مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الإسلامي > الخيمة الإسلامية
اسم المستخدم
كلمة المرور

 
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 26-01-2001, 12:33 PM
أبوخولة أبوخولة غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2001
المشاركات: 74
Post سلسلة شرح الحكم العطائية للبوطى (نقلا عن دار الفرات)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تفضل عليّ فسخر لساني وقلمي للتعريف بدينه، وأنهضني بواجب الدعوة إلى شرعه، أسأله عز وجل أن يقدرني على الشكر الذي يرضيه على نعمته الجليلة هذه، وأن يتوجها بأجلّ نعم الدنيا بعد الإيمان، ألا وهي نعمة الإخلاص لوجهه، وأن يقصيني من حظوظ نفسي التائهة الأمارة.

وأصلي وأسلّم على عبده ونبيه محمد خاتم المرسلين وسيد ولد آدم يوم الدين، وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان.

وبعد، فقد شرفني الله عز وجل، على ضعفي وعجزي وعدم أهليتي، بقراءة حكم ابن عطاء الله رحمه الله تعالى، والتعليق عليها بما فتح الله به عليّ، خلال سلسلة الدروس التي بدأت إلقاءها عام 1974 في مسجد السنجقدار بدمشق، ثم في مسجد تنكز، ثم في مسجد الإيمان في البلدة ذاتها.

ومنذ ذلك العهد، والناس الذين سمعوا بتعليقاتي هذه، أو استمعوا إلى بعض من تسجيلاتها، يقترحون ويلحّون عليّ أن أفرغ حصيلتها في كتاب.

ولا أشك أن هذا الإلحاح الشديد الذي تطاول أمده إلى هذا اليوم، والذي كان ولا يزال يتجه إليّ من سائر البلدان والبقاع، يعود إلى الحب الساري إلى أفئدة الناس لهذه الحكم الربانية العجيبة، وهو حب قديم متجدد.. ويرحم الله من قال: «لو جازت الصلاة بشيء غير القرآن، لجازت بحكم ابن عطاء الله»!..

وليس بدعاً أن أكون واحداً ممن عشق هذه الحكم، وأن أكون واحداً ممن أدلى بدلوه في شرحها والتعليق عليها، وإن كنت على يقين بأني لست أهلاً لبلوغ المعاني السامية والأسرار القدسية الكامنة في تضاعيفها.

واليوم، وقد بدأ إخوة كرام من موظفي دار الفكر بدمشق بتفريغ التسجيلات التي حوت سلسلة تلك الدروس، دروس الحكم العطائية، مع استمرار إلحاح الملحّين بتفريغها في كتاب، لا يسعني إلا أن أعكف على صقلها وإعادة صياغتها، وتحويلها من نسق دروس تلقى على مسامع الناس إلى نظام كتاب يبقى للقراءة والتدبر.

وهذا التحويل يحتاج إلى تغيير في الأسلوب، وحذف للمكررات، وصقل للعبارات، والله المستعان أن يبارك لي في الوقت، وأن يكرمني بمزيد من التوفيق، حتى أنهي هذا العمل، الذي طال تسويفي له، بعد عزمي القديم عليه، في أقصر وقت ممكن. إنه البر الرحيم والسميع المجيب.

* * *

كلمة عن كتاب (الحكم) وصاحبه:

هو الإمام الملقب بتاج الدين، أحمد بن محمد بن عبد الكريم.. ابن عطاء الله السكندري المالكي، المتوفى عام 709 من الهجرة. فهو من أعيان القرن السابع الهجري. وقد بدأ فتفقه ودرس التفسير والحديث واللغة والأدب على شيوخ له في مصر، ثم توج حياته العلمية بالسلوك التربوي والسعي إلى تزكية النفس على يد عالمين جليلين جمع كل منهما بين ضوابط العلوم الشرعية وأصول تزكية النفس من أمراضها التي سماها الله «باطن الإثم» أما أحدهما فهو الشيخ أبو العباس المرسي أحمد بن عمر الذي اشتهر إلى جانب غزارة العلم بالصلاح والتقوى. وأمّا الآخر فهو الشيخ أبو الحسن الشاذلي علي بن عبد الله، وهو المرجع الأول في الطريقة الشاذلية. وقد توفي الأول منهما عام 686 هـ، أما الثاني فقد توفي عام 656 هـ.

لمع اسم ابن عطاء الله عالماً من أجلّ علماء الشريعة، مصطبغاً بحقائقها ولبابها التي تُحَرِّرُ الإنسان من حظوظ النفس والهوى، وترقى به إلى سدة الصدق مع الله، وتمام الرضا عنه، وكمال الثقة به، والتوكل عليه. ودرّس علوم الشريعة في الأزهر، وتخرج على يديه كثير من مشاهير العلماء، من أمثال الإمام تقي الدين السبكي، والإمام القرافي..

وكان إذا جلس للنصح والوعظ والتوجيه، أخذ حديثه بمجامع القلوب، وسرى من كلامه تأثير شديد إلى النفوس. شهد له بذلك أقرانه الذين كانوا في عصره، والعلماء الذين جاؤوا من بعدهم، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم.

أما كتابه (الحكم) فلا أعلم كتيّباً صغيراً في حجمه انتشر في الأوساط المختلفة كانتشاره، وتقبلته العقول والنفوس كتقبلها له!..

هو مجموعة مقاطع من الكلام البليغ الجامع لأوسع المعاني بأقلّ العبارات.. كلها مستخلص من كتاب الله أو من سنة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.

وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أما القسم الأول منها فيدور على محور التوحيد وحماية المسلم من أن يتسرب إليه شيء من المعاني الخفية الكثيرة للشرك، وأما القسم الثاني فيدور على محور الأخلاق وإلى تزكية النفس وأما القسم الثالث فيدور على محور السلوك وأحكامه المختلفة.

وقد تسابق كثير من العلماء في عصور مختلفة إلى كتابة شروح لهذا الكتيّب الصغير في حجمه والكبير في آثاره ونفعه، ويبدو أن أكثرهم إنما اندفعوا إلى ذلك ابتغاء التبرك به وأملاً في أن ينالهم شيء من نفحاته، لا سيما بعد أن تأكد لهم أن كثيرين من طلاب العلم في الأزهر فتح الله عليهم ورفع لهم من حياتهم شأناً بنفحاته وبركاته.

حِكَم ابن عطاء الله والتصوف:

سيقول بعض الناس: إن العكوف على دراسة هذه الحكم إنما هو انصراف إلى (التصوف). والتصوف شيء طارئ على الإسلام متسرب إليه، فهو من البدع التي حذر منها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذ قال: «.. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة»(1).

وأقول في الجواب: أما الأسماء والمصطلحات فلا شأن لنا بها ولا نتعامل معها. وها أنا منذ الآن سأبعد كلمة (التصوف) هذه، من قاموس تعابيري وكلماتي، مع العلم بأن الأسماء والكلمات ليست هي التي توصف بأنها الإسلام أو هي البدع الطارئة عليه، وإنما الذي يوصف بهذا أو ذاك، مسميات الأسماء ومضامينها والمعاني التي جاءت الأسماء والمصطلحات معبراً عنها وخادماً لها.. فالمصطلحات والأسماء ليست هي المعنيّ بقول رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: «محدثات الأمور» وإنما المعنيّ بها المعاني والمسميات التي تتمثل في معتقدات زائغة أو سلوكات باطلة.

