مفهوم الجماعة: بين الضيق والسعة
كمال المصري
الجماعة لغةً: مأخوذةٌ من الاجتماع، وهو ضدُّ التفرق، يقال: "جمع الشيء عن تفرُّقه فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من هاهنا وهاهنا".
وهذا الاجتماع قد يكون حسيًّا كاجتماع الناس في مكانٍ ما -أي رابطة مكانية تاريخية كالرابطة القومية-، وقد يكون معنويًّا كاجتماع الأمَّة على الإيمان بالله ورسوله في رابطة إيمانية تتجاوز المكان، بل قد تتجاوز الزمان بالتواصل مع الأمة عبر التاريخ، وتقدير منزلة هذا التاريخ في إطار المرجعية، وهذا نراه أيضاً في أمم وعقائد مختلفة، بل وفي أيدلوجيات وضعية تجمع الناس، وتكون كتبها المؤسسة ونماذجها التطبيقية مرجعية معتبرة.
مفهوم الجماعة في النصوص الشرعيَّة
لم يرد لفظ الجماعة في القرآن الكريم، وإن كان معنى "الجماعة" قد ورد عدَّة مرَّاتٍ مرتبطاً بالترغيب في الالتزام بها، والنهي عن التفرُّق والتنازع والفشل.
ولكنَّ لفظ "الجماعة" قد كثر وروده في السنَّة المطهَّرة، والمتتبِّع لمواضع ورود هذه الكلمة في السنَّة يجد أنَّها تأتي دائماً في مقابلة التفرُّق المذموم، وذلك في مثل:
قوله (صلى الله عليه وسلم): "عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفرقة"رواه أحمد الترمذيّ، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
- وورد في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-: "... فعليك بالجماعة، فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم، وقال: هذا حديثٌ صدوقٌ رواتُه.
- وكما في حديث حذيفة بن اليمان الشهير في الصحيحين، ومطلعه: "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني"، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، وقد عَنْوَن الإمام مسلم باب الحديث بـ: "باب: وجوب ملازمة الإمام عند ظهور الفتن، وفي كلِّ حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة".
وانصبَّ مفهوم الجماعة في نصوص السنَّة المطهَّرة على مفهومين:
الأوَّل: مفهومٍ اعتقاديّ، ويشير إلى الدعوة أو المنهج الذي تحمله هذه الجماعة.
والثاني: مفهوم سياسيّ، ويشير إلى الدولة أو النظام السياسيِّ الذي ينشأ لحماية هذا المنهج والتمكين له في واقع الحياة، فإذا جُمِع بينهما تحقَّق المدلول المتكامل والنهائيُّ لمعنى الجماعة، وتفصيل ذلك التالي:
أوَّلا: المفهوم الاعتقاديّ:
تعددت النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع على الأصول الثابتة بالكتاب والسنَّة والإجماع، واتِّباع ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الحقِّ واتباع السنَّة، ومنها:
1- ما رواه أبو داود وابن ماجهْ عن معاوية (رضي الله عنه) عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "ألا إنَّ مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنَّة، وهي الجماعة" وروى الترمذيُّ نحوه، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
2- ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن مسعود (رضي الله عنه) عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
والجماعة بهذا المعنى لا يُشترط لها كثرةٌ ولا قلَّة، بل هي حيث الحقُّ.
ثانيا: المفهوم السياسيّ:
ومن النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع بالأمَّة المستقيمة على الشرع، وطاعة "أولي الأمر" "منكم" ، وعدم الخروج على الجماعة والنظام العامِّ لها:
1- ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن عباس (رضي الله عنهما) عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أنَّه قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات مِيتةً جاهليَّة" (لاحظ هنا دقَّة النصّ وتسلسله: رؤية الخطأ من الأمير، والخروج على الجماعة وليس على الإمام، وهذا يؤيِّد فكرة أنَّ المراد هو الأمَّة وليس الإمام، والإمام لا يأخذ طاعته إلا من خلال الصلاحيَّات التي تعطيها الأمَّة له، ويكون ملزَماً بالشورى).
2- ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات مِيتةً جاهليَّة".
والجماعة بهذا المعنى تقع في مقابلة البغي والتفرُّق.
مفهوم الجماعة عند أهل العلم
انقسم أهل العلم في مفهوم الجماعة إلى قسمين:
الأوَّل: أنَّ الجماعة هي جميع العلماء من أهل السنَّة؛ أي الاجتماع على الحقِّ الذي تمثِّله القرون الثلاثة الفاضلة، ويحمل لواءه في كلِّ عصرٍ الثقاتُ العدولُ من أئمَّة أهل السنَّة، وهم يمثِّلون السواد العامَّ من المسلمين؛ لأنَّ العامَّة بالفطرة تبعٌ لهم.
الثاني: أنَّ الجماعة هي الأمَّة في اجتماعها على الإمام ما دام -في الجملة- مقيماً لأحكام الإسلام، أو هي السواد الأعظم من أهل الإسلام.
والملاحظ أنَّ أصحاب الرأي الأوَّل قد خلطوا بين "جماعة المسلمين" و"أهل الشورى -أو الحلِّ والعقد-"؛ حيث اعتبروا من تعتبرهم الأمَّة ممثِّليها هم "الجماعة"، بينما هم مجرَّد ممثِّلين للجماعة لا أكثر، بل هم لم يأخذوا هذه الشرعيَّة في التمثيل إلا من خلال الأمَّة؛ فكيف تصبح الأمَّة بعد ذلك هي التابع، ويصبح الممثِّلون هم المتبوع؟؟
وعلى ذلك فالرأي الراجح في هذا –والله أعلم- هو أنَّ الجماعة هي "السواد الأعظم من أمَّة الإسلام" حسب اصطلاح الفقهاء.
وهكذا تتَّفق دلالات النصوص، ومآلات أقوال أهل العلم في بيان المقصود بمعنى الجماعة، وأنَّها تتضمَّن كلا المعنيين السابقين "الاعتقاديّ والسياسيّ".
ويتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها الاعتقاديِّ بالالتزام المجمل بالإسلام؛ وذلك بالبقاء على الولاء للإسلام والرضا بشريعته وموالاة دعاته، سواء وُجدت الجماعة ككيانٍ سياسيٍّ أم لم توجد.
كما يتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها السياسيِّ بالانتظام في النظام السياسيِّ العامِّ الذي ارتضته الجماعة، أيًّا كان شكل هذا النظام أو نوعه أو من يقوم عليه، وما يقتضي ذلك الانتظام من الولاء والتزام الطاعة، وإن تعددت الأنظمة بتعدد الديار وجب أن تجمعها مظلة من الاحتكام للشرع والتناصر، كما في الأشكال المختلفة من التنسيق والاندماج الدولي على كافة الأصعدة والهياكل التي يعرفها زماننا.
معنى لزوم الجماعة
لا معنى إذن للزوم الجماعة إلا التزام ما هم عليه من التحليل والتحريم والطاعة فيهما؛ أي القبول بمرجعية الإسلام، وإن اختلفت المذاهب والمدارس والرؤى، جاء في "الرسالة" للإمام الشافعيِّ قال: "فما معنى أمر النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد، قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرِّقةً في البلدان فلا يقدر أحد أن يَلزَم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرِّقين، وإن وجدت الأبدان تكون مجتمعةً من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى؛ لأنَّه لا يمكن، ولأنَّ اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها".