مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #31  
قديم 04-02-2007, 10:15 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

التأريخ للعقل العربي .. هل هو تضليل .. أم حقيقة لا نحسن التعبير عنها؟

نلاحظ أحيانا بأن هناك مثلا من أبناء الخليج العربي أو بلاد الشام قد غاب عن وطنه عشرة أو عشرين أو ثلاثين سنة وأحيانا أكثر .. عندما يعود لمسقط رأسه فإنه لا يحتاج من يذكره بما سيقوم به، فهو إن كان قبل مغادرته موطنه قد اعتاد بعض أشكال التعامل والسلوك، كأن ينزع حذاءه في باب الغرفة أو يقبل يد من هو في مقام والده .. فإن السنين التي غابها عن بلاده لن تنسيه تلك العادات إطلاقا ..

كما أن مذاق الطعام وطرق تناوله كما كانت في السابق ستجد طريقها لنفس الغائب الحاضر على وجه السرعة .. وقد يكون الذي نتحدث عنه قد تزوج أو عاشر من نساء المهجر .. ولكنه لن يجد صعوبة في التكيف السريع، حتى في شكل النظرة للمرأة، ليس كما كانت عليه عندما غادر موطنه، بل وما طرأ على تلك النظرة والتعامل أثناء غيابه!

فما الذي يحدث؟ هل كان الإنسان الذي نتحدث عنه في رحلة جوية، سواء كانت (أجواءها) العلوم التي تعلمها أو الأيديولوجيات التي اعتنقها أو العادات اليومية التي تعايشها .. فإن كل تلك الأجواء ستزول بمجرد هبوطه على الأرض (واقعه بجذور ماضيه) ..

لقد قابلت ذات يوم أحد أبناء حيفا الذين هاجروا الى الأرجنتين، وكان قد غاب زهاء خمسين عاما، كان هو وزوجته الأرجنتينية يحاولا أن يسألا أحدا عن مسألة ما، وكان يبدو عليهما ذلك، فهيأت نفسي لتمثيل دور الذي يقبل أن تنهال عليه وجبة من الأسئلة، وحدث ما أردت .. فعلمت ما علمت عن الرجل وأخبرني بطبيعة عمله، بلهجة عربية صعبة الفهم، فهو لم يمرنها منذ وقت طويل، فامرأته أرجنتينية .. وعمله غريب نوعا ما، حيث عندما سألته عنه أجاب، حيث كنت أساعده ليعبر عما في نفسه في مناولته بعض الكلمات لإسعافه من الثأثأة، فكان عمله هو (مصادقة الحيوانات!) هكذا ترجمته .. وتلخيص طبيعة عمله هو أنه يقدم الأعلاف للجاموس البري (البافلو) مجانا، لينفرد بأحدها (دون انتباه الآخرين) .. ويذبحه ويبيع لحمه .. إذن لا احتكاك مهني يؤثر على تنمية اللغة كأداة للعقل، وليس هناك مجال لتنمية رصيده السابق من المعرفة ..

ومع ذلك فاجأني من خلال تطفلي لسؤاله عن تلك (البقج) أو (الأكياس) التي كانت مطروحة جانبا .. فقال: إنها ملابس فولكلورية .. حيث أريد إنشاء فرقة دبكة فلسطينية! لقد كان عمره فوق الخمس وسبعين عاما عندما قابلته، ولكن (أس) معرفته وهويته لم تمحه سنون الغربة أو تستطيع حوافر أو قرون الجاموس أن تزيله من ذاكرته أو مخزونه المعرفي (العقل كوعاء) ..

ظاهرة أخرى تسترعي وجوب سؤالنا، عن التضليل والحقيقة في مسألة التأريخ للعقل .. وتلك الظاهرة هي التي تتعلق بعودة الملحدين من شيوعيين ويساريين وغيرهم الى دينهم ومواظبتهم على صلواتهم وقيامهم بمعظم فرائض الدين، هذا خلاف تحول بعضهم الى فلاسفة ودعاة دينيين ( مثل مصطفى محمود) .. إنهم يتعاملون مع إلحادهم وكأنها فترة احتراف رياضي في مجال ما، ثم تلي ذلك الاحتراف حالة اعتزال، لكن الاعتزال يعود الى حالة الإيمان السائدة قبل رحيل هؤلاء لمساحات الإلحاد ..

