قوله : 31 - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله ، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه ، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله ، للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا ، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة ، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة ، والتمرة بالتمرة ، والماء بالماء ، فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً ، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده ، فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ، ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة ، تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه ، فأعرتموهما آذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً ، وأفهاماً مريضة ، وعقولاً مهيضة ، وأذهاناً كليلة ، وخواطر عليلة ، وأنشدتم بلسان الحال :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم ، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم ومتعبدهم ومتعبدكم ومعبودهم ومعبودكم ، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتكم وقدوتهم ، وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
دعوا كل قول عند قول محمد ****فما آبن في دينه كمخاطر
اللهم هادي الضال ، مرشد التائه ، موضح السبيل ، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب ، وأوضح لنا منهج الهداية . قوله : وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ، والحال أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله وحده ، أو وما أمر الذين اتخذوهم أرباباً من الأحبار والرهبان إلا بذلك ، فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أرباباً . قوله : لا إله إلا هو صفة ثانية لقوله إلهاً سبحانه عما يشركون أي تنزيهاً له عن الإشراك في طاعته وعبادته
الفتاوى الكبري
توحيد الألوهية
وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لعدى بن حاتم لما قرأ ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم ( فقال يارسول الله ما عبدوهم فقال ( ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم)
فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه والحرام ما حرمه والحلال ما حلله والدين ما شرعه إما دينا وإما دنيا وإما دنيا ودينا ثم يخوف من إمتنع من هذا الشرك وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئا فى طاعته بغير سلطان من الله وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك
وقال
وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم فى تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا وان لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم فكان من اتبع غيره فى خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركا مثل هؤلاء
والثانى: أن يكون اعتقادهم وايمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم فى معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصى التى يعتقد أنها معاص فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت فى ( الصحيح ( عن النبى ( ( أنه قال ( انما الطاعة فى المعروف ( وقال ( على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصي
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله
عن رجل تفقه فى مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها فهل يجوز له العمل بذلك المذهب أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه
فأجاب
الحمد لله قد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله
ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه فى كل ما يأمر به وينهى عنه الا رسول الله حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول أطيعونى ما أطعت الله فاذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم
واتفقوا كلهم على أنه ليس احد معصوما فى كل ما يأمر به وينهى
عنه الا رسول الله ولهذا قال غير واحد من الأئمة كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك الا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهؤلاء الائمة الاربعة رضى الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم
فى كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم
فقال ابو حنيفة هذا رأيى وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأى خير منه قبلناه
ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه ابو يوسف بمالك
فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضروات ومسألةالأجناس فاخبره مالك بما تدل عليه السنة فى ذلك فقال رجعت إلى قولك يا أبا عبدالله ولو رأى صاحبى ما رايت لرجع إلى قولك كما رجعت
ومالك كان يقول انما انا بشر اصيب واخطىء فاعرضوا قولى على الكتاب والسنة أوكلاما هذا معناه
والشافعى كان يقول اذا صح الحديث فاضربوا بقولى الحائط واذا رايت الحجة موضوعه على الطريق فهى قولى وفى مختصر المزنى مما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعى لمن اراد معرفة مذهبه قال مع اعلامه نهيه وعن تقليده وتقليد غيره من العلماء
والامام احمد كان يقول لا تقلدونى ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعى
ولاالثورى وتعلموا كما تعلمنا وكان يقول من قلة علم الرجل ان يقلد دينه الرجال وقال لا تقلد دينك الرجال فانهم لن يسلموا من ان يغلطوا
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين ( ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه فى الدين فرضا والتفقه فى الدين معرفة الاحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها فى الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصلية فى جمبيع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه وأما القادر على الاستدلال فقيل يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل يجوز مطلقا وقيل يجوز عند الحاجة كما اذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال
والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام
بل قد يكون الرجل مجتهدا فى فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر فى مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين
إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الامام الذى اشتغل على مذهبه ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة