صور و أنماط
صور و أنماط 1
قد لا تكتفي الأماكن بشوارعها وأزقتّها وطرازها المعماري حتى توحي للآخرين بصورتها، فتروح تمتحي من بشرها بأشكالهم وطباعهم وعاداتهم ما يعطي تلك الصورة ملامحها الخاصة، و القرية التي شهدت شبابه واحد من تلك الأماكن، فهي تتّسم بسمات خاصة تميّز أهلها عن سكّان القرى الأخرى، سواء على صعيد اللهجة، أو على صعيد الطباع الشخصية، رغم أنها ـ في الأصل ـ تنطوي في نسيجها البشري على فئات شتّى.
وإذا كانت الأعراف والعادات توحّد الناس في أنماط متقاربة، وتنسخهم على شاكلتها، فإن الأمر لا يخلو من شخصيات طريفة متفرّدة لا يطالها المنطق، أو التاريخ أو الذوق العام، شخصيات تعلو على الأعراف والتقاليد، فتخلط الحابل بالنابل، كما تخلط المزاح بالجدّ، وتبوح بالحقائق عارية، من غير أن ينالها العيب أو الإثم أو العقاب، وبمعنى ما فإنّ تلك الشخصيات تبدو في طبيعتها النفسانية، وسلوكها اليومي أقرب إلى التغريب في المسرح، مع فارق وحيد هو المكان. إذ أن المكان هنا هو تيار الحياة العريضة ذاتها . إنّهم ضمير المدينة التحتي وقاعها. فرسانها الذين لا يجدون أي فرق بين الهزيمة أو النصر، فلا غضاضة ولا نشوة، وبذلك يكسبونها علاماتها الفارقة. وقد لا يكون "القطعي" أشهرها. لكنه بالتأكيد واحد من تلك الشخصيات التي لا تحتاج معها لأن تذكر اسم أبيها أو شهرتها، وذلك لأنه غنيّ عن التعريف. أمّا الذين يجهلونه، فلا شك بأنهم سيتلمسون الخلل في شخصيته، رغم أن تحديد مكمن ذلك الخلل خارج عن حدود الإمكان، إذ لن يستطيع أحد أن يتكهن فيما إذ كانت العلة تكمن في جذعه القصير المحّي، أم في أطرافه القوية، وقد يتوقّف البعض عند شعره الخشن غير القابل للتسريح، أو عينيه الماكرتين اللتين لا تقدران على إخفاء مكرهما الصريح والحسّي، أو شكله العام الذي يقارب شكل القردة . وقد يصرّ البعض على التوقّف عند دواخل تلك الشخصية الغامضة وسلوكها المكشوف .
و"القطعي" هذا الذي لا يستقر على حال، فهو اليوم يبيع الحلوى، لكنه في الغد سيعرض على الناس صحفاً ومجلات . سبب شهرته لا يرجع إلى هذا الأمر أو ذاك، بل يرجع إلى المذياع الصغير الذي كان يحمله دوماً بالقرب من أذنه، ليسمع نشرة الأنباء، ثم يعيد قراءتها بصوته الجهوري في أزقة المدينة، مقلدا في ذلك أسلوب مذيعيها . وما إن تقع عيناه على فتاة جميلة حتى ينساق وراءها من مكان إلى آخر، رافعا من وتيرة صوته، على أمل أنْ تتنبّه إليه، ثم ينتهي به الأمر إلى زاوية تخفيه عن العيون قليلا أو كثيرا، ليمارس فيها العادة السرّية من غير أن يأبه بانكشاف أمره.
