قال الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة: بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى عَظِيم مِنَّته عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَعْنَى فِي الْمِنَّة فِيهِ أَقْوَال : مِنْهَا أَنْ يَكُون مَعْنَى " مِنْ أَنْفُسكُمْ " أَيْ بَشَر مِثْلهمْ . فَلَمَّا أَظْهَر الْبَرَاهِين وَهُوَ بَشَر مِثْلهمْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْد اللَّه . وَقِيلَ: "مِنْ أَنْفُسهمْ" مِنْهُمْ . فَشَرُفُوا بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَكَانَتْ تِلْكَ الْمِنَّة . وَقِيلَ: "مِنْ أَنْفُسهمْ" لِيَعْرِفُوا حَاله وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ طَرِيقَته . وَإِذَا كَانَ مَحَلّه فِيهِمْ هَذَا كَانُوا أَحَقّ بِأَنْ يُقَاتِلُوا عَنْهُ وَلَا يَنْهَزِمُوا دُونه . وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذّ "مِنْ أَنْفَسِهِمْ" (بِفَتْحِ الْفَاء) يَعْنِي مِنْ أَشْرَفهمْ; لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِم, وَبَنُو هَاشِم أَفْضَل مِنْ قُرَيْش, وَقُرَيْش أَفْضَل مِنْ الْعَرَب, وَالْعَرَب أَفْضَل مِنْ غَيْرهمْ . ثُمَّ قِيلَ: لَفْظ الْمُؤْمِنِينَ عَامّ وَمَعْنَاهُ خَاصّ فِي الْعَرَب; لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيّ مِنْ أَحْيَاء الْعَرَب إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَهُمْ فِيهِ نَسَب; إِلَّا بَنِي تَغْلِب فَإِنَّهُمْ كَانُوا نَصَارَى فَطَهَّرَهُ اللَّه مِنْ دَنَس النَّصْرَانِيَّة . وَبَيَان هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ" [الْجُمْعَة: 2] .
وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْبَصْرِيّ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن سَعِيد الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْمَرْوَزِيّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن مَعِين حَدَّثَنَا هِشَام بْن يُوسُف عَنْ عَبْد اللَّه بْن سُلَيْمَان النَّوْفَلِيّ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: " لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ" قَالَتْ: هَذِهِ لِلْعَرَبِ خَاصَّة . وَقَالَ آخَرُونَ: أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ كُلّهمْ . وَمَعْنَى "مِنْ أَنْفُسهمْ" أَنَّهُ وَاحِد مِنْهُمْ وَبَشَر وَمِثْلهمْ, وَإِنَّمَا اِمْتَازَ عَنْهُمْ بِالْوَحْيِ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ" [التَّوْبَة: 128] وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ, فَالْمِنَّة عَلَيْهِمْ أَعْظَم .
أما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاته وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: اللَّه الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ , فَقَوْله هُوَ كِنَايَة مِنْ اِسْم اللَّه, وَالْأُمِّيُّونَ: هُمْ الْعَرَب . وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْله قِيلَ لِلْأُمِّيِّ أُمِّيّ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ فِي هَذَا الْمَوْضِع قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ: 26405 - حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار, قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِم, قَالَ: ثنا سُفْيَان, عَنْ لَيْث, عَنْ مُجَاهِد, قَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قَالَ: الْعَرَب . 26406 - حَدَّثَنِي يُونُس, قَالَ: أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب, قَالَ: سَمِعْت سُفْيَان الثَّوْرِيّ يُحَدِّث لَا أَعْلَمهُ إِلَّا عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاته}: الْعَرَب . 26407 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } قَالَ كَانَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْعَرَب أُمَّة أُمِّيَّة , لَيْسَ فِيهَا كِتَاب يَقْرَءُونَهُ , فَبَعَثَ اللَّه نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَة وَهُدًى يَهْدِيهِمْ بِهِ . * حَدَّثَنَا اِبْن عَبْد الْأَعْلَى, قَالَ: ثنا اِبْن ثَوْر, عَنْ مَعْمَر, عَنْ قَتَادَة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّة أُمِّيَّة لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا . 26408 - حَدَّثَنِي يُونُس, قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب, قَالَ: قَالَ اِبْن زَيْد, فِي قَوْله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمِّيِّينَ, لِأَنَّهُ لَمْ يُنْزِل عَلَيْهِمْ كِتَابًا . وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {رَسُولًا مِنْهُمْ} يَعْنِي مِنْ الْأُمِّيِّينَ وَإِنَّمَا قَالَ مِنْهُمْ, لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا, وَظَهَرَ مِنْ الْعَرَب . وَقَوْله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاته} يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَقْرَأ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأُمِّيِّينَ آيَات اللَّه الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ {وَيُزَكِّيهِمْ} يَقُول : وَيُطَهِّرهُمْ مِنْ دَنَس الْكُفْر. وَقَوْله: {وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب} يَقُول: وَيُعَلِّمهُمْ كِتَاب اللَّه, وَمَا فِيهِ مِنْ أَمْر اللَّه وَنَهْيه , وَشَرَائِع دِينه { وَالْحِكْمَة } يَعْنِي بِالْحِكْمَةِ: السُّنَن. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 26409 - حَدَّثَنَا بِشْر, قَالَ: ثنا يَزِيد, قَالَ: ثنا سَعِيد, عَنْ قَتَادَة {وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة} أَيْ السُّنَّة . 26410 - حَدَّثَنَا يُونُس, قَالَ: أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب, قَالَ: قَالَ اِبْن زَيْد, قَالَ: { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة} أَيْضًا كَمَا عَلَّمَ هَؤُلَاءِ يُزَكِّيهِمْ بِالْكِتَابِ وَالْأَعْمَال الصَّالِحَة, وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة كَمَا صَنَعَ بِالْأَوَّلِينَ, وَقَرَأَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار وَاَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 9 100 مِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَهْل الْإِسْلَام إِلَى أَنْ تَقُوم السَّاعَة , قَالَ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّه فِيهِمْ سَابِقِينَ, وَقَرَأَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 56 10 وَقَالَ: {ثُلَّة مِنْ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيل مِنْ الْآخِرِينَ} 56 13 فَثُلَّة مِنْ الْأَوَّلِينَ سَابِقُونَ, وَقَلِيل السَّابِقُونَ مِنْ الْآخِرِينَ, وَقَرَأَ: {وَأَصْحَاب الْيَمِين مَا أَصْحَاب الْيَمِين} 56 27 حَتَّى بَلَغَ {ثُلَّة مِنْ الْأَوَّلِينَ, وَثُلَّة مِنْ الْآخِرِينَ} 56 39 أَيْضًا, قَالَ: وَالسَّابِقُونَ مِنْ الْأَوَّلِينَ أَكْثَرُوهُمْ مِنْ الْآخِرِينَ قَلِيل, وَقَرَأَ {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} 59 10 الْآيَة, قَالَ: هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْل الْإِسْلَام إِلَى أَنْ تَقُوم السَّاعَة .
والله تعالى أعلم ...
جزاك الله تعالى خيراً أخي جمال
|