هناك من يقول أو سيقول: إنها حالة التوبة .. وتتعاظم الرغبة للتوبة كلما تقدم العمر .. حسنا .. لقد أسس هؤلاء التائبون على قاعدة (عقائدية) أقروا بها سابقا ثم تمردوا عليها وعادوا إليها .. إن كان كذلك .. فسنجد أن تلك القاعدة العقائدية تملك سلطات واسعة مستترة، قد ينطق بها أناس (كُلفوا) أو (تطوعوا) ليكون وعاظا .. أو أن تلك السلطة (تسكن) في أي نفس من المجموع العام للمجتمع ..

هنا يبرز سؤال: كم عمر هذه الشخصية المستترة والتي تحتل الكيان الجماعي لشخصية الأمة .. ومن يحصنها من العبث؟ ومن يطور عليها .. وهل تلك الجيوش من الباحثين الذين يقرؤون ويكتبون ويخطبون ليلا ونهارا، هم من يصون تلك الشخصية (العقلية) أم أن وجودهم وعدمه له نفس الأثر؟

إن تعجلنا في الإجابة على السؤال السابق سندخل في حالة من اللبس والارتباك، فإن قلنا إن هؤلاء ليسوا لهم أثر فإننا سنكون ظالمين لهم وللنظرية العلمية التي تستوجب التطور والحتمية. لكن سيدهشنا أكثر أن أكثر الملتزمين بالدين وفرائضه هم من الأميين أو الناس التي لا تقرأ .. وهي حالة وجدناها في صدر الإسلام .. حيث كانت تضحيات من حفظ عشرة آيات في بدء الرسالة أكبر من تضحيات من تعلم الفقه والحديث ونال الشهادات العليا هذه الأيام ..

إن تلك الظاهرة سنجد لها تفسير سنني يرتبط بالمجموع وسلوكهم ومصالحهم، وطرق اتقاءهم الأخطار و تغنيهم ببطولة أبناء مجموعتهم .. تماما كما تكون فنون (أصناف أو تحت أصناف ) الكائنات الحية الأخرى فهناك أصناف كثيرة من الثعالب، كل صنف له طرائقه في الصيد وقوائم أعداء وأمكنة اختباء تختلف عن الصنف الآخر ..

فلذلك نجد أن الدين لا يمنع أن يتضاد أبناء الدين الواحد فيما بينهم ليجدوا مبررات تفلسف عدائهم لأخوانهم في الدين ( إيران ـ العرب) .. سيقول قائل: إنها الفوارق الطائفية .. وعنا سنقول لقد اصطف أبناء الكرد السنة مع الفرس الشيعة وتعاونوا مع الأمريكان أصحاب الدين المختلف ضد أبناء العرب.. أين التضليل وأين الحقيقة في فواصل التأريخ للعقل العربي؟؟
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #32  
قديم 22-04-2007, 02:44 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

الجبرية في العقل الجماعي العربي :

لو دخل غريب الى حي، وتعرض الى عبث مجموعة من المراهقين أو الشباب المتزمتين الذين لا يرحبون بالغريب، فإنه يعود الى عقله الفردي ليقرر شكل سلوكه مع عبث العابثين، فهو قد حسب قوته وخمن عوامل قوة العابثين، فسيكون قراره التساهل ومحاولة التخلص من هؤلاء العابثين بأقل قدر ممكن من الأذى .. تماما كما يفعل حكم مباراة (كرة قدم) في اتخاذ قراراته في أجزاء من الثانية، فالموقف لا يسمح بالعودة لمرجع استشاري سواء كانت هيئة بشرية أو كتب مكتوب فيها ما يعينه على اتخاذ قراره ..

نحن لا نتكلم عن عقلية فردية، بل نتكلم عن عقل جماعي، وطبعا الكلام هنا لن يكون دقيقا في أي حالة من الأحوال، فلن يكن هناك كما أسلفنا سمة خاصة بسكان دولة كاملة أو مدينة كاملة أو حي كامل أو حتى أسرة تبين تطابق سلوك أفرادها وأداء عقولهم بشكل وكأن هذه المجموعات البشرية عبارة عن نسخ مكررة من فرد ومضروب بعدد المجموعة .. لكن نحن نتكلم عن السمات العامة التي تميز شعب أو حضارة بسمة ما، فنقول سلوك اليهود ونصفه على ضوء ما صنعنا من صورة متكررة فيما كتب عنهم وما وصلتنا أخبارهم عبر السنين، ونتغاضى عن أشخاص أو مفكرين أو علماء لا يروقهم سلوك اليهود، وهم من اليهود، تماما، كما نسمي كيس من (الحنطة) باسمه، حتى لو كان فيه من الشوائب ما يصل الى خمسه فيبقى كيس من القمح (هكذا اسمه) ..

في حالات وصف عمل العقل العربي، تكلمنا عن جانب مهم في تكوينه (كأداة) و (كوعاء) في نفس الوقت من خلال تطور وتراكم المفاهيم التي تحدد شكل ردة فعل تلك الأداة والتي تنضح مهاراتها من وعائها في نفس الوقت .. وهذا قد تعرضنا إليه من خلال النظرة السريعة في تأريخ الموروث المعرفي للأمة ..

لو نظرنا من باب المحاكمة الجماعية للعقل العربي من خلال، المقارنة في الأشكال الجماعية الإدارية (طبعا) وكيفية سلوكها وتحكيم العقل في أدائها اليومي، لرأينا أي فريق عمل ضيق تتوزع به الأدوار ليقوم كل عضو من الفريق بتفقيه أداءه و إخضاعه للعقل عنده (كوعاء) من خلال الاستعانة بمعرفته الخاصة (كمستشار) و (منفذ) بالفريق، هو من ينجح في إنجاز مهمته بصورة قاطعة وحاسمة. ففريق طبي يقوم بعملية جراحية يتوزع دوره بين الجراح والفيزيائي والمخدر وغيرهم، ولا تحتمل العملية أي خطأ من أخطاء الفريق. كذلك في فريق (كرة القدم) وفريق التعليم في الكليات الجامعية الخ ..

في الدولة الحديثة، لن يستطيع رأس الدولة أن يدير دولته إلا بتقسيمها، الى قطاعات جغرافية وتعيين حكام محليين و هم بدورهم ينسبون حكاما للمساحات الأصغر، هذا على صعيد السيطرة الجغرافية، وهو شأن معروف منذ القدم.. أما على صعيد التنوع فإن النشاطات ستقسم ويوضع لها مسئولون باسم وزير للمسئول الرأسي أو مدير عام ومدير ورئيس قسم للموظفين الأقل شأنا .. ثم يحيط رأس الدولة نفسه، بمستشارين خاصين يفهم كل منهم الشأن الذي يطلب منه الاستشارة فيه .. وهكذا يفعل الوزراء الخ ..

نعود الى الأمة أو الشعب بنشاطه الحضاري وما يخصه من نشاط عقلي يحدد سلوكه وتصرفه وقبوله لسلوك الدولة أو اعتراضه ورفضه لها .. ما الذي يحرس القيم التي تحافظ على سمات أمة أو شعب، وتجعل تطور معالمه الحضارية تنسجم مع مجمل الصفات التي عرف بها هذا الشعب؟

في السلوك الفردي تتحكم ثلاثة عوامل حاسمة في تحديد شكل السلوك للفرد أينما وجد، الأول: الحصيلة التراثية التي تزود القاعدة الخلقية بضوابط تجعل هذا السلوك مقبول اجتماعيا أو مرفوض، وهي تتمثل بالدين ومفاهيم الشرف والنزاهة وغيرها، ويغذي هذا العامل مجاميع الوعاظ و مناهج التعليم والأدباء والشعراء و الفنانون وغيرهم .. ويكون كل رجل مهم يعمل في تلك المناحي تحت رقابة غيره ممن يهتمون بالمنحى الذي يهتم به و يخضعونه لضوابط معقدة لها علاقة بشكل أو بآخر بالسمات الشخصية العامة للطابع الحضاري، فيهاجمونه إذا أخل بالالتزام بالسمة العامة للمجتمع وسماته التي عرف عنها، ويحيونه بالإشارة الى عمله في كتاباتهم وأحاديثهم الخ ..

والثاني: قوانين الدولة، وهي الرادع للمخالفين والضابط لحركة المجتمع بمختلف نشاطاته الاقتصادية والسياسية والأخلاقية وكل ما يصدر عن الأفراد أو المجموعات، وعندما تتناغم تلك القوانين مع السمات العامة للمجتمع وخصائص الشعب أو الأمة الحضارية، فإن قوة إضافية قد جاءت لتقوي الحراسة، على الصفات العامة للمجتمع وحضارته، وتدعم مسيرته نحو التطور بخطى ثابتة ومتناغمة مع أصالة صفاته.. وبعكسه أي عندما تتساهل القوانين في أداء الأفراد و غض النظر عن أخطائهم، فستكون الفوضى والارتباك و فقدان حماسة العاملين في النشاطات الأدبية المذكورة في تطوير خطاباتهم، كون أن القوانين لا تساعدهم في مهمتهم .. وتكون النتائج أكثر خطورة، عندما تغض القوانين النظر عن أشخاص أو مؤسسات تبشر بنسف المفاهيم التي اعتاد عليها المجتمع وخصوصا تلك الثوابت التي تمس حضارة البلاد بأعمق مواطنها، سواء كانت تلك التي تمس الدين أو الوطن ..

