2. ان هذه الفتاوى تفتقر الى الموازين الموضوعية الحاكمة على عملية الاستنباط وتعتمد على احكام معدة سلفا، ومثال ذلك قول البعض ان هذا الخلاف عقدي لايجوز الاستهانة به، وهذا بحد ذاته محل خلاف بين المسلمين، فان الخلاف في الاصول لم يزل موجودا بين المسلمين كالخلاف بين الاشاعرة والمعتزلة والجهمية والكرامية والشيعة بفرقهم المختلفة وغيرهم من المسلمين، وهذا يعني ان فتح باب التكفير على اساس الخلاف العقدي لن يؤدي الا الى تمزيق الامة، وذلك لان كل فرقة سوف تطبق الميزان ذاته مع ان المفروض وقوع الخلاف خارج الاطار المعتبر في الدخول في الدين والخروج منه.
3. ان الواجب على المسلمين لاسيما اهل العلم العمل على التقريب والاصلاح بين المؤمنين لا طرح ما يثير الخلاف والشقاق.
4. ان كثيرا من هذه الاحكام تذكرنا بأيام محاكم التفتيش في اوروبا في العصور الوسطى حيث تصدت فرقة خاصة من النصارى بتطبيق الدين على مقياس آرائها الخاصة وفق نزعة تسلطية شديدة. ومن الطريف ان تعصب الكنيسة الكاثوليكية لآرائها أدى بها إلى الاعتقاد بمعصومية البابا مما أدى الى نفور طائفة كبيرة من النصارى واعتبرت فيما بعد مارقة عن الدين.
5. ان هذه الفتاوى تأتي في اطار الوصاية التي يحلو للبعض ان يمارسها على سائر المسلمين من دون ان يكون لديه تفويض شرعي بذلك.
6. ان هذه المواقف وان تباينت في تشددها الا انها جميعا تشترك في شيء واحد وهو تثبيت الخلاف في دائرة العقائد مما يعني الاحتفاظ بهذه النقطة كبؤرة توتر تنبعث منها دائما الخلافات التي تمزق جسم الامة.
7. اننا نرى في مثل هذه الفتاوى افلاسا حادا لكل التيارات التكفيرية التي كانت تراهن على نزعة التفرد بالقرار مما يستدعي مراجعة المنهج المتبع في تشريع العلاقة مع الآخر.
8. كثير من هذه الفتاوى ينفصل عن الواقع لتجاهله لواقع المصير الواحد الذي تنصهر في مجراه جميع الخصوصيات والمشخصات لتشكل جميعا مجتمعا واحدا، مما يجعل تأثير هذه الفتاوى يتجاوز الدائرة الخاصة ليقع في الدائرة الكبرى للمجتمع بشتى مكوناته، مما يعني ان هذه الفتاوى هي اشبه بالقنابل الموقوتة
الخصوصيات المذهبية
وأخيرا يقول الشيخ جعفر النمر: اننا نعتقد ان لكل مذهب خصوصيته المذهبية التي لا ينبغي المراهنة على التنازل عنها، مما يفرض علينا جميعا التعامل مع البحث العقائدي بشكل اكثر تعقلا يتجاوز بنا حالة التنافر، لبناء حالة من الاصطفاف تضمن للمسلمين الحياة الكريمة والعزة التي تتناسب مع عددهم وعدتهم، و نفوت بها الخطة التي يعتمدها العدو للاستيلاء على مقدرات المسلمين واحتلال اوطانهم.
وهذا يتطلب اعتماد اليات علمية تمكننا من البحث في المسائل العلمية الشائكة من دون ان يكون لذلك تاثير على نمط التعايش الذي يمكننا من تحقيق الحد الادنى من الاهداف المشروعة للجميع".
ويرى الشيخ النمر أنه "من الواجب على المسلمين الفصل بين مستويين:
• المستوى العقدي.
• المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
مستطردا: فان ذلك ضرورة تستدعيها الظروف التي تمر بها الامة والتي توجب على المسلمين كافة رصّ الصفوف وتلمس جهات الوفاق ونبذ جهات الخلاف واعتماد الاسلام بمعناه الشامل اساسا للعلاقة التي تنظم شتات الامة".
سجالات لا وقت لها
وتحدث احد رموز الشيعة الكبار في السعودية الشيخ حسن الصفار قائلا ردا على سؤال لـ(لعربية.نت): إنه لأمر مؤسف جدا أن تثار مثل هذه السجالات وان تنكى جراح الخلافات المذهبية في الوقت الذي يتعرض فيه الشعبان الفلسطيني واللبناني لمسلسل عدوان وحشي، حيث يطال القصف الأبرياء والآمنين من النساء والأطفال والشيوخ، وترينا القنوات الفضائية أبشع الجرائم والمشاهد التي تحدث لأبناء أمتنا في فلسطين ولبنان.
وفي الوقت الذي يسطر فيه المقاومون في لبنان أروع ملاحم البطولة ضد المعتدين الصهاينة، ويستمر فيه صمود الشعب الفلسطيني رغم الدمار والحصار واعتقال أكثر قياداته السياسية التشريعية والتنفيذية.
وأضاف الصفار: ان مظاهرات كثيرة تنطلق في عواصم العالم، تطالب بوقف العدوان على الشعب اللبناني، فهل يسوغ لنا نحن العرب المسلمين أن ننشغل بالخلافات المذهبية؟. إن الصهاينة أعداء المسلمين وأعداء العرب وأعداء كل شعوب هذه المنطقة، فيجب أن تكون المعركة معهم فرصة لتوحدنا وتوحيدنا، لا أن ننشغل بهذه الخلافات الجانبية، خاصة أن حزب الله في لبنان من أبعد الجهات عن اشكاليات الخلافات المذهبية كما هو واضح من مواقفه وخطابه السياسي والاعلامي. لذلك لا أرى الدخول في هذا السجال أمرا مناسبا أبدا فهو يبصق علينا سائر الأمم ويشمت بنا الأعداء.
السياسي العربي والأمزجة الفقهية
وحول ظهور خلافات قديمة بين السنة والشيعة إلى دائرة العلن في ذلك الوقت وعلو أصوات التكفير، قال المفكر الاسلامي اللبناني الشيعي السيد هاني فحص ردا على (العربية.نت): أولا أنا أبدي أسفي لأن السياسي العربي المسلم والشيعي أرقى في تعامله في هذه المسائل من كثير من الأمزجة الفقهية، ولا أدري لصالح من هذا الجدل. أنا هنا لا أصب لومي وعتبي واستنكاري على طرف دون طرف. أنا في تقديري من يحرك هذا الساكن ومن يستجيب للتحريك فيه مخطئان.
وأكثر من هذا.. كفانا هذه الدماء التي تسيل في كل مكان باسم الدين. هذا سوف يأكل الدين الذي نحاول أن نحميه بالاختزال والغاء الآخرتحت ستار للفتوى وأحادية المعرفة والزاميتها وامتلاك الحقيقة المطلقة.
وقال إن علمنا وابداعنا التاريخي اعتمد على النسبية المعرفية وليس على الاطلاق، فلو كنا من اهل الاطلاق في كل شئ لما أصبح عندنا هذا التراث العظيم.
وأضاف مستطردا حول هذه الخلافات: أنا رجل دين، ذهبت الى الحوزة الدينية وما سمعت هذا الكلام ولا قرأته. ثم ان عندنا فقه علائقي عملي، يكيف علاقات المسلمين. التسنن في الفقه الشيعي يترتب عليه أحكام لا أحد ينكرها ولا أحد يلعب بها، واكثر من ذلك في الفقه الشيعي أن الحنفي مثلا أو الحنبلي اذا تشيع ماذا يفعل بعباداته، يعيدها أو لا يعيدها؟.. حسب المذهب الشيعي وهذا موضع اتفاق، اذا كانت عباداته مطابقة للمذهب الحنفي فلا يعيدها واذا كانت مخالفة فعليه اعادتها.
وقال السيد فحص: على هذا النظام الفقهي والمشترك الفقهي والعقدي نشأت علاقات اجتماعية وحركات مصاهرة، إن الفقه الاسلامي الذي يبيح للمسلم أن يتزوج من كتابية مع بقائها على دينها، هو فقه علائقي يتجاوز الحدة في التعامل.
نعم هناك مسألة موجودة في الفقه الشيعي وأظن أن لها معادلها في الفقه السني. فقد رأيت في فقه المذاهب السنية، موضع اتفاق على الحكم بنجاسة من يكره أهل البيت، وهذا الحكم لا يتنصل منه الفقهاء السنة، ويشكل موقع أهل البيت في المنظومة الفكرية السنية.
وفي نفس الوقت عند الشيعة أن من ينصب العداء لأهل البيت هو أيضا محكوم بنجاسته وكفره. أنا هنا أريد أن اتساءل عن النصب لأهل البيت، هل لا زال موجودا. لا .. الناس تعارفت وتآلفت. واهل البيت وهم هذه المساحة الخضراء المشتركة في تاريخنا تحررت وأصبحت ملتقى للجميع.
وقال: أنا اعرف أن كتابا حول أهل البيت صدر في المملكة العربية السعودية وطبع ثلاث مرات في أربعة أشهر. وفي تقديري أن العقل الحزبي هو الذي يحول المذهب إلى حزب.
وطالب السيد هاني فحص من فقهائنا وعلمائنا ومثقفينا "أن يكفوا عن هذا التصنيف – سني وشيعي – فنحن مذهب من مذاهب الاسلام. نحن المذهب الشيعي الجعفري الاثنا عشري في مقابل الحنفي أو الحنبلي أو الشافعي أو المالكي.. الخ. نحن واحد من مجموع وليست القسمة نمطية خيطية".
ضرورة العودة الى الفقه المقارن
وأضاف أن الخلاف بين المنظومة الفكرية والعقائدية للفقه ليس خلافا سنيا شيعيا، ولو تعمقنا في البحث لوجدنا أن مساحات الخلاف ضيقة جدا، فالصراعات السياسة التاريخية هي التي عزلت وانعزلت وانتجت فقها خلافيا. لا بد من العودة إلى الفقه المقارن، فقه المذاهب بدلا من فقه المذهب، وهذا ما يقتضيه العصر من خلال العلوم الحديثة وقدرتها على المشاركة في معدات الاستنباط الفقهي والتي تفتح الذهن على الآخر وتحاول أن تتعرف إلى موقعه في الذات وتكتشف فيه شرقية معرفية وشرقية وجودية.
وتساءل السيد هاني فحص: متى ظهر الخلاف السني الشيعي؟.. لقد كانت المسألة سلطة ومعارضة. في عصر المأمون ظهر مصطلح "سني" ثم تراجع، وفي القرن الأول ظهر المصطلح الشيعي بالمعنى المذهبي، ولكننا كشيعة وسنة يجب أن نعيد قراءة أهل البيت لنتمثل بهم ونقرأ اولوياتهم.
وردا على سؤال بشأن ما يتردد بأن التراث الشيعي يشتمل على سب الصحابة والقول بأن القرآن تعرض للتحريف يجيب: أنا استاذي السيد أبو القاسم الخوئي ودرست كتابه (البيان في تفسير القرآن) حوالي عشر مرات.. درسته في الكلية ثم فيما بعد في حلقات. هذا الكتاب مرجعنا. وإذا كان هناك رأي شاذ وأنا والله حتى الآن لم أعثر على هذا الرأي الشاذ.. بل سمعته من بعضهم، فانها شطحات موجودة في كل المذاهب، فلماذا التركيز عليها ونبشها.
بعض الأمور نسلم بوجودها وهي نتاج فترات العصبية السياسية في الصراع الصفوي العثماني أو مضايقات العصر السلجوقي في الفترة التي عزل فيها بعض الناس فانعزلوا وابتدأوا بناء على الطلب السياسي يبرزون الفوارق بدل أن يكشفوا ويحرضوا المشتركات.