ولكني، على الرغم من هذا، لن أتعامل مع الأسماء والمصطلحات الحديثة التي تثير حساسية بعض الناس الذين يتعاملون مع الأسماء والمصطلحات والشعارات أكثر مما يقفون على جوهر المعاني والمسميات. ولذا فلسوف أحاول أن أشطب كلمة (التصوف) هذه من ذاكرتي، فإن لم أستطع إلى ذلك سبيلاً، فلا أقل من أن أبعدها عن قاموس تعابيري وكلماتي خلال رحلتي هذه كلها في خدمة حكم ابن عطاء الله وتجلية معانيها.

على أن ابن عطاء الله أيضاً لم يدن إلى هذه الكلمة في شيء من حكمه هذه قط. بل إني لم أجده يعرّج على هذه الكلمة في أي من كتابيه (لطائف المنن) و(التنوير في إسقاط التدبير) وهما الكتابان اللذان أتيح لي أن أقرأهما وأستفيد منهما بالإضافة إلى الحكم.

إذن فلننظر فيما سنصغي إليه من هذه الحكم إلى اللباب والمعاني، ثم لنضع هذه المعاني كلها في ميزان كتاب الله وسنة رسوله. فما وافق من ذلك هذا الميزان قبلناه، وما خرج عليه وشرد عنه رددناه.

الإحسان وموقعه من الإسلام والإيمان:

ولرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كلام عن الإحسان وأهميته والتعريف به في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب، يقول فيه جواباً عن سؤال جبريل له: « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».

فهل سَاءَل أحدنا نفسه عن وجه الحاجة إلى الإحسان، بعد أن وضعنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمام حقيقة كل من الإيمان والإسلام؟

وهل تساءلنا عن موقع الإحسان وعن وظيفته بعد وجود كل من الإسلام والإيمان؟

إن سيرة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وسيرة أصحابه البررة الكرام، يبرز كل منهما وجه الحاجة إلى الإحسان، ويبرز الموقع الذي يشغله الإحسان بين قطبي كل من الإسلام والإيمان، لا سيما لدى المقارنة بين حياة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وحياة أصحابه من جانب، وحياتنا نحن المسلمين والمؤمنين أيضاً من جانب آخر.

من المعلوم أن أركان الإيمان إنما تغرس يقيناً في تربة العقل، في حين أن أركان الإسلام سلوك يصطبغ به الكيان والأعضاء.

ولكن فما هو السلك الذي ينقل شحنة اليقين العقلي قوة دافعة إلى الأعضاء والكيان الجسدي؟..

لعلك تقول: لا حاجة إلى هذا السلك؛ فيقين العقل بأمر ما، يكفي وحده حافزاً إلى السلوك المناسب له.

غير أن هذا التصور باطل من الناحية العلمية، وهو باطل على صعيد الواقع الدائم المرئي!!..

كثيرون هم الذين آمنت عقولهم بالله، ولكن سلوكهم ناقض مقتضيات هذا الإيمان وخاصمه.. جمع كبير من هؤلاء كانوا على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وجموع أكثر من هؤلاء أنفسهم، يملؤون اليوم رحب العالم، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 27/14] .

والسبب العلمي في ذلك أن العقل ليس هو الحافز الوحيد في كيان الإنسان إلى السلوك، بل يزاحم العقلَ وينافسه في ذلك العصبيات والأهواء والأغراض، والعواطف بأنواعها، لا سيما «الدافعة»(2) وإذا لم يمتدّ بين العقل وكيان الإنسان هذا السلك الذي نتحدث عنه، فإن العقل لا بدّ أن يصبح هو المغلوب والمهزوم في هذا العراك. وعندئذ يصبح زمام السلوك بيد هذه العوامل الأخرى المتمثلة في العصبية والأغراض والأهواء ورياح العواطف المضادّة.

وانظر إلى واقع أكثر الناس، تجده مصداقاً لما أقول.

إذن، فلكي يمتدّ شريان (الإحسان) في عبادات المسلم وقرباته، بحيث يعبد الله كأنه يراه، لا بدّ أن يسري من العقل الذي آمن إلى الأعضاء التي استسلمت وأسلمت، سِلْكٌ من التأثير والفاعلية، بحيث يغدو المسلم يقظاً لحقائق إيمانه متفاعلاً بشعوره معها أثناء النهوض بطاعاته وعباداته.