أما مجموعة "الحمالين " في السوق فهم حلقة مهمة من حلقات تلك السلسلة، فهم يقومون بدور وسيط بين الباعة وزبائنهم صباحا، ويقتصر ذلك الدور على إيصال الخضار واللحوم إلى بيوت أولئك الزبائن حتى تخوم الظهر، أما بعدها فلا بأس بشيء من اللهو، إذْ هاهم قد انقسموا إلى فريقين متناحرين، لتبدأ الحفلة التي ليس لها نظير، فتغادر الطماطم المتعفنة صناديقها، وتتطاير عبر الأزّة المسقوفة، تلطخ الجدران والأبواب والزوايا التي تدارى أفراد المجموعتين خلفها، و تنداح على الأرضية المغمورة بالسوائل والمياه العفنة، فتلقي فوق قذارتها بقذارة جديدة ، من غير أن يستطيع أحد التدخل بينهم، أو تفريقهم . والويل ثم الويل لبدوي نسي نفسه، أو قاده حظه العاثر إلى مقربة من المكان ، إذْ أنه لن يفلت ـ حينئذ ـ من لطخة حمراء على الظهر وقد يرتمي غطاءه عن رأسه، غير أنه لن يجرؤ على الاعتراض. وعندما تتدثر الأزقة الشاحبة بالعتمة مساءًا، يرجعون إلى بيوتهم ملوحين منهكين ، ثم ينامون من قبل أن يغسلوا أيديهم أو وجوههم أو أرجلهم! إنهم ينتمون إلى زنار الفقر الذي بدأ يحيط بالقرية، وبدعة كهذه لم تصلهم بعد . لكنهم على الشقاوات التي يقترفونها لا يقربون حمالي "البرط"، ذلك أن هؤلاء أكبر سنا، وأكثر تماسكاً، وهم فوق هذا وذاك مُسلحون بخطافات حديدية ذات مقابض خشبية تساعدهم في العمل، أو في المشاحنات عند حدوثها.
ولا تتحرج عصابة "البرط" تلك من فرض أتاوات صغيرة على الدكاكين القريبة منه ، أو التي تتفرع في زقاق الشارع الرئيسي . إنها بمعنى ما منطقة نفوذهم . وقد يقدم أحدهم على استعارة بطيخة من هنا، أو عنقود عنب من هناك، من غير أن يدفع الثمن، لكن أصحاب المحلات يغضون النظر عن الأمر، فهم يعرفون بأنه فرد في مجموعة متراصة متعاضدة، وأنه يقترف تلك "الجرائم" الصغيرة تحت مظلة الإحساس بالقوة المستمدة من انضوائه تحت لواء جماعة متكاتفة، قد لا تجد غضاضة في الإقدام على عمل أكثر عنفاً إن وجدت من يجابهها، أو يشجعها.
وإذا أخذت الأمور بعواهنها، فإن أحدا من أفراد تلك المجموعات لم ينجح في أن يكرس نفسه مثلا أو قدوة أمام الآخرين، ربما لأن ملامحهم امحت في ملامح مجموعاتهم، فخصوصيتهم هي نتاج كل لا نتاج جزء. إنهم جسد واحد بأذرع وأرجل كثيرة، لذلك فهم عاجزون عن تأكيد حضورهم في أذهان من هم أصغر سنا، على العكس من "البو" و "الصخرة" و"الغولة" و "الخو" و " الكوربو"و "خليل الذي كان لا يتورع في قفل البورطو مع شقيقه إن لم يتحصل على البونو ".
وهذه المسميات هي تصغير لأسماء أخرى ، بما لا يتضح معه إن كان مرد ذلك التصغير يرجع إلى التحّب أم إلى التحقير، بيد أن المنطق يقول أن لا سبب يدعو الآخرين إلى تحقير الرجل، وإذن فلا بد أنه تصغير موغل في سنوات الطفولة، ولا ينتمي إلى صورته الراهنة في شيء . فأشكالهم مثلا ، مثل أبطال كمال الأجسام وهم يسأثرون بمحبة و إعجاب الفتية الذين يتوقون من كل قلوبهم أن يصيروا مثلهم من حيث الطول و العرض إلخ..... إلا أن بعضهم يتسم بالطرافة و النكتة .ربما لأنه يتسم بطبع ناري لا يخلو من بعض رعونة، في حين تعطيه لحيته المشذبة "كاريكاتيرا " خاصا، يؤكده سلوكه المتعالي في الطريق. أما في الحفلات فهو يصر على القيام بكل ما هو غريب وصعب. كأن يلتهم قطعة زجاج مثلا، أو يسحب عربة بأسنانه... وقد يلوي أطواقا من الحديد السميك بيديه المجردتين، أو يكسر صخرة كبيرة فوق صدره العريض.... فيما يمثل بعض منهم نموذجا مختلفا عن سابقيهم، فـ "خليل" بدوي صحيح الجسم، تمكن من أن يحّق لنفسه قوة كبيرة بالمران، لكن بدنه لا يخلو من بعض ترهل، فهو يجهل كل شيء