وقبل تفريع الكلام حول تفاصيل تتعلق بالمناظرة وبحكمها الشرعي؛ أرى أنه لا بد من بيان معنى المناظرة، ومن أحسن تعريفاتها التعريف الذي صححه إمام الحرمين الجويني للجدل بعد أن ساق عدة تعريفات، وهو: إظهار المتنازعَيْن مقتضى نَظْرَتِهما، على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة. وأشار ـ رحمه الله ـ في كلامه إلى أنه لا فرق عنده بين الجدل والجدال والمناظرة، وهذا يعني صلاحية هذا التعريف للمناظرة كذلك. وبذلك يظهر من معنى المناظرة أنها: مختصة بتراجع الكلام مع خصم لا يرى رأيك؛ على سبيل إثبات صواب قولك وبطلان قوله. فيكون المراد منها الظهور والغلبة، ولا يبحث فيها فيما إذا كان قوله صواباً أم فيه شيء من الصواب ليتبعه المناظر، وإنما كل طرف من أطراف المناظرة يبتغي العلو على مناظريه بالحجة، ويريد أن يقطع حجج خصومه(1).
وأما الحوار، فإن الكلام فيه يكون على سبيل طلب الحق، وتلاقح أفكار الفريقين، واستفادة كل طرف من الآخر، وليس بالضرورة أن يكون فيه طرف ظاهر غالب، وطرف مظهور عليه مغلوب. قال أبو عبد الله ابن بطة (387): «سمعت بعض شيوخنا ـ رحمه الله ـ يقول: المجالسة للمناصحة فتح باب الفائدة، والمجالسة للمناظرة غلق باب الفائدة»(2)، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «وهي في الاصطلاح ـ أي المناظرة ـ: المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين، يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق»(3)، وقال الزَّبيدي في تاج العروس: «والمناظرة المباحثة والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته»(4).
وسأبين إن شاء الله بعض النقاط التي أرجو أن تتضح بها صورة الموضوع في حكم مناظرة أهل البدع أو مجادلتهم والجلوس معهم للتباحث والنظر، وذلك كما يلي:
1 - إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يُنعم على عبده نعمة أتمّ ولا أعظم عليه من نعمته عليه بالهداية لصراطه المستقيم، وتوفيقه للإسلام وللسنة والجماعة، فكم من محروم من هذه النعمة، وقد أعطاك الله ـ تبارك وتعالى ـ إياها بالمجان بدون استحقاق منك عليه ـ جل وتعالى ـ، فاعرف لهذه النعمة قدرها.
وقد استشعر الصحابة والسلف الصالح عظيم منّة الله عليهم؛ بتوفيقه لهم، وهدايته إياهم إلى السنة بعد أن هداهم للإسلام:
فعن معاوية بن قرة أن سالم بن عبد الله حدثه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «ما فرحتُ بشيء من الإسلام أشد فرحاً بأنّ قلبي لم يدخله شيءٌ من هذه الأهواء»(5).
وقال أبو العالية: «ما أدري أي الغُنمين عليَّ أعظم: إذْ أخرجني الله من الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى»(6).
وسأل المرُّوذِيُّ الإمامَ أحمد بن حنبل: «من مات على الإسلام والسنة مات على خير؟! فقال له أحمد: اسكت، من مات على الإسلام والسنة مات على الخير كله»(7)، فاللهم لك الحمد على هذه النعمة العظيمة؛ أن هدَيتنا للإسلام، ثم زدتنا من فضلك بأن جعلتنا من أهل السنة لا من أهل البدعة.
2 - الانحرافات البدعية إنما تكون ـ في الغالب ـ من باب الشبهات، والشبهات أمراض معدية يجب التوقي من الإصابة بها، فـ «القلوب ضعيفة والشُبَه خطافة»(8).
ولذلك؛ فالواجب على المسلم السنّي ألا يجعل من قلبه مسكناً للشبه، ولا استراحة لها، كما قال ابن تيمية لتلميذه ابن القيم ناصحاً: «لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشْربتَ قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقراً للشبهات. أو كما قال»(9).
وهكذا فليس من دأب المسلمين الموقنين بما أنزل الله على رسوله، والذين هم على بصيرة من أمرهم، أن يتتبعوا الشبهات وأن يجعلوها همّهم، وإنما «المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس لا رداً على شبهة، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم... وإنما من أجل البيان الواجب.. ثم لا بأس ـ في أثناء عرض هذه الحقائق ـ من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء تأويلها من قِبَل الأعداء أو الأصدقاء سواء»(10).
ويكون حال السائر إلى الله والدار الآخرة مع الشُّبه حال المسافر تعرض له الآفات من العقارب والحيات وغيرها، فما عرض له منها في طريقه قتله، وما لا فلا يتّبعه ولا يبحث عنه؛ إذ لو فعل ذلك لانقطع عن سفره وضل الطريق(11).
وعليه؛ فيجب أن يكون هذا منهجاً يُرَبَّى عليه الشباب والمتعلمون، فيُعَلَّمون القرآن والحكمة وحقائق الإيمان واليقين، ثم إن عرض لبعضهم شبهة تولَّى العالم أو المربي علاجها، لا أن تُجْعَل الشبهات والبدع والأخطاء العقدية المسائل التي يُلَقَّنَها من أول سلوكه طريق الهداية، فيتشرّب قلبه من ذلك حب الشقاق واضطراب الرأي والجرأة على خوض هذه المسالك؛ كما هو مشاهَدٌ الآن، والله المستعان.
>>>>
|