علماء ... أم جبناء!!
د. بـاســم خـفــاجـي*
www.khafagi.com
يتناقل أبناء الإسلام في فترات الفتن والمشكلات عبارة أن "لحوم العلماء مسمومة" للإشارة أن من ينتقد أو يطعن في العلماء يقع في خطأ عظيم. وتستخدم هذه العبارة بمهارة أحياناً، وبعفوية أحياناً أخرى لإيقاف وتحجيم الانتقاد على المواقف المعلنة لمن ينتسبون إلى العلم في عالمنا الإسلامي في أوقات المحن والأزمات.
وما يؤرقني اليوم ونحن نشهد تكالب الشرق والغرب معاً على شعب أفغانستان، وعلى كل من يجرؤ أن يتحدى السلطان الأمريكي هو تقاعس القادة والعلماء عن دورهم، وسكوتهم أو تخاذلهم المشين إلا من رحم الله. وأقول : ماذا عن لحوم ودماء أطفال وأبناء أفغانستان .. أليست أيضاً مسمومة؟ ماذا نقول عن لحوم المجاهدين من حملة لواء الإسلام .. أليست أيضاً مسمومة؟
هل يليق أن نصف بعض العلماء بالجبناء كما هو عنوان هذه المقالة؟ أقول نعم .. وهذا من باب إحسان الظن بهم، وليغضب من شاء. ماذا نقول عمن يعلن على شاشات التلفاز أنه كان يتمنى أن يكون في "عمارات بوش" قبل أن تنهار؟ وماذا نقول عمن دنس أطهر منبر من منابر الدعوة على وجه الأرض بمطالبة أمريكا باستئصال الإرهاب الإسلامي والقضاء على أسامة ومن على شاكلة أسامة.
كيف نصف من يمثل الجالية الأمريكية المسلمة عندما يعلن تأييد الإدارة الأمريكية في ضرب أفغانستان "مهما كانت الوسائل التكتيكية التي ستستخدم لذلك". وماذا نقول عمن يخرج على شاشات التلفاز الأمريكي ليقول أن الجالية بأكملها في صف أمريكا، ويتمنى أن يعود الحلم الأمريكي للنفوس مرة أخرى، وينهي حديثه أنه يفخر اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه مواطناً أمريكياً.
ماذا نقول عن المئات من العلماء الذين آثروا الصمت، وقبلوا أن تذبح بديهيات عقيدة الأمة، وأن تجتمع قوى الغرب والشرق لقصف –أفغانستان- أحد ديار الإسلام دون أن يوقظ ذلك فيهم الإحساس بأهمية الصدع بالحق. ولا نتذرع أن بعض العلماء قد قالوا خيراً. ففي أمة تعدادها ألف مليون من البشر لابد أن يكون فيها على الأقل آلاف العلماء فأين هم اليوم مما يحدث للإسلام والمسلمين.
إن دور من ينتسب إلى العلم ويتولى زمام توجيه الأمة في أزمنة الفتن هو أن يكون ضمير الأمة وحامي لواء الدين. من المناسب أن نسعى للحفاظ على أمن المسلمين وأمان المجتمعات، ولكن الأهم –دون شك- أن نحافظ على دين المسلمين، وعلى أمانة الدعوة إلى الدين. وإذا تحول العالم من داعية ليصبح شيطاناً أخرس أو بوقاً للسلطان أو للأمريكان، حتى وإن كان ذا نية حسنة فلابد للأمة أن توقفه، وأن تشعره بعظم الجرم في حق نفسه وأمته، و"قفوهم إنهم مسؤولون".
نقل عن الشافعي –رحمه الله- ذات يوم أنه قال: "ما رفعت أحداً فوق قدره .. إلا وحط من قدري.. بقدر ما رفعت من قدره." إنها عبارة بليغة حقاً في أهمية إنزال الناس منازلهم الصحيحة. ولابد أن ننزل من ينتسبون إلى العلم في أمتنا ولا يؤدون حقه منازلهم الصحيحة. لابد أن تكون الأمة رقيبة على العلماء لكي يكونوا بحق ضمير الأمة. فمن ارتفع منهم بسمو النفس وعلو الهمة والصدع بالحق، رفعه الله جل شأنه لينال مكانة لائقة في قلوب أبناء الأمة.
