مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 30-03-2006, 08:18 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي ذكريات قرية لم تعد موجودة

ذكريات قرية لم تعد موجودة


لو فرغ أحدنا من الاستحمام ، فإنه يلحظ أن هناك شعرات قد سقطت منه ، والتصقت بجوانب الحوض أو أسفله .. ولكنها لم تعد تنتمي اليه بالتأكيد .. ويقال أن الإنسان يفقد أكثر من ثلاثين شعرة كل يوم .. وعند الحديث عن الأعصاب فإن الأطباء يقولون أن الخلايا العصبية التالفة لن تعوض بعد ..

لا أدري أين تستقر ذاكرة الإنسان ، هل لها مكان معين في جسم الإنسان تستقر به ، أم أنها تكون كهالة تحيط بكيانه ، تسبح معه حيث عام .. ويستعين بها عندما يستفز ، أو يضطر الى اتخاذ موقف تجاه ما يرى أو يسمع أو يضطهد بفتح الياء أو ضمها .. ولكن لا بد لتلك الذاكرة أن يتساقط منها ما يقارب أعداد تساقط الشعر في الحمام ..

هذا بالنسبة للفرد .. أما الجماعات ، فستكون مسألة تتبع نمو ذاكرتها و تفقدها من الصعوبة بمكان ، وتزداد صعوبتها كلما ازداد أعداد الجماعة وتفاوتت أعمارهم .. فسيكون على من يريد أن يتفهم تلك الظاهرة أن يتفقد ذاكرة كل فرد من أفراد الجماعة على حدة ، و هي مهمة شاقة وغير مسموح بها في جميع الأحوال .. وسيشوبها الكذب أو الاجتهاد في أحسن الأحوال ..

كما أن للقبور شواهد .. فان للذاكرة شواهد .. فان كانت القبور بلا شواهد ستدرس وتزول مع الزمن .. وهناك من يشجع على ذلك ( فقهيا ) .. فبنظره ، لم يعد أهمية لتجميل قبر والكتابة عليه ، طالما أن ما بداخله أجزاء من مواد لم يعد لها أي فاعلية تذكر .. وهناك من يعاكس تلك النظرة فيقول : أن الشاهد على القبر و الكتابة عليه ، سيجعل من القبر بمثابة أيقونة في جهاز الكمبيوتر ، ما أن تضغط عليها العين ، حتى تستعيد شريط من في داخل القبر !

بالقرى والمدن ، تكون الشواهد ، هي مجموع المعالم البارزة ، كمنارة مئذنة أو قصر بارز .. أو سفح جبل .. أو تمثال .. أو بيت يصدر منه صوت امرأة مجنونة .. أو زقاق يبرز منه كلب شرس يخيف الأطفال .. فتصبح سلطة الكائنات الحية شواهد إضافية على الشواهد الجامدة .. فشجرة عالية ، أو ارتطام قطيع أغنام بسيقان المارة .. تجعل من الذكرى .. مزيجا بين المكان والأحياء ..

ويصبح كل إنسان شاهد إضافي على الشواهد السابقة ، وهذا ما يفسر لنا لماذا نحزن على ميت ، يرتبط معنا بذكرى ، وهو يقل شرفا ومكانة عن شخص آخر ، ولكن لا نحزن عليه .. ولكن حزننا سيكون على أنفسنا ، أو على وجه الدقة على ذاكرتنا ، إذ أنها فقدت شاهدا على مخزونها .. فان تسامرنا في طرائف أحمق قبل أربعين عاما ، فان كان من يشاركنا الحديث عن ذلك الأحمق ، فان الحديث سيكون بنكهة ممتعة ، وعندما لا نجد من يحفل بذلك الحديث سنحس بغصة ، لزوال شهود الذاكرة ..

كانت قرية ( العتيقة ) هي صورة لكل ذلك ، فهي وإن كان اسمها قد يكون منحوتا ، فلم يعد للاسم أهمية ، فقد تجدها شمال غرب العراق أو في صعيد مصر أو على الحدود السورية الأردنية ، أو في جبال الأطلس .. فلا فرق ، طالما أن شواهدها قد زالت .. فلم يعد للاسم أي معنى ..

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 30-03-2006, 06:31 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 2)

لو أقبلت على القرية من جهة الجنوب لرأيت مئذنة مسجدها الوحيد بارزة بارتفاع واضح حيث بني المسجد في أعلى نقطة بالقرية .. و سيكون عليك أن تسير بمحاذاة طريق معبد ضيق ، أو يمكنك السير فوق الطريق المعبد الذي قيل أن الألمان قد عبدوه .. ولم يتلف ، لا لدقة الألمان في التنفيذ ، بل لندرة ما يسير فوقه من سيارات .. وكانت بعض الجهات تقوم بين كل عدة سنوات في رش قليل من الرمل الناعم و سائل أسود يغلي ، لإخفاء ما قد يحصل على الطريق من تلف قليل ..

وكان الأطفال يتمتعون بالسير فوق الطريق وهم حفاة ( طبعا كعادتهم ) .. وكانت لا تمنعهم حرارة الصيف من الاستمرار في السير على الطريق ، فكانت أقدامهم قد تطورت ، بحيث أصبحت أقرب الى خف البعير ، وكان ما يزيل إحساسهم بحر الطريق ، هو تتبعهم لفقاعات تكونت من فعل أثر الشمس على السائل الأسود الذي تجمد ، ولكن حرارة الشمس تنفخ بعض الفقاعات فيتتبعها الأطفال ليدوسون عليها بإبهام الرجل .. فتحدث صوتا يبتهجون به .. أو لعلهم كانوا يبتهجون به ، لندرة ما يبهجهم ..

لم يكن للقرية ألوانا زاهية يصبغون به بيوتهم ، ولم تكن في القرية أشجار تظهر عن بعد ، بل كان في القرية شجرتان من الكينا ( اليوكاليبتوس) واحدة تظهر عليك إذا أتيت القرية من الشرق ، وواحدة تظهر اذا أتيتها من الشمال ، وكانت الشجرتان تسهل مهمة من يصف بيتا لأحد ، وكان نادرا ما يسأل أحد عن بيت و يتغلب في إيجاده .. لكن كانت كل شجرة من الشجرتين تشكل شاهدا استقر في ذاكرة من يتذكر ..

كان الأطفال ، غالبا ما يسيرون باتجاه الطريق الذي يخترق القرية ، باتجاه الجنوب ، ويسيرون كفرق للبحث عن ألغام .. كلهم يرمون رؤوسهم في الأرض مطرقين ، عل أحدهم أن يجد علبة فارغة من أي شيء ، رموها السواح بعد أن استفادوا من محتوياتها .. فإن كانت العلبة مسطحة كعلب ( السردين مثلا) التقطها الطفل ، وربط بها خيطا ، بعد إحداث ثقب بطرفها ، و ملأها بالتراب وأخذ يلعب بها كسيارة .. و إن كانت العلبة أسطوانية ونظيفة ، فإنها ستضاف للأواني المنزلية ، كوعاء يغرف به الماء أو يسلق به البيض .. وإن كانت مغلقة من الجانبين ، لكنها ليست بتلك النظافة ، فإن الطفل يحدث في أوسط طرفيها ثقبين ويدخل بها سلكا و يعتبرها عجلة يلعب بها ..

و كانت لحظات فرح كبرى ، إذا عثر الطفل على بقايا علبة بها محتويات غذائية ، أو حتى بعض أجزاء فواكه يرميها الموسرون الذين كانوا قد مروا فوق الطريق قبل أيام أو حتى أسابيع .. فلم يكن الأطفال المعدمون يوفروا شيئا ، أو يتعففون عنه .

كان لون القرية في الشتاء هو لون التراب ، وكان في الصيف قد تلون عند بعض المقتدرين بلون حجري كلسي أبيض ، لا يصمد الا لشهرين أو ثلاثة ثم يختفي نتيجة لخواصه الكيميائية أو نتيجة لنزول مزنة من المطر خالفت الموسم وسقطت في غير حينها .. وعلى العموم لم تكن الألوان متوفرة ، فقد أدخلت الدولة لونا جديدا عندما صبغت المدرسة الوحيدة بلون ( سمني ) لا هو بالأصفر ولا هو بالبني .. وقد أثار ذلك اللون إعجاب المواطنين .. و أضاف عاملا جديدا لتهيبهم من الدولة ..

إذا اقتربت من القرية ، عند المساء ، فتستطيع التعرف على رائحتها بسهولة ، فهي مزيج من روائح فضلات الحيوانات الطازجة ، أو المحترقة لإبقاء حرارة أفران الخبز على ما هي .. حيث كانت النساء تغطي ( التنور ) بطبقة كثيفة من زبل المواشي المتخمر ، والذي لم يجف تماما ، فحين يلامس بعض الجمر المختفي في الغطاء القديم ، فإنه يبدأ بالاشتعال البطيء طيلة الليل ، وحتى الصباح .. فإن جاء الصباح وضع بعض ( الجلة ) اليابسة ، أو قطع صلبة من سيقان نباتات القمح ( قصل ) لم تستطع الحيوانات أكلها .. فتشعلها النساء ، داخل الفرن ( التنور أو الطابون ) .. فيصبح مهيئا لإعداد الخبز .

كانت تلك الروائح الممزوجة ، تلتصق بأثاث البيوت البسيط ، وبملابس الأهالي فلا أحد يتأفف من رائحة الآخر ، طالما أنهم يتشابهون فيها ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 01-04-2006, 10:01 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(3)

لم تكن مهمة خبير المساحة الإنجليزي سهلة ، فقد أوكلت إدارة الانتداب البريطاني في أواسط الثلاثينات من القرن السابق ، الى المساح ( موفد ) مهمة تنظيم وتقسيم و إفراز أراضي ( العتيقة ) .. وقد أقام ( موفد ) مع فريق عمله عدة سنوات ، حتى أنجز مهمته الصعبة ..

لقد كانت أراضي العتيقة والتي بلغت مساحتها أكثر بقليل من ثمانية عشر ألف هكتار ، في حالة تنازع بين سلطتي الانتداب الفرنسي و البريطاني ، وعندما تم إلحاق ( العتيقة) بإدارة الانتداب البريطاني .. شرعت لتنظيم تلك القرية .. والتي كان أصحابها يحتفظون بسندات تسجيل عثمانية ، وقسم كبير يحتفظ ب ( حجة) تملك .. وهي سندات تنظم بوجود شهود ، على أن فلانا قد باع لآخر أرض ..

لقد مر على هذه القرية ، عدة موجات توطن ، فتجد بآثار ( الخرائب) ما يشير الى وجود توطن في العهد اليوناني و الروماني و الأموي و المملوكي .. ولكن ليس بالقرية من يدعي بالقدرة على تتبع وجود أجداده ، لأكثر من مائة وخمسين عاما .. رغم وجود علماء نحو و تاريخ تنتهي أسماؤهم بالعتيقة .. لكن لم أسمع من المسنين ، أن أحدا يقول أنه من أحفاد النحوي عبد الله العتيقي أو المؤرخ محمود العتيقي ..

عندما تأملت في ظاهرة عدم تتابع وتواصل أجيال ( العتيقة ) ..عن دون القرى والتجمعات السكنية التي تقع غربها بعدة أميال ، ركزت نظري ، علني أجد لذلك سببا .. فوجدت أن القرية كانت تقع على مقربة من الصحراء ، لكنها تتفوق على الصحراء في أنها تستطيع إطعام بضعة مئات من العائلات من إنتاجها ..ولكن دون انتظام .. ففي بعض العقود كانت سنين القحط تمتد الى خمسة سنوات أو أكثر ..

كان التصاق سكان القرية بها ، ضعيفا و إدارة الدولة العثمانية ، لم تغطيها بشكل يكفي لدرء هجوم رعاة الأغنام و الإبل ، الذين كانوا يستغلون سنين الغلال والمواسم الجيدة ، ليرعوا بها و يهجرون سكانها أو يقتلونهم .. فكان بقائهم بها يتوقف على الجانب الأمني ..

وقد عاود السكان التوطن بها في أواخر القرن الثامن عشر .. ولو تتبعت أصل سكانها ، لأفادك كل منهم أن أجداده أتوا لتلك القرية ، بعد أن قتلوا شخصا في القرية الفلانية ، وستجد منهم أصولا من أربعة أقطار عربية مختلفة . أو هربا من الخدمة في الجيش العثماني ، حيث كنت تجد في القرية عشرات العرق ( بضم العين و مفرده عراق وهو ثقب أو كهف في أبط تل ) يسهل على المتخفي أن يبقى به هو عياله و حلاله دون أن يفضح أمره ..

كان على (موفد) أن يوفق بين عدة مئات من الرجال الذين كانوا ينتمون لعدة عائلات ، انقسموا في السابق الى قسمين : قسم أراد أن يكون تحت الإدارة الإنجليزية و قسم أراد أن يكون تحت الإرادة الفرنسية ..

فقسم الأراضي الى مائة و ثمانين ( ربعة ) والربعة كانت تساوي بين ثمانين هكتارا و مائة و عشرين هكتارا .. حسب خصوبتها .. وحسب تراضي لجنة ممثلي المالكين ..

لقد كانت الأراضي قبل وصول ( موفد) تقسم الى ( دواقير ) و ( الداقورة) هي مساحة الأرض التي يمكن لأسرة حصادها في يوم واحد .. ويبدو من شكل التقسيم السابق ، أن دوافعه كانت أمنية بحتة ، حيث يرحل الحاصدون كلهم الى اتجاه واحد يحصدون و ينقلون قشهم و غلالهم في نفس اليوم على الجمال ، ويحتمون بكثرتهم أمام هجمات الرعاة ..

وقد حسم أمر الرعاة و البدو قبل مجيء ( موفد) بحوالي عشرة سنوات عندما انتهت الحرب ( حرابة ) بين البدو والفلاحين والتي قتل بها عشرات الأشخاص من الطرفين وانتهت لصالح الفلاحين الذين أثاروا إعجاب سكان القرى المجاورة ببسالتهم .. و خلدت القصائد الشعبية تلك ( الحرابة ) التي استمرت تسع سنوات متواصلة .. حتى استقر شكل الأرض للفلاحين .

كان رؤساء العائلات الذين جلسوا مع ( موفد) لتسوية أراضي القرية ، يراعون جانب العلاقات بين المتجاورين .. فوضعوا شكلا للملكية لا يزال يثير إعجابي لدقته و عدله في كثير من جوانبه .. فقسموا ال (180 ربعة ) الى 36 قسم سموه الخمسات أي كل خمس ( ربعات ) جزء ووضعوا له رئيسا و ممثلا عن الملاكين .. وبين كل خمسة وخمسة طريق ضيق بعرض ثلاثة أمتار ، وبين كل عشر( ربعات ) طريق بعرض ستة أمتار ..