أما المصدر الثالث: فهو الصحبة والجماعة المحيطة بشكل دائم بالفرد، فتلميذ المدرسة أو طالب الجامعة يكون الطلاب هم صحبته اليومية التي يختلط بها، فيتغذى منها و يحاول أن يلتزم بسلوك شخصيتها العام تحت باب (نزعة القطيع) فلا يحاول الشذوذ عنها، حتى لو كان شذوذه هو الأصح .. وهذا يحدث في المجموعات المهنية سواء في التجارة أو الحرفة بكل أشكالها، حيث تتولد عادات وسلوكيات متأثرة بالأجواء الخلقية والقانونية السائدة ..

يتضح لنا أن المناداة بالمُثل والقيم، من قبل بعض الأصوات من كل المناحي، سيواجه صعوبات هائلة في إعادة النموذج العام للشخصية العربية و عمل العقل فيها وفق التدرج الذي صعدنا به في هذا التدريج .. لكن بجميع الحالات قد تسبت القوة المطالبة بالعودة الى النموذج العقلي العام للشخصية العامة للشعب أو الأمة، لكنها لن تموت، بل تبقى تتحين الفرص لعودة انطلاقتها من جديد، وهذه الحالة تتكرر في كل أمة حية ..

وإن كانت الجبرية آتية من سطوة القوى الثلاث في تحديد شكل السلوك وإعمال العقل في نمط لا تقبله الشخصية العامة للمجتمع، فإن تغيير تلك السطوة هو ما يفسح المجال لإطلاق العقل العربي و عودة نشاطه وفق ضوابط شخصيته من جديد ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #33  
قديم 07-06-2007, 05:44 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

عقل عربي أم عقول عربية؟

عندما تناول المفكر محمد عابد الجابري، موضوع العقل العربي، ووضع به ما يشبه الموسوعة الفكرية الشاملة في عدة كتب قيمة، هي: تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي، والعقل العربي السياسي، والخطاب العربي النهضوي، والتراث والحداثة وغيرها*1 ولم يبتعد في كتاباته الأخرى عن محور العقل العربي، فهو يعود الى هذا المحور عندما يتكلم عن الدولة والدين وعندما يتكلم عن (الإبستومولوجيا) لا يفارق محوره المفضل .. وأجد نفسي منحازا باعتزاز لنمطية مناقشاته تلك..

بهذه الأثناء ظهرت رؤى يتبناها مفكرون عرب آخرون، تتضاد مع منهجية الجابري، في محاكمته للعقل العربي، ولا أزعم أنني اطلعت عليها كاملة، كما لا أزعم بنفس الوقت أنني أكملت هضم منتجات الجابري بكمها الغزير. وتلك قضية أخرى لا تخلو من مبعث للشعور بالأسى والبؤس، خصوصا إذا كان ادعاؤنا نحن الطبقة الثالثة من المثقفين العرب، وفق التراتب الذي يضع المفكرين الكبار في المرتبة الأولى والمختصين الجامعيين من أساتذة، وكبار كتاب الصحافة والإعلام في المرتبة الثانية. وعندما يكون ادعاؤنا بأننا نشكل مقاربة تجسر أعمال من هم أكثر رقي منا مع من هم مثلنا أو بعدنا، فإن مهمتنا تكون منقوصة بشكل خطير عندما لا نستكمل فهم ما يُكتب ويُترجم من أعمال فكرية عظيمة..