فما هو هذا السلك؟ ومن أي شيء يتكون؟

إنه الإكثار من ذكر الله وتذكره، والإكثار من مراقبة الله والتنبه الدائم إلى مراقبة الله للعبد.. وخير سبيل إلى هذا التذكر الدائم، والوقوف المستمر تحت مظلة المراقبة الإلهية، ربط النعم بالمنعم، بحيث كلما وفدت إليه نعمة تذكر الإله الذي تفضل بها عليه، وهيهات لسلسلة النعم الإلهية أن تنقطع في لحظة من اللحظات عن العبد؛ إن هذا الإنسان الكريم على الله عز وجل، محاط من الأرض التي يعيش فوقها بآلاف النعم، ومستظل من السماء التي تعلوه بآلاف النعم، ومحشوّ من فرقه إلى قدمه بآلاف النعم، هذا كله بالإضافة إلى النعم الوافدة المتجددة التي لا حصر لأنواعها فضلاً عن عدّها وإحصائها.

فإذا عوّد العبد نفسه وأيقظ ذاكرته لتذكر الإله المنعم المتفضل، كلما أقبلت إليه نعمة منها، أو كلما تعامل مع واحدة منها، واستمر على هذا المنوال، اهتاجت بين جوانحه محبة عارمة لإلهه المنعم المتفضل، إذ إن النفوس مجبولة على حبّ من قد أحسن إليها. وكلما ازداد هذا العبد المغمور بنعم الله ذكراً وتذكراً لربه ازدادت محبته له رسوخاً وازداد تعظيماً ومهابة له.

ثم إن هذه المحبة الراسخة تلعب دوراً كبيراً في طرد محبة الأغيار من القلب، أو في تحجيمها وحصرها في زاوية ضيقة من الفؤاد الذي غدا جلّه ساحة لمحبة الله عز وجل وتجلياته. فتذوب في ضرام هذا الحب عصبيته للذات والمذهب ويتراجع سلطان أهوائه التي كانت مهيمنة على نفسه، وتذبل مشاعره الغريزية التي تتحكم بكيانه وتصرفاته. ويغدو عندئذ هذا الإنسان مظهراً للمؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 2/165].

فهل تتصور أن يقبل هذا المحب إلى صلاته دون أن يكون محسناً في أدائها، أي دون أن يشعر بأن الله يراه إذ يناجيه وإذ يركع ويسجد بين يديه؟ أم هل تتصور أن تأتي مشاغله الدنيوية وأهواؤه الغريزية فتحجبه عن تذكر الله ومراقبته وتنسيه نجواه لله في صلاته؟

لا تتصور أن يكون شأن هذا العبد المحب على هذا المنوال، ما دام أن هذا السلك الذي حدثتك عنه قد امتدّ نابضاً بذكر الله عز وجل ما بين مركز الإيمان في العقل ومركز الإسلام في الأعضاء والكيان.

* * *

والآن، من ذا الذي يجهل أن هذا الإحسان الذي دعا إليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ هو لباب الإسلام، بل هو الجامع المشترك بين الإيمان والإسلام؟!.. وهل الإسلام بدون هذا الإحسان إلا كجسد لا روح فيه، أو كتمثال لا حراك فيه؟ وهل يتعايش الازدواج بين شكل الإسلام وألفاظه، والاستغراق في حمأة الشهوات والأهواء، والخضوع للأغراض والعصبيات، في الواقع المعيشي والمرئي في حياة كثير من الناس، إلاّ لأن صلة ما بين العقل المؤمن والكيان المسلم أو المستسلم غائبة أو مقطّعة، لم يمتدّ بينهما سلك الإحسان الذي لا سبيل إليه إلا عن طريق الإكثار من ذكر الله وتذكره بالنهج الذي حدثتك عنه؟!..