لقد ترك للبلدة جذرا سمي فيما بعد ( جذر البلد) و كان بمساحة تسعة كيلومترات مربعة .. و ترك حول الجذر ( بيادر ) لنقل القش ودرسه و تذريته واستخلاص الحبوب منه ..

لقد طال رؤساء الخمسات ، نصيب من الحظوة الإضافية ، وكانوا ست وثلاثون شخصا ، حيث تضاعفت حصصهم عن دون سكان البلدة ، ولربما كانت تلك أجورهم من قبل الإنجليز بدلا من أتعابهم خلال سنين التنظيم .. وأصبح
هؤلاء أكثر أهل البلدة وجاهة ، وهم الأكثر تأثيرا و الأكثر قربا من الحكم !
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 01-04-2006 الساعة 10:18 AM.
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 03-04-2006, 06:08 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(4)

لو تم إلزام ( موفد) برسم أو تنظيم جذر ( العتيقة ) ، لاعتذر ولو استعان بأحدث الطائرات للرسم الجوي ، فقد كانت شوارع القرية على عداء سافر مع كل ما هو مستقيم .. لقد كانت أشبه باللعب التي توضع في المجلات أو الجرائد تحت عنوان ( الطريق الى الكنز ) .. كانت أشبه بالمتاهات الموضوعة بمكر .

لكنها لم تكن آتية من غايات ماكرة .. بل كانت تمليها طوارئ الأفكار التي تنمو كأعراض جانبية لمرض ، فقد تنتشر على وجه أحدهم بثور ، ولكن تلك البثور آتية من التعرض لحمى أو خلل في الأجهزة الفسيولوجية ، ولم تكن البثور بحد ذاتها مرضا .. كذلك هي حالة الأفكار المتعلقة بالبناء عند أهل (العتيقة ) ..

فقد تتدخل طبوغرافية الأرض في تحديد شكل المنزل ، حيث يكون قرب جرف أو قبر ولي أو بئر قديم .. وبالتأكيد فإن السور للمنزل كان يأتي بمرحلة متأخرة حيث تتشكل الغرف ، وملحقات المنزل من حظائر و مستودعات لتخزين الأعلاف وغيرها ..

لم تكن وحدات القياس كما هي اليوم ، فلم يكن للياردة أو المتر أي مكان ولا حتى الذراع ، بل كانت المقاييس معنوية ، تتفق مع الموجودات المتحركة من الكائنات المتعايشة مع الساكنين ، وما يتعلق بما تحمل على ظهورها .. فكان الارتفاع للبوابة يتناسب مع ارتفاع الجمل و هودجه وما يحمل ، وكان عرض الشارع يأخذ بنظر الاعتبار التقاء جملين أو حمارين عليهما حمولتهما .. فوظيفة الأشياء كانت تحدد القياسات لا علوم الهندسة والحساب .

وكانت ارتفاعات الغرف أو الحظائر أو الأسوار ، تراعي نقاطا لها جانب أمني وخصوصي في بعض الأحيان ، فغرفة النوم ، وهو اسم خليع لا يتناسب مع تلك الحالات التي بنيت من أجله الغرف ، بل كان يطلق على الغرفة اسم بيت و على البيت دار وليس منزل ، كان ارتفاعها يتحدد بالمساحة التي تلتف عليها قنطرة حمل البيت ( الغرفة ) ..فان كان عرض الغرفة خمسة أمتار ، فكانت القنطرة التي تبنى على شكل نصف دائرة ، لا بد أن يكون نصف قطرها لا يقل عن ثلاثة أمتار فستجد أن معظم الغرف يزيد ارتفاعها عن أربعة أمتار .. أما في الحظائر والغرف الأقل شأنا فإن الارتفاع ينخفض قليلا ، معتمدا على تقنيات تختلف بعض الشيء عن بناء غرف النوم ..

كنت إذا دخلت ( زقاق ) وهو الاسم الجدير أن تحمله تلك الشوارع .. لا ترى الا جدران طينية مصمتة ، لا نوافذ عليها ، حتى لا ينكشف ما بداخل المنزل من عورات .. و أحيانا كنت تجد ( طاقة ) وهي فتحة بأعلى الجدار لا تسمح لمن تسول له نفسه لا الدخول من خلالها و لا حتى النظر ، حتى لو استخدم سلما ، فامتداد نظره لن يرى من في الغرفة ، بل سيصطدم بنقطة على الجدار المقابل وعلى نفس الارتفاع لسماكة الجدار الذي يقل عرضه عن متر بقليل ..

كان يصدف المارة نتوءات بارزة في الشارع بين كل مسافة منزلين أو ثلاثة وهي مكونة من طين وحجر ترتفع حوالي مترا وربع أو بعلو ( الحمار ) وعرضها أقل من متر ، أو بعرض ( خيشة التبن ) .. كان يطلق عليها ( مقرص) .. وكان الاسم مشتقا من الوظيفة التي تقوم بها تلك النتوءات .. فهي ان أخذت على أساس أن النساء يقرصن عليها العجين قبل خبزه ، فالاشتقاق جائز هنا .. وان كان الهدف منها هو ، وضع ( خيشة التبن ) من على ظهر الحمار ثم قرصها ، لتفرغ محتوياتها في مخازن التبن ، فالاشتقاق أيضا جائز .

كانت الرطوبة والملح ( بفتح الميم واللام ) قد أكلتا من أسفل الجدران ، فكونتا بجانب الجدران ، هالة من الرماد الناعم جدا والذي لا يتحرك من مكانه ، فكنت تجد في بعض الأحيان صبيانا يبحثون بين ذراته المتراكمة عن صنف من الحشرات ، ليستخدمونه كطعم لفخاخ الصيد ، وكانوا يطلقون على تلك الحشرة اسم ( كعكل .. بضم الكافين ) ..

واذا واصلت السير ، فستجد انبعاجات في الزقاق عند التقاء زقاقين أو أكثر فتتسع المساحة هناك ، لتسهيل عمليات فرز الحوش ( بفتح الحاء و الواو ) وهو قطيع الأغنام و الماعز ، الذي كان يوكل لراعي يجمع ما للناس من ماشية ليرعى بها طيلة النهار ثم تفرز أثناء عودتها لأصحابها ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 05-04-2006, 08:18 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(5)

تندرج حاجات الإنسان تحت ثلاثة مستويات ، الأول يعني بأساسيات الغاية من الحاجة نفسها ، وقد يسميه بعض العلماء المستوى ( الحدي ) .. فاذا كانت الغاية من المسكن هي الوقاية من الوحوش و اللصوص و عوامل الجو كالأمطار والحرارة وغيرها ، فإن كهفا سيشبع تلك الحاجة ، أو أي أربع جدران و سقف وباب ..

وهذا ينسحب على الملبس ، فالغاية هي ستر العورة و اتقاء البرد . ويمكن أن يقال هذا الكلام عن الطعام و الشراب و غيره ..

والمستوى الثاني ، يتعلق بصناعة نمط خاص بجماعة ، يطلق عليه العلماء اسم ( الرمزية ) وهو يعني بالتطور من حالة الإشباع الأساسية ، الى حالة إيجاد لون خاص بالجماعة ، والحديث هنا عن الجماعات الطبيعية وليس عن الجماعات المصطنعة ..فتجد نمط بناء مدينة أو حي مأسور بنمط يعبر عن لون حضارة الناس الذين أوجدوا هذا اللون .. فلو ذهبت الى شارع الرشيد في بغداد أو الى البصرة ولون شناشيلها ، أو الى أحياء حلب القديمة ، أو الى مدينة بولونيا شمال إيطاليا ستجد هذه الرمزية واضحة ..