وقد تكون حجج من ينتقدون منهج الجابري في محاكمة العقل العربي أو تحليله، تحمل في ثناياها بعض الوجاهة .. وإن كان بعضهم يغالي في النقد، فينكر أن هناك عقلا عربيا (هشام غصيب*2) فإن هناك من يقول أن هناك عقولا عربية .. وقد اختلف قسم منهم في الأسلوب ، ولم يعترض صراحة على المنهج كما فعل (عبد الله العروي)*3 و (أبو يعرب المرزوقي)*4


ولكن من يتتبع استنطاق الجابري للتاريخ والتراث والثقافة، سيدرك أهمية منهجه، الذي سيكشف بالنهاية الحالة الراهنة للعقل العربي، من خلال تتبع نتوءات المعرفة*5، وما تراكم ويتراكم على تلك النتوءات من معارف، والتي كونت في النهاية الوعاء (العقلي) العربي الراهن، بشكله المشخص بالاضطراب والمساجلة والتموج بين منحى وآخر ..

إذا كان العقل للإنسان الفرد، هو ما يملي عليه ما سيتخذ من ردة فعل تجاه ما يواجهه من مواقف حادة، أو ما يعرض عليه من آراء، تقبل التصديق والتكذيب، فيكون قرار الفرد صادرا من (أداة العقل) الذي يؤدي عمله على هدي ما تراكم في (وعاءه) المعرفي من معلومات يستدل من خلال تشابهها مع يمر به بشكل لحظي ..

فإن كان نوع الحدث، التعامل مع حالة اصطدام مركبة يقودها الفرد بمركبة أخرى أو بشخص يسير في الطريق، فإن عقل الفرد يأمره بشكل فوري باتخاذ ما يلزم، من التوقف وانتظار شرطي المرور أو التصالح الفوري أو الوصول للقضاء والاستعانة بأحد المحامين، أو أحيانا يأمره عقله بالهرب والاختفاء من ساحة الحدث!


وإن عُرض على الفرد خبرا من محطة تلفزيونية، فإنه سيعيد الخبر الى جذوره، ويستعيد تاريخ ما يعرف عن هذه المحطة وفهرس مثيلات الخبر المذاع ومدى صدقه أو كذبه، مقارنة بمحطات أخرى..

هذا، بالنسبة للفرد، وهو جزء ضئيل جدا من مجتمع أكبر هو الشعب أو الأمة، وكل واحد منهم له أداء مختلف عن الآخر كاختلاف البصمات، فكيف يكون هناك إذن عقل جماعي يشمل كل المجتمع بأفراده ؟

هل نتحدث إذن عن عقل عربي أم عقول عربية؟ هنا تكمن مواطن الاختلاف في المناهج بين المفكرين العرب، ومن يتأثر بهم من جمهور المثقفين في مختلف تراتبهم الثقافي ..

لكن في المثالين السابقين، اعتمد الفرد على حصيلة تجارب مشابهة لما مر بها هو، أو سمع من أصدقاءه أو أبناء مجتمعه، أو ما قرأ عنه من تجارب مشابهة حدثت في أزمنة وأمكنة مختلفة، وسيتم نسيان من ابتدأ التجربة حتى لو كان مخترعا علميا، وتصبح تلك التجربة مكوِن من مكونات التراث المحلي أو القومي أو العالمي، بمختلف المناحي العلمية والحربية والأدبية والدينية الخ

لا يُعقَل أنه إذا أراد أحدٌ أن يفكر بتصنيع سيارة، أن يجعل إطاراتها مربعة الشكل، ثم يكتشف بعد ذلك أنها لو كانت دائرية لكانت أفضل! فعمومية العلم تجعل أبناء الكرة الأرضية يستفيدون من تجارب بعضهم البعض.. ولا يتوقفون كثيرا عند المكتشف الأول لتلك المعلومة أو بلده أو دينه، فالمكتشفات عند الشعوب تبقى في مكانها فترة بسيطة ثم تضاف للتراث الإنساني ..

لكن يبقى هناك أساس يميز حضارة عن حضارة وشعب عن شعب، وسيبدو الشعب الواحد بنظر من هم خارجه وكأن أفراده عبارة عن نسخة واحدة مضروبة بعدد أبناء الشعب نفسه، وهذا ما ينظر إليه عندما نتحدث عن الشعب المصري أو اللبناني أو العراقي، فيما بيننا كعرب، وقد يختار أبناء مصر مدينة أو إقليم ليتندروا بالحديث عن أبناء ذلك الإقليم وكأنهم فرد واحد، ويفعل كذلك السوريون والعراقيون وغيرهم، وبالمقابل فإن من هم خارج العرب سينظرون للعرب وكأنهم نسخة واحدة لشخص ارتسمت صورته في أذهانهم ..