وإذا ثبت أن السبيل إلى ذلك هو أن يأخذ المسلم نفسه بالإكثار من ذكر الله الذي هو سلّم الوصول إلى محبة الله، والذي هو المدخل الذي لا بدّ منه إلى تزكية النفس، فهل في المسلمين من يُهَوِّنُ من شأن هذا العلاج، فضلاً عن أن ينكره ويدفع به إلى قائمة البدع والمستحدَثات.

وكيف يتأتّى للمسلم الصادق في إسلامه أن ينكره، والقرآن مليء بالآيات الآمرة بالإكثار من ذكر الله والمحذرة من الاستسلام للغفلات، وبالآيات الآمرة بالسعي إلى تزكية النفس وتطهيرها من أوضارها التي سماها الله «باطن الإثم».

فإذا جاء من يرشد تلامذته ومريديه إلى اتباع هذا السبيل، ونبههم إلى أهمية السعي إلى تزكية النفس عن طريق نقل الإيمان بالله من مجرد قناعة أو يقين مغروس في العقل إلى عاطفة من الحب والخوف والتعظيم تهيمن على القلب، ونظّم لهم إلى ذلك منهاجاً من الأوراد والمأثورات، يأخذون بها أنفسهم، ليخرجوا بذلك من تيه الغفلة إلى صعيد الذكر؛ فالمشاهدة بعين البصيرة، وليتحققوا عندئذ بالإحسان الذي يجعلهم أثناء قرباتهم وعباداتهم كأنهم يرون الله.. أقول: إذا جاء من يرشد تلامذته ومريديه وإخوانه إلى هذا النهج، أفيكون قد أساء صنعاً من حيث إنه نفذ أوامر الله وتعاليم رسول الله في حق نفسه أولاً، وفي حق إخوانه وأصحابه ثانياً؟!..

ومن هم الذين عناهم بيان الله بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 41/33] ، والذين عناهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بقوله: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمْر النعم» إن لم يكن هؤلاء المرشدون الناصحون في مقدمتهم؟

ثم إذا جاء من يطلق على الالتزام بهذا النهج الرامي إلى هذا الهدف التربوي القدسي، اسم (التصوف) أو (علم السلوك) أو (فنّ التزكية) أفتكون هذه التسمية مزهقة لشرعية المضمون، موجبة لإبطال الحق، وإحقاق الباطل؟!.. على أن بوسعك أن تلتقط المنهج والمضمون وتلقي الاسم والمصطلح وراء ظهرك، أو حتى إن -شئت- تحت قدمك، وبذلك تصلح ما ترى أنه خطأ، وتقوّم ما تعتقد أنه معوج، المهم أن لا تأخذ الجار بظلم الجار، وتعاقب المسمى البريء بجريرة الاسم.

* * *

فإن جاء من يقول: ولكن هذا النهج الإرشادي تسرب إليه مع الزمن كثير من البدع التي لا يقرها قرآن ولا سنة، قلنا له: أنت مشكور على غيرتك على شرع الله أن لا يتسرب إليه دخيل وأن لا يختلط به ما ليس منه.

ولكن الغيرة على الحق لا تتمثل في أن تعود فتأخذ الجار بظلم الجار، وفي أن تزهق الحق من أجل الباطل الذي تسرب إليه.

إن استنكار المشروع من سبل تزكية النفس وبلوغ درجة الإحسان، من أجل البدع التي تسربت إليه، هو دعوة غير مباشرة إلى هذه البدع، وإغراء خفي بقبولها وبالتعامل معها. ولعل من أهم أسباب انتشار هذه البدع وعكوف فئات من الناس عليها باسم التصوف ونحوه، هذا اللون من الاستنكار الذي يهدف إلى هدم الدار كلها، من أجل أرائك غير مريحة فيها!!..