هذا الكلام ينسحب على أزياء اللبس و أصناف الطعام .. فبعد أن تشبع الحاجة الأساسية الأولى في الستر ، فإن اللون والزي يصبح آسرا لمن يحاول إشباع حاجته ، فيكون غطاء الرأس و الدشداشة لونا عند بعض أبناء العرب ، وسيكون نشازا من يعتمر(برنيطة ) في حين يلبس الدشداشة ..

ويأتي المستوى الثالث ، وهو التخصص في إيجاد ميزة استثنائية للفرد تميزه عن غيره ، و قد أطلق عليها المختصون ب ( الأستيطيقية ) .. وهي كمن يضيف نقشا معينا على حجر البناء ، أو قرميدا ، أو بعض الصنوبر فوق الطعام أو بعض الإضافات التمييزية على الملابس الخ ..

إن تطور الحاجات و إشباعها وفق سير منتظم ، يعطي الحضارة سمات مستقرة ثابتة أصيلة ، و بعكسه فإن الطفرات و عدم التدرج بنمو تلبية الحاجات يجعل الارتباك سمة الحضارة .. فقد تجد بأحياء بعض المدن العربية أنماط بناء مختلفة و متجاورة فتجد قصرا على النمط المغربي ، يجاوره قصر على النمط الماليزي و بجانبه فيلا على النمط الأوروبي .. كما تجد لهجات المواطنين ، متنوعة تنوعا مبتذلا ، فمنهم من يتكلم بلهجة الريف ( الجلفة ) ومنهم من يتكلم بلهجة أهل الشام ، ومنهم من يحشر كلمات أجنبية في حديثه ، بمناسبة و من غير مناسبة .. وقد تجد كل هؤلاء من جد واحد ، ومنشأ أصلي واحد !

لم يكن أهل العتيقة ، يتطاولون بتفكيرهم ليرتقوا فوق المستوى الأول من إشباع الحاجات عندهم ، بشكل كبير ، فقد كان أهل القرية يحاولون إشباع حاجاتهم ، بكثير من التقشف و التدبير القاسي للاستفادة من الطبيعة التي حولهم مع بعض الإبداعات البسيطة غير المكلفة ..

لو أراد أحد أن يدخل بيتا من بيوت العتيقة ، فعليه أن يطرق الباب بكل ما أوتي من قوة ، حتى يسمع طرقاته من في الداخل ، والذين يكونون في الغالب ، ليس على مقربة من البوابة .. وكان قسم من الناس يضع على البوابة مطرقة معدنية على شكل قبضة يد صغرى ، مثبتة في أعلى البوابة على مستوى رأس الطارق البالغ ، ولها مفصل يسمح لها بالحركة والطرق على نتوء معدني أسفل طرف القبضة .. وكانت تلك التقنيات مما يميز طبقية بعض الناس !

أما البوابة ، فكانت من ألواح خشب الشوح ، غمست بالقير قبل رصفها ، حتى لا تتشقق بفعل العوامل الجوية ، وربطت ببعض بواسطة شرائط معدنية سميكة تثبت القطع ببعض بواسطة ( أسافين ) معدنية .. وهي كما أسلفنا بارتفاع أكثر من مترين ونصف ، لتسمح للخيال أن يدخل ، أو البعير المحمل .. وكانت بعرض أكثر من مترين ، ومثبتة بواسطة عمود خشبي أسطواني بطرفها ، يرتكز داخل حفرة في حجر صلب يسمى ( صعرور ) يسمح بفتح البوابة دون تغيير مكانها ، و يخترق فتحة في حجر ( الحنت ) الذي يعلو البوابة ..

لم تكن البوابة تفتح الا في مناسبات معينة ، أما الذي يفتح ، فهو فتحة عملت داخل البوابة ، بوسطها ترتفع عن الأرض بمقدار ذراع ، وهي بعرض رجل سمين ، وبارتفاع يسمح له بالدخول دون صعوبة .. وكان لها مفصلان مثبتان بجسم البوابة ..

أما القفل أو الغال أو ( السكرة ) فكانت مصنوعة من قطع خشبية متداخلة من خشب الجوز ، ومفتاحها قطعة خشبية مستقيمة ثبت به نتوءات معدنية ، ترتيبها يختلف من بوابة لأخرى و كأنها استنبطت من طريقة ( بريل ) للكتابة عن العميان ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 10-04-2006, 05:02 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(6)

لو سمح لك أن تدخل الى داخل ( الدار) .. ولم تكن هناك موانع أصلا ، لتحول دون دخولك .. فالبوابات دائما تكون مفتوحة من خلال الفتحة التي تسمح بدخول من يريد .. فيكفي أن تطرق الباب أو تصرخ بأحد العبارات التي تدل على وجودك ، كأن تقول ( يا ساتر ) أو ( يا الله يا الله ).. أو تصرخ ( منو هون )..
فكلها إيماءات تعطيك إشارة مرور .. ونادرا من يكون هناك من يسألك ( منو هذا؟) .. بل ستسمع صوتا واضحا ( فوت جاي ) .. وقد يشاغلك في بعض الأحيان نباح كلب ضجر ، فقد حماسه في الدفاع عن حرم البيت ، لجوع ألم به ولربطه لمدة طويلة ، أو حتى يكون بلا رباط ، فكل الأماكن تتشابه عنده ..

سيكون على يمينك أو يسارك ، نافذة طويلة عليها قضبان حديدية مبرومة ، لكنها مفتوحة باستمرار ، لتسمح لمن يجلس مقابلا لها ، أن يرى من يدخل للدار أو يخرج منها .. وهو غالبا ما يكون رجلا مسنا ، يعبث إما بلحيته ، أو يناغي أحد أطفال الدار ، أو يشغل نفسه بتنقية التبغ من عيدانه القاسية تمهيدا لفركه ، أو أنه غارق في نوم لحظي ، يستفيق بعد أي إنذار من أي نوع ..

وبالواجهة المقابلة للنافذة من المدخل ، ستجد حظيرة ( بايكة ) ، لمبيت حيوانات الركوب أو العمل .. وقد تم وضعها في هذا المكان ، نظرا لأن أحد الزوار ، قد يأتي راكبا على فرس ، فلا بد من الإسراع بربطها في هذا المكان ، ولو دخلت الى داخل تلك الحظيرة ، لوجدت في داخلها المعتم ، بعض الطوالات وهي مداود يوضع فيها العلف أمام الحيوانات ، التي تربط بوتد قرب المدود . واذا جلت بنظرك ، فإنك ستجد أوتادا دقت في الجدران المكونة من الطين و الحجر ، وعلى ارتفاع مناسب ، لا يصيب رأس المار ، وعلق عليها بعض الأدوات الزراعية ، كالمذراة أو الغربال أو الحواة أو الحياصة أو مجموعة حبال وكلها أدوات لا يمكن الاستغناء عنها ، لكنك ستجدها معلقة ، إذا لم تكن في الخدمة ..

بجانب حظيرة الحيوانات ، ستجد مخزنا للتبن ، وهو لكي يستوعب مخزونا كبيرا من التبن ، قد يحتاجه صاحب الدار لثلاث سنوات ، إذا ما تعذر على الحصول على تبن جديد نتيجة لسنين القحط .. فإن من أنشأه قد حفر أكثر من مترين في أرضيته لتكون حيزا إضافيا للتخزين .. وأحيانا يحفر في الأرضية المنخفضة أصلا ، بئرا لخزن الشعير أو القمح ، لإخفاءه تحت التبن عن عيون السلطات العثمانية ، عندما كانت تجمع محاصيل الفلاحين لإمداد الجيش ..