هذا ما تناوله صموئيل هانتنغتون في كتابه (صدام الحضارات)*6 عندما حاول وضع خطوط فاصلة بين الحضارات فبعد أن تسلسل في سمات سكان سردينيا و طرائقهم الحياتية واختلافها عن سكان نابولي و فينيسيا، وصل الى أن هناك شخصية إيطالية لها سماتها التي تميزها عن الألمانية والهولندية والإنجليزية، لكنها تلتقي كلها في سمات الشخصية الحضارية الأوروبية ..

لقد عالج الجابري تلك المسألة بإرجاعها ل (النظم المعرفية)، وكنا قد ذكرناها في الحلقات الأولى من هذا الملف، لكن باقتضاب وسنعود إليها ببعض التفصيل لاحقا ..

في إحدى السنوات حاولت جمع بعض بذور (النفل) وهو نبات رعوي معروف يتبع للعائلة البقولية، تستسيغه كل الحيوانات التي يقتنيها الإنسان، ويزيد إنتاجها وتتحسن أحوالها إذا تغذت عليه. وعندما تنطلق الحيوانات في المرعى فإنها تقبل على نبات (النفل) حتى تقضي عليه كله، ثم تنتقل بعد ذلك الى ما دونه من الأصناف الأقل جودة واستساغة منه. فاجتهدت في محاولة تكثير ذلك النبات بجمع قسم من بذوره الناضجة، وخصصت لها مكانا محددا من الأرض وبذرتها ورعيت بذورها بالاهتمام بسقيها وتعشيبها، وفق الأسس المعروفة في زراعة المحاصيل الحقلية. لكن لم ينبت من البذور ولا بذرة واحدة، لا في السنة الأولى ولا في السنة الثانية ولا بعدها .. وعندما بحثت في ذلك وجدت أن هناك العديد من أصناف النباتات الرعوية يمتلك خصائص تجعلها تمتنع فيها عن الإنبات بانتظام .. وتعاود الإنبات في ظروف لا دخل للإنسان فيها ..

هذه الحالة، من يتمعن في الجنس البشري، سيجدها ماثلة في سلوكه ومظاهر (عقلنته) وذروة نشاط عقله. فنحن لا نستطيع التعرف على عقل شعب إلا من خلال ما ينتجه هذا الشعب من عطاء حضاري، بأشكاله المختلفة، وقد تعبر عن هذا العقل الدولة، أو النخب المسموح لها بالتعبير من خلال قوانين وظروف الدولة نفسها .. وقد تكون عينة الدولة في كثير من الأزمان لا تعبر عن الحالة الحضارية لما يكمن في مخزون الشعب، وقد تمر فترات طويلة لا يتم التعرف بها على الإمكانيات الحضارية لهذا الشعب .. وقد رأينا أمثلة كثيرة، فاليهود يسبتون قرونا طويلة، وما أن تتاح لهم الفرصة حتى يعاودوا نشاطهم العقلي الذي يتطابق مع سالف عهدهم، وكذلك أهل الهند والأتراك وغيرهم ..

وهذا ما يؤكد أهمية مناقشة النظم المعرفية التي تحرس نمطية الجهد العقلي لأي شعب، وهو ما سنناقشه ببعض التفصيل لاحقا..

هوامش
ــــ
*1ـ سلسلة من المؤلفات نشر معظمها من خلال مركز دراسات الوحدة العربية
*2ـ هل هناك عقل عربي/قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري/ هشام غصيب/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/ ط1/1993
*3ـ ثقافتنا في ضوء التاريخ/عبد الله العروي/المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/المغرب/ط1/1983
*4ـ إصلاح العقل في الفلسفة العربية/أبو يعرب المرزوقي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ط1/1994
*5ـ مصطلح قامت بنحته (كروبسكايا) زوجة لينين/ قرأته في كتيب سوفييتي مترجم للعربية، تحت عنوان (تكنيك القراءة والمطالعة) نسيت دار النشر وسنتها .. ولم أعد أملكه الآن..
*6ـ صدام الحضارات/ إصدار خاص قام به مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق/بيروت ط1/1995
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #34  
قديم 10-08-2007, 02:09 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

إخضاع المخزون المعرفي لنظم تتدخل في أداء العقل

لا يستطيع كائن من كان أن يحكم على المستوى العقلي لشعب وفق حالة سياسية معينة أو حالة تقنية تتعلق بكمية براءات الاختراع التي يسجلها أبناء ذلك الشعب أو الأمة، أو كمية الكتب ورسائل الأبحاث التي تُنسب الى أبناء تلك الأمة أو الشعب، فالأسود والأفيال تلغي كثيرا من خصائصها الطبيعية عندما تخضع لإرادات مدربيها في (سيرك)، أو عندما تعيش في حدائق للكسب السياحي والتجاري عليها ..

ولو تساوت الظروف السياسية والمدنية لكل شعوب الأرض، لكانت الأحكام المطلقة على الحالة العقلية لتلك الشعوب والأمم مختلفة عما هي سائدة عليه الآن، ولكانت فرص الإنتاج التقني والعلمي والحضاري، مختلفة عما هي عليه. ولكن سيبرز هنا تساؤل هو ما الذي يمنع تلك الشعوب والأمم من أن تنتزع فرصتها التي تأخذ بها دورها في النشاط الحضاري بكل أشكاله، أليس للمستوى العقلي العام لأفراد تلك الشعوب والأمم دور فيما هي عليه؟ وهو تساؤل وجيه ومهم في نفس الوقت .. واكتسابه وجاهته آتية من إعطاء الحالة المدنية باعتبارها مؤشرا للنشاط الكلي لعموم أفراد الشعب وما ينتج عنه من هياكل تنظم عطاء ذلك الشعب بما فيها مؤسسات الدولة والمجتمع المدني .. واكتسابه أهميته قادمة من أنه فيما لو تم حل هذا اللغز سنقترب حينها من التمهيد للدخول في الكيفية التي سيقوم بها العقل (الكلي) للشعب في أدائه للخروج مما هو فيه من حالة مترهلة مقززة، تثير سخرية من هم خارج هذه الأمة، وتجعل أبناء الأمة أنفسهم يحسون بانعدام وزنهم وعبثية دورهم العالمي..

يحاول بعض المفكرين العرب الإجابة عن تلك التساؤلات، بإرجاعها للنظم المعرفية التي تكون بمثابة رافعة تحمل ما يعرض عليها لتدخله لمختبر يحدد نوعية المعروض وصنفه وكيفية التعامل معه.. وهذه المسألة كونها تقبل الخضوع الى انتسابها لأمة أو شعب، فهي تقبل الخضوع ـ بكل تأكيد ـ لتطبيقها على الأفراد، حيث يطرح كل فرد يوميا كميات هائلة من الأسئلة على نفسه: هل أصمت .. هل أتكلم .. هل أقبل .. هل أشتري .. هل أبيع .. هل أهاجر .. هل أنتحر .. هل وهل .. ثم يتخذ ما يراه مناسبا وفق الإجابات التي يضعها لنفسه، وفق ما قاس عليه من مواقف متشابهة ..

أما في الأمة والشعب ذي الحضارة، فإن التناوب بالأجوبة على الأسئلة قد وصل من خلال ما تبقى من تراث مكتوب أو متناقل بين النخب الثقافية والسياسية والدينية والعلمية .. حقا، أن ليس هناك علما مطلقا، أو رأيا مطلقا، أو موقفا نهائيا في أي مسألة من تلك المسائل، فلا النظريات السياسية في العالم قد توقفت عند حد، ولا النظريات العلمية في العالم قد توقفت عند حد، فكل يوم نرى أجيالا جديدة من أصناف العلاجات البشرية وأجيالا من أجهزة الحاسوب والطائرات والآلات الخ .. كما كل يوم نرى مجتهدا في تفسير القرآن وتأويل الأحاديث، وتفسير العلمانية والاشتراكية والديمقراطية، يختلف مع من سبقه من مفسرين ولكنه يؤسس خلافه على ما قبله، يجاوره ولا يعاديه يرتكز عليه ويدعي أنه متفوق عليه ..

كل هذا يحصل وفق نظم معرفية ثلاث كما ركز عليها الفيلسوف محمد عابد الجابري، ( العرفاني والبياني والبرهاني) .. ونسب النظام العرفاني لشعوب شرق آسيا من الهند والصين واليابان وغيرها، والتي مفادها بأن هناك علاقة خفية بين ما يقوم به الإنسان مع السلطة والقوة الخفية للأبراج والكواكب، ولا زالت الصين تسمي العقود والسنوات والقرون بأسماء تلك الأبراج والكواكب، فهذا عقد العقرب وهذا عقد القوس وهذه السنة الفلانية الخ ..علما بأن النظام الرسمي للدولة يفترض أن ينتمي لبيئة مادية شيوعية، لا تعطي وزنا لمثل هذا الكلام!