حدّد البدعة التي عثرت عليها ضمن كلٍّ من الطاعة المشروعة، ثم ركز إنكارك عليها، مدافعاً عن بقية الكل، داعياً إليه، منبهاً إلى أهميته، يذوي عندئذ العشب الدخيل، والغصن الطفيلي الضار، ويزهو النبات الأصيل صافياً عن الأوضار والشوائب.

إن المسلمين اليوم في ظمأ شديد إلى العاطفة الدينية التي حرمتهم منها قسوة المتطلبات الدنيوية وفتنة المغريات المستشرية.. فإن أتيح لهم من يهديهم إلى مواردها الشرعية الصافية عن شوائب البدع، فلسوف يركنون إليها ويسعدون بها، ويصلون منها إلى ريٍّ لا غصص فيه. وإن لم يجدوا أمامهم إلا من يصدّهم ويردّهم ويحذرهم من هذه الموارد العاطفية التي داخلتها البدع، دون أن يرشدوهم إلى أي بديل، فلسوف يستجيبون لنداء ضروراتهم الملحة، ويعرضون عن التحذيرات التي لا بديل عنها إلا الظمأ القتال.

ولا شك أن توجيه هؤلاء الظمأى إلى حِكَم ابن عطاء الله وأمثالها، إنما هو توجيه إلى مورد لعاطفة إسلامية صافية عن الشوائب، بعيدة عن عكر البدع والمنكرات، ولسوف توصلهم إن هم أخذوا أنفسهم بنصائحها إلى صعيد باسق من محبة الله وتعظيمه والمخافة منه والرضا عنه والثقة به والتوكل عليه. وهل يصلح إيمان بالله بدون هذا كله؟

والواقع المرئي أمامي خير شاهد على ذلك.. عندما استخرت الله في تدريس حكم ابن عطاء الله في لقاء عام في المسجد، ظننت أن الجمع الكثيف والكثير الذين تعودوا على حضور دروسي سيتفرقون ويعرضون.. زهداً منهم في هذه البحوث التي تنعت على ألسن كثير من الناس بالتصوف، ولكني فوجئت بنقيض ذلك، لقد ازداد الجمع المواظب تعلقاً وثباتاً، وأقبلت من ورائهم فئات شتى من سائر المشارب والاتجاهات والطبقات، وفيهم من لم يكن ملتزماً بسلوك إسلامي قط.. ساقهم جميعاً الظمأ العاطفي الذي أشعرتهم به الفطرة الإيمانية التي لم يحرم الله منها أحداً من عباده. وكان من حسن الحظ أن المورد الذي اجتمعوا عليه مورد شرعي سلفي سليم خال من الشوائب، وحسبك أنه المورد الذي تمثل في حكم ابن عطاء الله.

فليتق الله أولئك الذين ينتقمون من البناء كله من أجل خطأ في تصميم إحدى نوافذه، أو يحرّمون الطعام الطاهر الطيب من أجل استنكارهم لاسمه!!..

وأعود في نهاية هذه المقدمة، لأذكّر بالعهد الذي قطعته على نفسي، أن لا أتعامل فيما قد فتح الله عليّ من شرح (الحكم) إلا مع المضامين والمسميات، وأن لا أعرِّج على اسم التصوف في قليل أو كثير.

والله المسؤول أن يهبنا من جذوة الإخلاص لوجهه، ومن صدق التوجه إلى معالجة أمراضنا النفسية الوبيلة المهلكة، ما يبصّرنا بضرورة سلوك النهج الذي ذكرته في هذه المقدمة، والذي ستتجلى تفاصيله في الصفحات التالية، بفضل الله وتوفيقه.


* * *

يتبع إن شاء الله
  #2  
قديم 18-03-2007, 05:28 AM
aliraghib aliraghib غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2006
المشاركات: 1
إفتراضي

بارك الله فيكم امين
 


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م