عن قواعد التغذية، لذلك تراه شرها إلى الطعام، متوهما بأنه يمده بالقوة، من غير أن يميز في ذلك بين البروتينات والنشويات مثلا، والمسألة ـ في النهاية ـ تدخل في باب التباهي على أساس أنه يستطيع ما لا يستطيعه غيره. أما "شقيقه" فهو لا يقل عنه قوة، إلا أن قوته ـ تلك ـ تقترن بالكثير من التهور والحماقة، تلك الحماقة التي دفعته ذات ليلة إلى مهاجمة فتاة جميلة أثناء عودتها إلى دارها القريبة من خزان المياه، لكن الفتاة عضته في شفته السفلى، ونجحت في التخّلص منه، وترك ندبة دائمة على تلك الشفة ، وفإنتهي به المطاف إلى السجن لبعض من الوقت، إذ أنه من فرط حماقته لم يداوي شفته بعيداً عن العيون، بل قصد مستوصف المدينة مدعيا بأنه سقط عن ظهر السفينة، فوضعت الشرطة يدها عليه، وقضى ما كتب له من أيم في السجن و خرج بإسم جديد هو شورّب. ولا شك في أن تلك النماذج هي فتوات زمانها بمعنى ما. ولذلك فإن العلاقة بينهم تفتقد إلى المـودة، لأنهم لا يكتفون بمناطق نفوذهم، بل يسعون إلى بسط سطوتهم على الأحياء المجاورة، وعندها ينشب بينهم صراع مرير. ثم أن القرية ما تزال صغيرة، ولابد للوجوه ـ فيها ـ من أن تتقابل، فلا تخلو تلك المقابلات من جرح في زند "البو" إثر طعنة سكين من "الغولة" عقب معركة صغيرة لا تستحق الذكر، أو سن أمامية مكسورة جزئيا في فم "الغولة" بعد عراك مع "البو" أو مع آخرين...... وإذا كانت مجموعة حمالي السوق لا تملك أن تضاهي هؤلاء الفتوات ، فهي قطعاً لا تحوز الأساس الذي تتقدم به على مجانين القرية الذين يستأثرون بعطفها وسخريتها بآن ، وعليه فإن أسماء المرابط ، والشيخ و العسلة.... هي نجوم حقيقية في سمائها. ثم إن هؤلاء المساكين هـم الـمادة الأولية التي ينصب عليها لهو تلك المجموعات ومجونها، فقد يهربون بالحلوى التي يلتقط ""العسلة" " رزقه بواسطتها، و لا يستطيع اللحاق بهم، لأذيـة ما في جهازه العصبي ـ الحركي . إنه بطيء الاستجابة، لذلك فإنه يسترحمهم لكي يعيدوها إليه، مظهرا لهم المسكنة حينا، والغضب حينا آخر، ولكن بلا أي جدوى . وقد يعن لهم أن يخطفوا معطف "المرابط"، ويستولوا على القروش القليلة التي تصدق بها الناس عليه، فيجن فوق جنونه، ويلاحقهم من مكان إلى آخر، تسبقه شتائمه البذيئة المصحوبة بحركات مشبوبة مؤكدة، إلى أن يسترد معطفه، وقد يفتعلون معركة مع "البكوشة" لكي يبعدوها عن كوخها، ثم ينهبونه، ويبعثرون محتوياته، مؤكدّين أن خطوات اليفاعة الهوجاء قد مرت بالمكان . إنهم لا يعرفون لماذا يتصرفون على ذلك النحو، ربما لأنهم لا يعون بأن حياتهم بائسة وشقية، وأنهم بتلك الطريقة إنما ينفسون عمّا في صدورهم، منتقمين من حرمانهم، من غير أن ترتبط الوسائل ـ في أذهانهم ـ بالنتائج . وتستمر حياتهم على ذلك المنوال رتيبة بطيئة ومملة . لكن لوحة القرية لن تكتمل إلا إذا مرت العين الملاحظة على حشّاشيها، وصيادي الأسماك، ورواد المقاهي الصغيرة ذات الكراسي الواطئة خلف كأس من الشاي، أو نفس من "التنباك"، حيث الدخان الُمفعم برائحة النميمة، وآخر أخبار السياسة والتجارة والدعارة والفضائح الإجتماعية أو الأخلاقية التي تجري في الخفاء . بيد أن الألق الذي لا يقاوم يظل من نصيب لاعبي كرة القدم، إذ هاهي المدينة الوادعة بصغيرها وكبيرها تنقسم بين ناديين ليقف نصفها في صف الأول، بينما يقف نصفها الآخر إلى جانب الثاني، فلا يستطيع النادي الثالث و الرابع أن يثبتا وجودهم إزاء الناديين السابقين . أما اللاعبين المشهورين من الأقمار البهية التي تحلق في فضاء المكان، وقد لا يدانيهم في شهرتهم ـ تلك ـ إلا لاعب مثلهم ، فقد إندثروا .
|