أما النظام البرهاني الذي يسير عليه الغرب (بشكل عام) فيطلق العنان للخيال العلمي وما يرتبط به من نمو رياضي في تتابع الجدلية الحياتية، فتنعكس تلك المحاكمة على الأداء الفلسفي منذ بدايات وجوده قبل حوالي 25 قرنا، ثم ينعكس على طبيعة الأبنية والاختراعات فنمط أبنية الكاتدرائيات والكنائس وما يتعلق بها من إضافات شاهقة. تتناغم مع نمط ناطحات السحاب الحالية .. كذلك كان النشاط العلمي يصب في نفس الاتجاه فاختراع التلفون و بحوث الفضاء تنسجم مع هذا النظام المعرفي، ولم تقف نوعية الديانة أو الإلحاد عائقا أمام تلك الأنشطة، فتشابهت عند الروس والأوربيين الغربيين والأمريكان بغض النظر عن الانتماء الطائفي (أرثوذكس، بروتستانت، كاثوليك) ..

في حين كان النظام المعرفي البياني، وهو النظام السائد عند العرب (المسلمين) منهم بالذات، والذي لم يلتزم به المسلمون الآخرون من غير العرب، قوامه اللغة والفقه .. فقد غطى هذا النظام معظم أنشطة العقل العربي سواء من العرب أو من المسلمين من غير العرب الذين كانوا ينتهجون نفس منهج العرب المسلمين في التعاطي مع أنشطة العقل المختلفة .. فعالم الفلك وعالم الطب والرياضيات والحديث و التاريخ والفلسفة، لن يتخلوا عن الالتزام بهذا النهج (البياني) إطلاقا، فهم إن تحدثوا عن سبب من أسباب الأمراض، لن ينسوا تدخل الله عز وجل في تقدير ذلك السبب، وإن كانوا في صدد تقييم رسالة دكتوراه، فقد تسقط تلك الرسالة إن لم تكن متقنة من حيث اللغة، حتى في عصرنا الحديث .. فكان تلازم الفقه واللغة من مميزات النظام المعرفي البياني ..

ولو تعرض أحد أبناء الأمة العربية في عصرنا الحاضر، لطارئ مرضي أو جنائي، فإن أي مراقب متوسط الثقافة سيلاحظ بسهولة تداخل الأنظمة المعرفية الثلاثة على سلوكه وتعاطيه مع الموقف الذي يتعرض له .. فالمريض يذهب لأخصائي (طبيب) ويعرض حالته عليه، وهي حالة تلتقي مع نتاج النظام البرهاني. فإن لم يستفد من تكراره لمراجعاته، فإنه لن يتوانى عن مراجعة شيخ يقرأ عليه بعض الأوراد أو الآيات أو غيرها ، ويطمئنه بأن العمر محدود وأن المرض هو ابتلاء يتعرض إليه المؤمن لامتحان إيمانه من خلال صبره، وهو نشاط ينتمي للنظام المعرفي البياني. ولكن هناك من يذهب الى عراف يعلم بالسحر والفلك والنجوم ودورها بالتأثير على ما في داخل المرء من مرض وغيره، ومن يقلب محطات التلفزيون سيجد من بين مائة محطة أربع أو خمس محطات تتعامل مع الأبراج، وتنصح السائلين بالسفر أو إلغائه أو تأجيله، كما تنصح بإلغاء مشروع اقتصادي أحيانا! .. وهذا يتعلق بالنظام المعرفي العرفاني.

نحن أمة متوسطة، اختلطنا بكثير من أبناء الأمم وتثاقفنا معهم وتبادلنا الكثير من معارفهم فاختلطت معارفنا ونظمنا المعرفية مع الكثير من الأمم .. فلذلك لا غرابة أن ترتج رؤانا ويرتج عطاؤنا العقلي ويتصف بعدم الثبات ويصعب تصنيفه من خلال ما يُطرح من نشاطات عقلية مختلفة .. وكوننا في حالة من عدم الثبات وفي حالة من التراجع الحضاري والانكسار النفسي .. فلا شك أن المطالبة بالعودة الى الالتزام بالنظام المعرفي البياني هي التي ستطفو على السطح بعد كل حالة انكسار .. وستكون المقالات أو الردود على المقالات أو التحليل السياسي أو التحليل الاقتصادي والاجتماعي متسمة في أغلب الأحيان بسمة المطالبة بالعودة للالتزام بالنظام المعرفي البياني ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م