أما ما يحاذي ( مخزن التبن ) فكان شيئا بلا باب و لا سقف ، كان يطلق عليه (الشونة ) وهو ما يزال من تحت الحيوانات من فرش مبلل ، بعد استخراج ما يمكن تصنيع ( الجلة ) منه .. فكان يكوم بالشونة ، ويترك حتى يتخمر ، فتغطى به ( طوابين ) الخبيز .. وكان من يمر بجانبه شتاءا ، يجد أن بعض الكلاب قد حفرت به و اختبأت طالبة بعض الدفء الناتج من التخمر ..

أما ما يحاذي ( الشونة) فهو ( القطع ) وهو بناء هزيل مسقوف ، ولكنه ملون بالسواد باستمرار نتيجة عشقه للدخان الذي يصدر من ( الفرن ) الذي يتصل به دون فواصل صلدة .. وكان يحفظ به الوقيد المكون من عيدان القمح أو الحمص أو الفول ، والتي لا يمكن للحيوانات أن تمضغها لصلابتها ، هذا بالإضافة الى بعض قطع الحطب و أقراص ( الجلة ) ..

أما الفرن .. فكان له دلالة رمزية ومادية و يرتبط بكل ما يغذي أهل الدار ، لقد كان غرفة أو شيئا شبيها بالغرفة ، له فتحة باب ولكن ليس عليه باب يغلق ، بل كان مفتوحا باستمرار ، فليس هناك ما يسرق منه ، وعندما يكون به ما يطبخ ، سيكون بالتأكيد امرأة تطبخ و تحرس ما تطبخ .. وكان من الصعب على من يحاول أن يدخل الى الفرن أن يرى حتى المرأة التي تطبخ ، فهي تربض وسط جو مفعم بالدخان ، الذي يدمع العيون ، ولحسن حظ من ينتظرها في إنجاز الطعام ، فإن مكونات الطعام لم تكن لتحتاج الى إضاءة ، ولا تحتاج الى دقة في المقادير ، أو توقيت إضافة الإضافات ، القلية أو النادرة أصلا .. لقد كان الفرن مجللا بالسواد ، حيث تجمع عليه السنا الأسود المتطاير من الحرق ، منذ تأسيسه ، حتى لو أسس في العهد الحجري ، فلم يكن يجري للسنا ، عمليات إزالة ، لعدم الضرورة !

بجانب الفرن ، هناك غرفة تسمى ( بيت العيلة ) وهي لتخزين المئونة ، وقد صنع لها غال وله مفتاح ، يتدلى في رقبة أكبر امرأة في الدار ( الوكيلة ) وكانت لا تتسامح في النظر اليه ، ولن تعطيه لأحد حتى لو قصوا رقبتها معه . كان به مجموعة من الجرار الفخارية الكبيرة ( بيطس ) و ( بقسة ) ، فعندما تتسع لأكثر من مئة لتر كان يطلق عليها ( بيطس ) .. كان يصنع بها (الكشك) أو يخزن بها السمن في سنين ( الفيض) .. وكان ببيت (العيلة ) مجموعة من أواني جلدية ( جف ) لجلد العجل ، و (شكوة) لجلدة الشاة وهناك ( الزق) وغيرها من الأدوات التي تأخذ اسمها من حجمها و الحيوان التي استخرجت منه، وكان بها مجموعة من (الكواير ) وهي أواني طينية تتسع الواحدة منها لحوالي ربع طن لتخزين الطحين و البرغل و بعض الحبوب التي تستخدم في الطبخ ..وكانت ( الكواير ) تصنع على مهل ، من الطين المخمر المجبول بالتبن وتبنى كل ما جف جزء منها بارتفاع شبر أضيف عليه جزء جديد حتى تصبح بارتفاع مترين تقريبا ، ويصنع لها فتحة من الأسفل ، لاستخراج مخصصات الطعام لذلك اليوم ..

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 16-04-2006, 07:11 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(7)

سيكون دخول الزائر الى الغرفة التي يجلس بها كبير الدار ، وكانوا يطلقون عليها مجازا اسم (مضافة ) .. كان لا بد للداخل أن ينحرف قليلا بجسمه لكي يدخل من أحد فتحتي الباب ، إذ تغلق واحدة منهما باستمرار ، ولا تفتح إلا بالمناسبات ..

كما أن عليه أن يخلع نعليه قبل الدخول ، واضعا حذاءه في انخفاض يهبط عن سطح أرضية ( المضافة ) بحوالي شبر ، يكون بعرض متر تقريبا ، ويمتد من سعة الباب الى طرفي الغرفة ..

كان صاحب الدار ، لا يقوم بوجه زواره إلا فيما ندر ، ونادرا ما يشير للزائر بمكان الجلوس الذي يجب أن يجلس به ، فالزوار يعرفون أمكنة جلوسهم جيدا ، فيكون عليهم أن يجلسوا قبالة صاحب الدار ، في وضع لا يسمح لهم كثيرا برؤية مساحات واسعة من الدار ، حيث يخصص المكان ذاك فقط لصاحب الدار .

كانت ( المضافة ) وهي الغرفة التي يستقبل بها الزوار ، أفضل و أوسع غرفة بالدار ، وهي الوحيدة التي تكون أسطح جدرانها مستوية بعض الشيء ، وخالية من النتوءات الواضحة ، بعكس الغرف الأقل أهمية ، التي غالبا ما يقوم ببنائها أهل الدار أنفسهم ، بالإضافة الى معاونة الجيران أو الأقارب ..

كانت أرضيتها تغطى بطبقة من الإسمنت المخلوط بحصى الوديان ، والمصقول بعناية ، حيث كان يرش عليه مسحوق الإسمنت بعد مد المخلوط الطري ، ثم يصقل بأداة خاصة .. وكان هناك الكثير من الأرضيات التي تمد بالجير الحي ، الذي يخمر قبل المد بقليل ..

كنت تجد في جدران المضافة ، تجاويف صنعت داخل الجدار السميك ، وأصبحت كأنها ( خزائن ) .. تحفظ بها بعض اللوازم لصناعة القهوة و الشاي وبعض أوراق التبغ المفروم ، وستجد بها إن اجتهدت حجر ( مسن ) لسن سكينة يحتفظ بها ( الشايب ) لأغراضه الخاصة في جيبه ، وستجد (قنينة) بنزين لملئ مقدحته ، وبعض عينات من القمح ، وكتيب للمولد النبوي وبكيت حلو شعبي أو بعض التمر الخ .

كان يتوسط ( المضافة ) حفرة بسيطة مربعة طول ضلعها أكثر من متر بقليل ، ثم صبت أرضيتها أو ثبت بها أحجار ملساء ، وحددت بأحجار ملساء أيضا ، لتصبح موقدا توضع به ( دلال) صنع القهوة .. فيحيط الجلساء بها ..

وعلى بعد منها ، يكون هناك ثقب مصنوع بمتانة ، ليثبت به عمود معدني بطول مترين أو أكثر قليلا ، معقوف الرأس ، يتدلى منه قفص زجاجي مثمن الشكل ، مثقوب من أسفله ، ويثبت داخله ( سراج ) يزود بالنفط ، من أجل الإضاءة ..

أما سقف الغرفة ، فإنه يكون من قصب خاص ، يتراص بجانب بعضه البعض ويكون بسمك ( بوصة ) تقريبا .. ويرتكز على جسور معدنية بشكل حرف H وتكون الأبعاد بين جسر وجسر حوالي المتر تقريبا .. كانت بعض طيور السنونو تعشش به ، دون أن يضايقها أحد في مرواحها و مجيئها لاعتقاد بقدسية ذلك الطير .. وقليل من الناس من كان يغطي منظر القصب هذا بطين أو ( كلس ) أو إسمنت ..