وقال: عندي تعبير شعبي بأن في كل بيت يوجد حمام، فلنهدأ ونحمي المصالح والأفكار والقيم المشتركة حتى تدفعنا إلى التعاون، ثم يتكفل كل منا بتنظيف بيته وإلا فاننا بهذه العصبيات سنستعيد فصولا وذكريات جارحة. إن الماضي الخلافي جثة إذا لم ندفنها فستبقى رائحتها. النسيان هو التاريخ فلنتصالح مع أنفسنا وفيما بيننا.
وأضاف: على مستوى الفقه الشيعي والفقهاء والعلماء الشيعة القول بتحريف القرآن شاذ إلى حد بعيد. أما سب الصحابة فيمكن أنه أقل شذوذا ولكن له تاريخا مربوطا بالعصر الصفوي، وبانتاج الذريعة السياسية. وليس خافيا على أحد أن ايران قبل العهد الصفوي كانت أغلبيتها سنية، كما أن الصفويين أنفسهم كانوا سنة. ومن أجل تعصيب الناس أخذوا يفرزون هذا الفوارق الأيديولوجية وأوصلوها إلى هذا الحد، ولكنها ليست سلوكا شعبيا. والآن في الوسط والسلوك الشعبي وبسبب الحالة السياسية تثار هذه المسائل من جديد.
وأضاف أن من يتجرأ على سب الصحابة لا يستند إلى نص، إنما يستند إلى سلوك وتحريض سياسي، وأحيانا في حالات الصراع تتراجع الثقافة الشعبية فتمس مقدساتها الذاتية.
الفتوى لم تعد شأنا فرديا أو مزاجيا، الفتوى الآن تمر بتعقيدات تجعلنا بحاجة إلى مؤسسة فتوية. وإلى تعدد رؤية ينتج رأيا واحدا وليس رأيا واحدا ينتج رؤية واسعة.
التقريب نتاج العلماء والمجتمع
ويرى السيد هاني فحص أن مسألة التقريب بين المسلمين هي انتاج العلماء والمجتمع، فالأخير يكتشف مصالحه وقيمه المشتركة والعلماء يواكبونه فيؤصلون له هذا الاكتشاف، والدولة تحمي ذلك. الدولة يمكنها أن تصنع التقريب ولكنه يزول بزوالها، وفي رأيي أن الأحزاب الاسلامية لا يمكن أن تكون تقريبية حتى لو كان صوتها الوحدوي عاليا لأن الأحزاب تقوم على التعصيب الذي يعني الغاء الآخر ولا يتم الا باستدعاء الماضي.
لقد فشلنا في التقريب لأن الشراكة لم تحصل. وتجربة دار التقريب في مصر سبب نجاحها ان العلماء هم الذين صنعوها مقدرين انها ستكون مقبولة شعبيا والدولة حمتها نسبيا. ثم كف العلماء عن ذلك وتخلت الدولة فتركت المسألة للمجتمعات لتنتج مضاداتها الحيوية التي يمكن أن تصل إلى حد أن تتراجع فعاليتها. نحن كأهل تقليد وحوار فشلنا لا لأننا غير محقين ولكن لأن التعقيدات كانت أكبر من أحلامنا وتوقعاتنا. وفي تقديري ان كوننا معتدلين هو ضمانة للمستقبل لأن الاعتدال كله لهذا المستقبل وهو الحق والحقيقة ومتحرك وليس جامدا.
وطالب فحص بان "ينظم تيار الاعتدال نفسه، لا تنظيما حزبيا ولكن يجب أن يتحول إلى مؤسسة تنظم عملها حتى لا يضيع لأن التطرف أصبح منظما أيضا. لا ادعو إلى منافسة التطرف، بل الى تمكين الاعتدال والثقة بأنه المستقبل ولو كان صعبا".
لمن يحب ان يستفيض في الموضوع
http://www.alarabiya.net/Articles/2006/08/10
--------------------------------------------------------
القاضى الكبير