أما من كانوا دون ذلك، وهم كثير في عالم اليوم، فليس لهم أن يتوقعوا من الأمة أن تحترم تنازلهم أو صمتهم أو تخاذلهم. ليس لهم أن يطالبوا الأمة بالتماس العذر لهم، فالفتن تظهر معادن الرجال، والعصمة للحق وليس لمن يدعي حمله حتى لو كان من أهل العلم. وليس لهم أن يطالبونا بالترفق في الحديث عنهم، أو في بيان فساد مواقفهم، فهم قد قبلوا بتحمل أمانة الدعوة.
ليس المطلوب أن نتهم العلماء، أو أن يعادي أبناء الصحوة الدعاة، ولكن المطلوب وقفة يقفها كل منا مع نفسه أولاً، ليحاسبها. المطلوب وقفة تقفها الأمة مع دعاتها وعلمائها دون أن تنكر فضلهم، ولكن لابد أن تذكرهم وأن تنهرهم. ولا يعني ذلك الطعن في النوايا، أو الحديث عما ستره الله، ولكن الأصل أن من يتخذ موقفاً معلناً لا ينبغي أن يتعجب إذا انتقدته الأمة أفرادا أو جماعات علناً أيضاً.
لقد نهر أبو بكر الصديق الفاروق عمر –رضي الله عنهما- ذات يوم ليعيده إلى الصواب قائلاً: "أجبار في الجاهلية .. خوار في الإسلام". وانتقلت العبارة لنا دون أن تنقص من فضلهما ولكن لتثبت أن الحق في هذه الأمة لا يغيب بدعوى الفضل أو الأخوة أو المجاملة، أو إحسان الظن، أو حتى بدعوى أن لحوم العلماء مسمومة.
سيوافقني الرأي البعض قل أو كثر ، ولكن منا من سيقول .. ومن نحن لكي ننتقد العلماء .. ومن أنت لتوجهنا إلى ذلك؟ .. وسنقول .. وماذا قدمنا نحن للإسلام لننتقد العلماء؟ .. وسنقول كذلك .. وما يدريك لعلهم يفعلون الكثير في السر .. دون الإعلان عنه؟ وهي عبارات وتساؤلات هامة ولابد من الإجابة عليها، وليس المقام مقام تفصيل، أو سرد أدلة، ولست أهلاً لأي منهما.
أما من نحن لننتقد، فإن سيرة هذه الأمة تشهد أن العامة كانوا دوماً أصحاب رأي في خير القرون وعلى مر التاريخ. فهذه عجوز تصحح عمر، وهذا صحابي شاب ينتقد موقع المسلمين في بدر، ويذكرنا القرآن في أكثر من موقع عن رجل جاء من أقصى المدينة يسعى ليؤدي واجب الدعوة والنصح والإنذار. ليس مهماً أن نعرف من هو الرجل، فكل أمة الإسلام لابد أن تكون ذاك الرجل.
وأما القول أن العالم قد يناصح في السر، فليس لذلك فقط ائتمن الله العلماء. العالم ليست مهمته الوحيدة أن يكون مستشاراً للسلطان، ولكن الأصل أن يكون رقيباً عليه، وموجها للأمة. وما أحوج الأمة اليوم للقدوات، وهي كذلك بحاجة لمن يعيد توجيه المسيرة فقد اجتمعت قوى الشر في العالم أجمع على حرب كلمة الجهاد، وعلى طمس رجولة الأمة، وعلى إخراج أجيال من أشباه الرجال. إن العدو يعلن عن خططه فكيف لنا أن نسر بالمواجهة، وكيف للأمة أن تعرف طريق الحق إذا سكت المصلحون، أو هادنوا.
لقد ذكر الله تعالى في كتابه أن الفتن تمحص الصفوف، وتميز الخبيث من الطيب، ومن عاصر أزمة الخليج رأي بعينيه كيف سقط في حبائلها من العلماء من سقط، وكيف ذهب البعض الآخر إلى غير رجعة للمواقف المتخاذلة التي اتخذوها تجاه قضية الأمة تلك الأيام. واليوم تمتحن الأمة مرة أخرى، ونسأل الله ألا نبتلى فيها بفقد عزيز، أو خسارة عالم من العلماء الجادين المخلصين. أما الجبناء فهذه ساعة النهاية لهم، وهذا وعد الله أن يظهرهم للأمة.
* رئيس مجلس إدارة المجموعة الإعلامية الدولية - واشنطن الولايات المتحدة*
www.khafagi.com