كنت تجد أحيانا بعض البيوت ، علق عليها صورة ( لفاطمة المغربية ) أو (جول جمال ) .. أو ( الزير سالم ) .. وبعضهم قد علق على الجدران التي صبغت بمحلول كلسي أحيانا يلون بلون ( النيلة ) .. قطيفة ناعمة ، لا يمكن معرفة لونها الأصلي تماما لما عشقت من أدخنة الفحم أو الحطب الذي اشتعل طيلة سنوات .. ونادرا ما تغسل ظنا من أن صورة الوحش الذي عليها ستزول بالغسيل ..

أما غرف ( النوم ) وهو اسم أتحفظ عليه ، فكانت أقل سعة من المضافة ، فكنت تجد بها ترتيبا بجدرانها ، يسمح بطي الفرشات و الألحفة عليه ، وان كان ساكنوها هم من المتزوجين خلال عشر سنوات ، فإنك ستلاحظ بأعلى الجدار المقابل ، رفا من الخشب الذي ثبت عليه حافة متعرجة ، لونت بلون أخضر قاتم ووضع وسط اللون الأخضر بقع بيضاء .. ورص فوق الرف بعض الأواني النحاسية ، والسلطانيات ، للتفاخر بأثاث العروس ، وعلق أسفل منه ، بعض الأواني التي صنعت من قش القمح ، ولكل آنية اسم يتناسب مع وظيفتها ، (فالمرجونة لحفظ الخبز ) و ( المغمقان لنقل الحبوب) و ( القبعة لحفض البيض) و( الطبق يوضع تحت السفرة !) .. الخ

كانت أرضيات الغرف تكسى ببساط من شعر الماعز أسود يقال له (بلاس) وأحيانا يكتفى بالحصير لتغطية الأرضيات .. وكان من يجلس في تلك الغرف من النساء ، لا بد أن يكون بجانبها ( رمح ) من قصب طويل ، لطرد الدجاج الذي يقتحم عليها انشغالها بتنقية بعض الحبوب ، وحتى لا يلوث أرضية غرفتها بالزرق ..

كانت النسوة ، لا تتحرج من رؤية الداخلين الى حرم الدار ، ولكن الاحتياطات كانت كافية ، لأن تكون المرأة في حيطة فيما لو دخل أحدهم حرم الدار ، وهي في ملابسها الداخلية ، والتي هي أكثر سترة من ملابس اليوم في جميع الأحوال ، فقد كانت تعاريج ممرات الدار ، تسمح بسيطرة من في الداخل على رؤية القادمين ، لا العكس ، تماما كما في أوكار الثعالب ..

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #8  
قديم 22-04-2006, 07:30 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(8)

لو سألك أحدهم عن ملحقات الدار ، فإنك ستفاجأ للحظة ، ثم تستحث ذاكرتك ، لتكتشف أن ملحقات الدور لم يعد منها قائما في هذا الوقت أي نموذج ، فستبادر لنفض غبار السنين الطويلة من على رفوف مخططات بسيطة وبدائية لتوابع ، لن تخطر ببال أحد إلا في لحظة تصميمها ..

لم يكن في الدور ، خطوط لإسالة المياه ، لا الواردة ، ولا المصروفة ، فكنت ستجد بئرا حفر في منتصف ساحة الدار ، بعمق يصل أحيانا الى ثمانية أمتار ، ويأخذ شكل حفرته ، ثمرة الكمثرى ، كان يحفره أناس صبورون ، بعد إزالة التربة الطينية ووصولهم الى طبقات الصخر ، فإنهم ينقرون في الصخر بجلد كبير لمدة شهرين أو أكثر ، بواسطة أدوات معدنية ، العمل بها مضني .. ويضعون في أعلى الحفرة بكرة يربط بها حبل مزدوج ، لنزول من يحفر صعوده ، ولاستخراج ما يجمعه من قطع صخر ، فيضعها بقفة ويقوم بشد طرف الحبل حتى تتناول القفة في النهاية زوجته أو ابنته منه .. فترمي محتوياتها في مكان يبعد عدة خطوات عن مكان الحفر .. وستوظف تلك القطع الصخرية في شأن آخر ، ذات يوم ..

كانت الآبار تتسع بعد تشييدها و إغلاق مساماتها الصخرية بواسطة ( الجير) الى حوالي مئة متر مكعب من الماء .. وكان هذا يكفي طيلة العام ، لسقي الحيوانات و القيام باستعمال ماء البئر في شؤون أخرى ، عدا الشرب ..
وكانوا يزيلون ما ترسب به من ( سمالة ) أي الطين كل خمس سنوات ، ويوظفوا ذلك الطين في عمل ( الطوب ) بعد خلطه بالتبن ليشتد و لا يتشقق !

كان يلحق بالبئر (جرن ) وهو قطعة حجر تتسع لأكثر من خمسين لترا من الماء ، توضع في تجويفها الذي نقر ليصبح كماعون ، به فتحة في أحد زواياه السفلى ، لتصريف ما يتبقى من الماء المتسخ ، من عبث الحمام أو الدجاج ، أو ما ينزل من أفواه المجترات التي شربت منه ، وكان أحيانا يوضع به قليل من القطران لشأن يخص الحيوانات ، خصوصا الأغنام و الجمال ..

وكان يرمى بجانبه دلو من كاوتشوك أو سطل قديم ، تثبت بأعلى فتحته الواسعة ، قطعة خشب ليربط بها الحبل ، فكان من يستخرج الماء ، يرمي بالدلو الى أسفل البئر ، ثم يمتحه بثلاث أو أربع أو خمس متحات ، وكان من يراقبه عن بعد يتخيل له أن هذا الماتح ، الذي يضع قدميه منفرجتين على حافتي فتحة البئر ، كأنه يقوم بتمارين سويدية من نوع خاص ، هذا بعد أن يكون قد اطلع على تلك التمارين !

كنت ترى في جوانب ساحة الدار ، جدران أقيمت لا على تعيين ، بل لشأن لحظي ، لحبس صغار الماعز ، أو لعمل ( مرحاض) دون حفرة طبعا ، فالدجاج المتجول بساحة الدار ، كفيل بإزالة أي شيء يلقاه ، ولم تكن موجودات المراحيض قد سجلت في قائمة الممنوعات للدجاج ..

وكنت ترى ، قبة من طين صغيرة يقال لها ( قن ) لحجز صغار الكتاكيت و أمهم ( القرقة ) .. كما أنك لو تجولت ، ستجد حظيرة للأبقار ، أخذت زاوية معينة في ساحة الدار .. وسيصادفك بعض الحجارة المثقوبة الناتئة من حائط قائم ، لربط بعض الجمال أو الخيل ..

وكنت تجد بناء مكعب من مترين تقريبا ، تربض به جرة ( خابية) تتسع لحوالي ربع متر مكعب من ماء الشرب .. ومظللة بسقف يمنع أشعة الشمس . كما ستجد حفرة صغيرة في الأرض ، شيدت لوضع الماء للدجاج المتجول ، والحمام الذي ينزل بين فينة و أخرى لالتقاط رزقه أو لشرب بعض الماء .

