسبة: ندوة ، ثم نوقع تـخويلاً للمدير بصرف المبلغ المطلوب من أموالنا في عهدته، وتسمي: الأمانات ! وكانت هذه فرصة كبيرة للنهب والسرقة فهناك نـحو 500 سجين في فرع فلسطين، فيعمد مدير السجن الي تسجيل البضائع بأسعار مضاعفة ويأخذ الفرق علي حساب المعتقلين. أما السجانون فكانوا يرغموننا علي شراء ما يحــــتاجونه هم، وعند تسليم البضائع كان السجانون يتجــــمعون علي باب الزنزانة ويتـــخاطفون ما يريدونه والويل لـمن يعترض عليهم من المساجين، وأذكر أنني اشتريت علبتين من جبنة البقرة الضاحكة ولم يصلني منها عند التسليم سوي ثلاث مثلثات من العلبة الثانية! بل إن السجانين كانوا يشربون الشاي ويستخدمون السكر والصابون الذي نشتريه ويقولون لنا: إزا جعتوا أنتو نحنا منجوع . أما المحنة التي مرت بها أسرتي فهي خير مثال لما يتعرض له أهالي آلاف المعتقلين في سورية، فقد استطاع أحد السجانين أن يتعرف علي عنوان أهلي في حماة، فكان يذهب إليهم بنفسه ويدعي بأنني طلبت منه أن يحضر إلي بعض الأموال، واستطاع بهذه الطريقة أن يسرق منهم أكثر من مائة ألف ليرة سورية حتي اضطرت زوجتي لبيع حليها، وأخذ منهم كميات كبيرة من الأجبان والزيتون والمرتديلا والأدوية والملابس، وكان كلما تأخر عليه أقاربي في الدفع يلفق الأكاذيب عن حالتي في السجن ليستدر عطفهم ويحثهم علي بذل المزيد، ولم يكن يخجل من زيارتهم وهو يرتدي الملابس التي أرسلوها لي في زيارته السابقة لهم، ولما علموا بفساد نيته وسرقته انقطعوا عنه، فجاء إلي واعترف لي ببعض ما فعل فغضبت لذلك وصرخت، ولكن لم يكن لي حيلة وأنا خلف القضبان، أما ســـــبب اعترافه فهو رغبته في تـــــاوني معه لأخذ المزيد، فقد أعطاني ورقة وقلماً وطلب إلي أن أكتب رسالة لزوجتي حتي تتأكد أنه مرسل من قبلي، ولما امتنعت أخذ يخبرني أخباراً سيئة عن زوجتي وأولادي. وعندما فقد الأمل من الاستمرار في لعبته انتقم لكرامته المهدورة عن طريق إخبار زوجتي بأنني قد قتلت تحت التعذيب فخرت مغشياً عليها وقضت في المستشفي عدة أيام. ولكن التجارة الحقيقية كان يمارسها رجال أكبر من السجان، فقد عرض بعضهم علي والد زوجتي الإفراج عني لقاء مبلغ مليوني ليرة سورية، فاجتهد في جمع المبلغ، ولكنه انتقل إلي رحمة الله بعد أن أصابته سكتة قلبية من شدة الحزن، وكان ضعيف الجسم لا يقوي علي مواجهة الضغوط التي كانت تـمارس عليه. وللقارئ الكريم أن يتصور حالة أسرة واحدة من آلاف الأسر نكبتها أجهزة الأمن السورية؛ فالزوجة في المستشفي ووالدها في القبر وزوجها في السجن وأولادها يبكون في الليل والنهار لا يعرفون سبب ما حل بـهم من بلاء، ومع ذلك فالعصابات الأمنية تبتزهم إلي آخر لحظة، وكل واحد منهم يطلب نصيبه من الغنيمة دون أن تعرف الشفقة والرحمة سبيلاً إلي قلوب هؤلاء. أما في المهجع فقد كان علينا تحمل نفقات سفر المساجين الذين أفرج عنهم فكان المساعد أول أحمد يطلب منا أن نتبرع بثمن توصيل زميلنا إلي مـــــنزله، فيجمع المدير عشرة أضعاف ثمن التوصيل ويحتفظ بالباقي لنفسه. ولما اشتد علي مرض الربو جاء المعلم محسن وهو يوبخ المساجين علي قسوة قلوبهم وعدم تبرعهم لي بالدواء، وهب المساجين كل يدفع ما يستطيعه من صندوق الأمانات، ومع ذلك فلم يصلني أي دواء وعلمت فيما بعد بأن المعلم محسن كان يأخذ هذه الأدوية ويتاجر بـها في الخارج! ويمكن سرد مجلدات من قصص المآسي المروعة التي كانت تحدث في وقت الزيارة، فبعد انقطاع أشهر طويلة بل وسنوات يسمح مدير السجن للأهالي برؤية ذويهم شريطة أن يدفعوا المبالغ اللازمة، وعندما يصل الأهالي لا يسمحون لهم برؤية أبنائهم أكثر من دقائق معدودة، وكانت النساء يتعرضن للإساءة والمهانة من قبل الحراس الذين لا يمكن اتقاء شرهم إلا بدفع المبالغ المجزية لهم، وقد أصيب أحد نزلاء المهجع واسمه خليل محسن بانهيار نفسي بعد زيارة أهله له، فقد كان والده المقعد يتوسل إلي الحراس أن يسمحوا له بتقبيل ابنه للمرة الأخيرة قبل أن يموت، ولم