كما أنك إذا كنت في غفلة من أمرك ، ستصطدم بحبل غسيل ( سلكي) قد هبط قليلا حتى أصبح بمستوى رأس رجل طويل ، وكان يستخدم لنشر الغسيل ، وحفظ اللحوم الزائدة عن القطط ، فاذا ما زاد بعض اللحم ، و أي لحم ، لا بد لذلك من قصة أخرى ، فإن أهل الدار سيرفعون اللحم ليبقى طازجا بقدر الإمكان في صرة معلقة على حبل .. وكانت القطط المقهورة التي تراقب الصرة ، ولكن لا تطولها ، هي من تكشف لك السر ..

أما مياه الصرف الصحي ، وهي قليلة جدا فكان يحفر لها حفرة بحجم حفرة الأشجار ، بجنب كل غرفة بها زوجين ويستحمون داخلها ، ونادرا ما تمتلئ لشدة التقنين باستخدام المياه ..

كنت تلاحظ مجموعة من ( الطواقي ) وهي حجرات صغيرة تصنع من طين على حافات الأسطح ، يربى فيها الحمام ، وتكون بوضع يصعب على القطط الوصول الى (الزغاليل ) .. التي كانت تربى لتغذية ( النفساء ) أو تهدى للعرسان أو النقهاء من مرض ..

كنت تلاحظ سلما ، مركيا على حافة حائط ، يستخدم للصعود على الأسطح ، والتي كان لا يصعد عليها إلا في المناسبات ، حتى لا تصبح نافذة لماء المطر ، من كثر السير فوقها ، فكانت تتكون من طين وقصب و تبن و بعض الجسور الحديدية أو الخشبية ، وكان يضاف عليها طبقة من الطين ( المملس ) كل عام لإغلاق الشقوق ، التي تتكون بعد موت الأعشاب التي نمت من بين طين السقف والتي جاءت بذورها إما من التراب المستعمل أو التبن الذي خلط مع الطين .

كان الصعود على الأسطح ، يعتبر ظاهرة غير محببة ، لما سيكشف من عورة الجيران ، ولو أن ذلك قد تمت الاحتياطات له ، لكن كانت مناسبات الصعود على الأسطح يعلمها الجيران ، فهي إما لإضافة الطين ، أو لنشر القمح المسلوق ، لعمل البرغل ، أو لنشر اللبن المنطل ( الجميد ) أو ( الكشك ) ..

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #9  
قديم 26-04-2006, 07:54 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(9)

يقال أن في اللغة العربية ، عدة ملايين من المفردات ، هناك من يبالغ بعددها فيجعله اثني عشر مليونا ، وهناك من يقول أنها أقل من مليون قليلا ..

مع ذلك فان أهل العتيقة ، لم يكونوا يستعملوا من هذا الكم الكبير ، إلا بضع آلاف من الكلمات ، وأحيانا بضع مئات تستخدم لعدة أشهر ، دون ملل .. ليس لجهل السكان باللغة ، وان كانوا كذلك ، بل لعدم حاجتهم إلا للقيل منها ، تماما كما يحدث في ورشة لتصليح السيارات ، فان الأوامر والأدوات و التشخيص يحصر في قليل من الكلام .. و أحيانا لا يفقهه إلا من يستعمله فقط ..

كانت ( الشمرة ) أي التعبير والطريقة التي تقال بها العبارة المقتضبة ، أبلغ بكثير من استعمال العديد من الكلمات المرصوصة .. فكان إن أراد أحدهم أن يمتدح زرعا في منطقة مر عليها ، يقول ( والله زرع غرب البلدة ) فيصمت قليلا ويضيف ( زرع) .. ويتوقف ، ولكنه يتكئ على ( الزرع) الأخيرة ويعطيها بعض القوة ، مع تجهم في تقاطيع وجهه .. و إن أراد أن يتهكم على قوة رجل ضعيف فيقول ( ما شاء الله عن مروة فلان ) .. فيصمت مبتسما بمكر ويضيف (مروة) .

أما إن أراد أن يأمر أحد أولاده بالنوم .. فيقول ( انغمد ) .. أي ادخل بفراشك كما يدخل السيف بغمده .. وهي إشارة قاسية وكافية لجعل الطفل ينصاع لأوامر أبيه دون تأخير .. و إذا أراد أحد أن يرد صاحب طلب من ذويه (أبناءه أو أقاربه أو معارفه ) فانه يقول له ( تخيب ) .. أي اذهب خائبا فأنا لا أوافقك على طلبك أو رأيك ..

كان لفظ الجلالة ، يحتل مساحة واسعة من كلام أهل العتيقة ، فإن أراد أن يدعو أحدا لتناول الطعام فإنه يقول ( جيرة الله ) .. وإن أراد أن ينبه من في البيت يقول ( يا الله .. يا الله ) .. وان أراد أن يستعجل أحدا فانه يقول (يا الله عاد ) .. وإن رأى طفلا يسقط صاح ( الله .. الله ) .. وإن أراد تقدير كمية ، بالحجم أو العدد أو الثمن يقول ( يا الله تطلع هالقد ) .. و إن أراد أن يرتجي من الله شيئا فيقول ( يا الله ) .. كثيرة هي الجمل المكررة التي يستخدم فيها لفظ الجلالة .. حتى في بداية احتفالات العرس تبتدئ حلقة استهلال الاحتفال ب :

أول الفال ذكر الله لزوم .... نذكر المعتلي قبل الكلام

وعند زفة العريس يقال :

يا الله يا الله يا معبودي يا عالي ... تغفر لنا ذنوب بالجهل عملناها

لقد كانت اللهجة التي يتكلم بها أهل العتيقة موحدة ، فبالرغم من أن جذور أهل القرية تعود الى فلسطين ومصر وليبيا والحجاز وسوريا ، وعائلة واحدة من العراق ، وبعض عائلات من جنوب الأردن ، إلا أنهم اتفقوا على لهجة (جلفة) تتناسب مع قساوة حياتهم .. فكانت الكاف عندهم تلفظ كما هي في (تشيكوسلوفاكيا ) فان سألك أحدهم : كيف حالك ، يقول (تشيف حالك ) .. ويتطيرون ممن يلفظ الكاف كما هي ، ويعتبرونه متكلف أو مائع ..

وبالرغم من محدودية الألفاظ المستعملة ، فإنك تجد بأمثالهم عمق تاريخي بعيد ، ينم عن مخزون متوارث يمتد الى آلاف السنين .. فعندما يأتي المطر مبكرا ، كنت تسمع من يقول ( إلقحت ) .. أي تلقحت الأرض .. وهو اعتقاد سومري قديم بأن السماء ( ذكر ) و الأرض ( أنثى ) .. وها هي قد تم تخصيبها نتيجة المطر المبكر .. أما إذا دخل (فبراير ـ شباط ) وبدت الحيرة على وجوه الفلاحين ودخل بعض اليأس الى نفوسهم ، فإنك ستسمع مثلا ( بمشير يتساوى اللوكسي مع العفير ) ..أي أن الزرع الذي زرع مبكرا (عفير ) والذي زرع متأخرا (لوكسي ) ، سيتساويان في شهر مارس/آذار .. وهو (مشير) بالتقويم الفرعوني ..

ثم تجد في لغتهم ما يدل على معرفة بالجغرافيا ، فاستقرت قصص في مخزون ذاكرتهم الجماعية ، خصوصا عندما يقوموا بالغناء فتسمع أحدهم يغني ( يا بارزا بين السويس وجدة ) .. ثم يحكي حكاية بنمط غنائي ..

أما اختزال اللغة فكنت تلحظه ، عندما يخرج المنادي ( الصيَاح) ، يبلغ الناس عن فقدان شيء .. فيصيح بأعلى صوته ، وكنا نسمعه على بعد خمسة كيلومترات ، لسكون الجو وخلوه من ضجيج .. فيقول ( يا من شاف .. يا من سمع .. يا من علم .. يا من نشق خبر ) ويكمل بتوصيف المفقود .. فيخبر الجميع بعد أن يضعهم في دائرة العقاب من الله .. بأن من رأى أو سمع أو علم من خلال طرف آخر ، أو استخدم عقله في الاستنتاج ( نشق خبر ) عن ذلك المفقود أن يبدي معلوماته ، ثم يذكر التحذير لمن يخفي ذلك !

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #10  
قديم 02-05-2006, 01:28 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 10 )

لم يكن هناك حاجة للعلم في تلك القرية ، فما الحاجة الى معلومات لا توظف في مجال ؟ .. هذه كانت فلسفة أهل العتيقة ، والتي كانوا يفصحوا عنها أحيانا ، كانت بعض المهارات التي تنتقل بالمشافهة ، من خلال التجارب أو الأوامر المخلوطة بالضرب ، كفيلة بتعليم الصغار ، ما سيقومون به .. فالعلم ، عادة يأتي محاذيا لعلاقات الإنتاج ، وطالما أن نوعية الإنتاج ، كانت محصورة بنمط معروف جدا وهو الزراعة البعلية ( الديمية ) التي تعتمد على الأمطار .. فلا علوم مطلوبة ، ولا حاجة للتدرب ، طالما أن المدربين والملقنين يقفون على رأس عملهم ..

مع ذلك ، وتحسبا للأخطاء في عد الأشياء التي تحتاج عدا ، كعبوات التبن أو الحبوب ، أو الخراف أو غيرها ، فقد رأى أهل القرية أنه لا بأس من التعلم قليلا ، إذا كانت كلفة التعليم غير عالية ، ووقت التعليم ، لا يؤثر على أوقات الاستفادة من الأطفال .. في حين لو أراد أحدهم أن يكتب سندا أو ( حجة) فكان بالعتيقة عدة أشخاص يحسنون التعامل مع الكتابة من هذا النوع ..

كان أهالي القرية ، يبعثون أطفالهم لكتاتيب يقومون بتعليم أطفالهم القراءة والكتابة وبعض علوم الحساب ، مقابل أن يأخذ الطفل معه رغيفا من الخبز كل صباح ، وبعض البصل يوم الخميس ، وعندما يختم ( جزء عما ) فإن للشيخ المدرس مكافأة تساوي علبة من القمح ( 60 كغم ) .. وإذا أنهى (ربع يس) فإن له ضعفها ، وإن ختم القرآن فله هدية يعرفها الجميع ، وهي تكون جديا ، أو (تنكة) سمن أو شيئا من هذا القبيل ..

كان في العتيقة ثلاثة من الكتاتيب ، أحدهم له شهرة ، ويثق بقدراته أهل البلدة أكثر من الآخرين ، وكان هو مؤذن البلدة ، كان قد تلقى تلك المهارة من والده الذي تلقاها هو الآخر من والده القادم من مصر ..

كان عصبيا جدا ، ولكنه يحفظ من قصص طريفة ، يتندر بها أمام زواره ، وقد كانت تلك القصص مقتطفة من ( كتاب المستطرف للمحلي ) .. والذي كان من بين عدة مئات من كتب ، طبعت في مطبعة بولاق منذ أكثر من قرن ..

كان يحتفظ بمحاليل معينة يستخدمها كحبر للكتابة ، وينشغل أحيانا بمعالجة بعض عيدان القصب ، لصنع أقلام للكتابة بها ، فكان يشطف رأس القصبة بطرف السكين ، ليخط على ألواح من صفيح يحضرها الأطفال معهم .. وكان يضع بجانبه مجموعة من مطارق من الرمان لضرب بها المقصرين ..

كان يتجمع ب (المكتب ) وكان هذا اسم المكان الذي يجري فيه التدريس ، حوالي ستين من الأطفال ، خمسهم أو سدسهم من الإناث ، اللواتي كن يجلسن بالقرب من الشيخ في مكان يفصلهن قليلا عن معشر الأطفال الذكور ، وحتى لو لم يكن على بعد ، فلم يكن هناك مجالا لشيء غير مرغوب فيه ، لقوة حضور الشيخ ورهبته ..

كان يقوم بتدريس كل طفل على حدا ، ويحفظ علة كل طفل و أين وصل ، وأين يخطئ ، وكان يستعين باللوح المعدني الذي في يده ، فيقرأ الطفل الذي يجلس على يمين الشيخ قرب كتفه الأيمن ، مرعوبا خائفا ، من أن يخطئ في تسميع الدرس .. فكان الشيخ يمسك باللوح و يسأل الطفل عن الحروف الخمسة الذي أخذها كدرس أول .. هذه : فيجيب أ وهذه فيجيب ب وهذه فيجيب ت حتى ينتهي ثم يعيد السؤال بترتيب مختلف فيشير الى الجيم ، ومن بعدها التاء ، وإن أخطأ الطفل في تسميع الشيخ قراءة الحروف ، يلكزه في طرف قلم القصب برأسه ، ويعيد عليه ( هذه .. يا ابن الكلب ) .. فإن وثق الشيخ بقدرة الطفل ، أضاف له خمسة حروف أخرى حتى ينتهي ، ويتعود الطفل على قراءة الحروف الأبجدية .

ثم يرتقي التدريس الى ( أبجد هوز .. حطي كلمن الخ ) .. ثم يدخل الى التشكيل مباشرة ، ألف فتحة ألف كسرة ألف ضمة ألف سكون ، وحتى الياء ، ومن بعدها ألف فتحتين ألف كسرتين ، ألف ضمتين الى الياء ..

أما درس الحساب ، فكان يتناول الحساب على الطريقة العثمانية ، فبعد الأعداد وتعلمها ، تلي ذلك الجمع والطرح والضرب والقسمة ، وكانت عمليات الضرب تخضع لميزان خاص ، لمعرفة عملية الضرب إن كانت صحيحة أم خاطئة ..

أما الحالة الجماعية للتدريس ، فكانت تتم بقراءة القرآن من سورة الناس الى سورة الفجر .. يتم قراءتها جماعيا ، حيث يقرأ الشيخ آية أو قسما منها ، والأطفال يردون عليه بصوت بهيج ( الهكم : الهكم ) .. ( التكاثر : التكاثر ) .. كان هذا اللون يتم يوميا قبل انصراف التلاميذ ..

أما المتقدمين ، فإنه يفرد لهم وقت خاص على مسمع البقية ، لكن دون تدخل غيرهم في الدرس .. فإن أنهى أحدهم ( ربع يس ) .. يجري له زفة الى مقام ولي ، وهو يلبس ثوبا أبيضا و عباءة مقصبة ، ويحمله ولد أكبر سنا على أكتافه ، ثم يمر به على بيت والده ، فيأخذ بشارة .. وعند الختمة الكبرى ، حيث يتخرج الطفل .. يكون الاحتفال أكبر ، وطبعا سيكون عمر الولد وقتها ، حوالي الخمس عشرة عاما ..

بالمقابل ، كان هناك مدرسة حكومية بها للصف الرابع ، ينظر لها المواطنون نظرة رهبة ، ولا يبعثون أبناءهم لها .. لأنهم إن فعلوا ذلك ، فعليهم أن يكملوا المشوار باستئجار غرفة لهم في مدينة قريبة تحتاج على ظهر الحمار للوصول لها حوالي أربع ساعات ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م