يسمحوا له بذلك بل جروا ولده الماثل أمامه من خلف الشبك إلي مهجعه. الإفراج مرت خمسة أشهر في المهجع دون أن أقابل أحداً من المحققين، وفي أواسط شهر حزيران (يونيو) الماضي استدعيت إلي إدارة السجن وأخبرني المحقق بأن السفارة البريطانية قد تدخلت بقوة للإفراج عني وبأن السفير قد اتصل بهم عدة مرات وتحدث إلي مجلس الأمن القومي وضغط عليهم ليفرجوا عني ما دمت لم أرتكب أي مخالفة للقانون. غمرتني سعادة عارمة وهرعت إلي زملائي في المهجع وأخبرتهم الخبر ففرحوا لي فرحاً شديداً وأخذ بعضهم في البكاء لقرب مغادرتي لـهم. وفي يوم الأربعاء 2001/6/20 استدعيت إلي الإدارة من جديد ولقيني محقق كبير في السن فتحدث معي بلطافة لم أعهدها، ودار بيننا الحوار التالي: ـ لا تكون زعلان علينا ؟ ـ هلكتوني والله ـ وأنت لا تقول أنك مو غلطان ! ـ وشو غلطي؟ ـ ليش بتتعرف علي هيك أشكال؟ !!! ـ والله ما بعرفه ـ فقال بضجر: خلص ... خلص ... اليوم منطلعك، لا تخاف . ثم نزلت إلي المهجع، وقال لي الحرس: ضب غراضك ، وبعد ساعتين نادوا باسمي وأصعدوني مرة أخري، حيث بصمت علي مجموعة أوراق لا أدري ما هي، ورمي إلي مدير السجن جواز سفري وهوية زوجتي وحوالي 150 ليرة، وصرخ بالحراس بغيظ وكأنه قد انقطع رزقه بخروجي: ارموه بالتشميسة ، ثم وصلت السيارة التي ستقلني إلي الجوازات، وجاء السجان أحمد بوجه يختلف عن الذي عرفته به خلال الأشهر الماضية قائلاً بلطف: شو هلال ... ما بدك تعطينا شي؟! فأجبته ما بقي عندي شيء فتفحصني إلي أخمص قدمي وقال بوقاحة منقطعة النظير: طيب هات هالساعة من إيدك لشوف ! فتمنعت عنه، ولم يغادرني حتي جاء أحد المحققين ليبلغني الرسالة الأخيرة، فأعلن لي بصوت مرتفع وبكل ثقة: إزا فتحت تـمك منعرف شلون نجيبك مرة تانية !!! ثم غادرت السيارة إلي قسم الهجرة والجوازات، حيث أدخلت مقيداً إلي غرفة العميد وكان القنصل البريطاني وبعض أعضاء السفارة حاضرين، فسألتهم بحرقة: لماذا تأخرتم طوال هذا الوقت؟ فقال لي القنصل: كنا نبحث عنك ونسأل السلطات السورية، ولكنهم كانوا ينفون وجودك عندهم وأخرج لي ملفاً كبيراً فيه مراسلات تـثبت بأنهم كانوا مجتهدين في البحث عني، ثم طمأنني بأن زوجتي وأولادي قد غادروا إلي لندن. لم أكن أعرف أن منظري كان مرعباً، ولم أدرك مقدار التغير الذي حل بي إلا عندما رأتني والدة زوجتي فسقطت مغشياً عليها في الشارع أمام الناس. ولا بد أن أعترف بأنني لم أشعر بالأمان إلا عندما غادرت الطائرة مطار دمشق، وكان يتجاذبني حزن وفرح؛ أما الفرح فكان للقاء أطفالي الذين لم أرهم منذ حوالي سنة، وأما الحزن فكان للذين ذرفوا الدموع المحرقة عندما ودعوني في المهجع، فقد أمضينا أشهراً طويلة في السجن، ولم يكن أحد منا يعرف ما هي تـهمته وما هو مصيره. وكان آخر ما أوصوني به وأنا خارج من الزنزانة: أن أبلغ العالم بـمعاناتـهم وأستصرخ أصحاب الضمائر الحية ليعملوا علي رفع البلاء عن هؤلاء المظلومين. ألا هل بلغت؟

ہ46 سجينا في غرفة مساحتها 4 ـ 5 امتار .. كنا نتبادل الادوار في النوم فيقف نصفنا نصف الليل في زاوية وينام النصف الاخر ہ كنا ننظر الي السجانين وهم يتخاطفون الكباب والحلويات التي يحضرها اهلنا ويأكلونها بشراهة وهم يتضاحكون ہ السجان تعرف علي عنوان اهلي، فكان يذهب اليهم ويدعي انني طلبت مالا.. واستطاع سرقة اكثر من مئة الف ليرة سورية حتي اضطرت زوجتي لبيع حليها ہ آخر ما اوصاني به زملائي المساجين ان ابلغ العالم بمعاناتهم.. الا هل بلغت؟ ہ وآخر ما قاله لي السجان: اذا فتحت تمك منعرف شلون نجيبك
  #2  
قديم 22-07-2001, 03:52 AM
الـغـــافقي الـغـــافقي غير متصل
رجل من هذا الزمان
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2001
المشاركات: 631
Post

لاحول ولا قوة إلا بالله.....
__________________
اللهم إجعلني خيرا مما يظنون
وأغفـــر لي ما لا يعـــلــــمــون

 


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م