وإنما ننكر هنأ أن تُفسّر مسيرة التاريخ بأنها مؤامرة واحدة ، يتقاسم أدوارها ممثلون بارعون ، فهذا أشبه بالسخف، والهوس ، فالتاريخ فيه مؤامرات ، لكنّه ليس كل مافيه مؤامرة ، لم يكن كذلك قط ، ولايكون ، وليس هي سنن الله تعالى فيه .
ولسنا ننكر أنّ ثمة قواعد معروفة في عالم المكر السياسي ، تجعل الأمور تبدو ـ أحيانا ـ كأنها مؤامرة ، وتظهر أطراف الصراع كأنها متآمرة ، وأنّ من لايعرفها ، تختلط عليه الأوراق ، فعالم المكر السياسي يقوم على أسس كثيرة ، أهمها ثلاثة :
أحدها : إبقاء الأزمات وإدارتها ما أمكن ، إذا كانت الإستفادة منها أنفع من حلّها ، أو الإدارة بالأزمة ، وهذا فنّ من المكـر آخـر عجيب ، أيْ توفير أسباب الأزمة لتنفجـر ، ثم الأخذ بخيوطها وتحريكها ، لحصد الأطماع منهـا ، ووقوع هذين كثيرٌ جدا في المشهد السياسي العالمي ، وحروب الخليج الثلاثة ، حرب الخميني ، وحرب الكويت ، وحرب احتلال العراق كلّها أمثلة واضحة .
الثاني : صناعـة توازن القوى ، الذي يمنع إنهيار المصالح عندما تتغلّب قوى على أخرى ، واستغلال ذلك التوازن لجني المكاسب ، وأكثر ما تلجأ الدول عالميا ، أو محليا ، لهذا الحلّ إذا لم تقدر أن تجعل القوى المتنافسة تابعة لهـا ، ولهذا يبدو أحيانا السكوت عن تنامي قوة معادية في المشهد السياسي ، كأنه مؤامرة خفيـّة !
الثالث : أنّ عالم المكر السياسي يقوم على فنّ الوصولية ، فالغاية تبرر الوسيلة ، ومن ذلك أن عقد الصفقات مع أشدّ الناس عداوة ، لايعني أنه عميلٌ في صورة عــدوّ ، بقدر ما يعني أنّه ربما لم يكن الوصول إلى الأهداف السياسية إلاّ عن طريق تلك الصفقات .
ومن هذا أيضا فن التوظيف المباشر ، وغير المباشر ، كما وظّفت واجهات ومؤسسات دينية ، وجماعات إسلامية ، في خدمة السياسة الصهيوصليبية العالمية ، فهي تحرق في هذا المكر إلى أن تنتهي الحاجة إليها في مرحلتها ، وتحت هذا تحدث أمور في غاية العجب ، حتى تجد الرجل يتكلم في تفاصيل مسائل التوحيد في مسجده وبين طلاب العلم ، وهو بوق من أبواق الحرب الصليبية على منابر الإعلام !!
وهذا لايعني أن كلّ هذه الوسائل محرمة شرعا في جميع صورها ، بل ماكان منها خاضعا لأحكام الشريعة، فهـو مباح ، أو ربّما كان من الجهاد المندوب ، أو الوا جب ، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وحياة الصحابة ، وتاريخ المسلمين ، أمثلةٌ كثيرة ، لإستغلال ما يجوز استغلاله لمصالح المسلمين ، وإعلاء كلمة الإسلام ، سواء توظيف القوى والصراعات السياسية ، واستغلال الخلافات في صفوف الأعداء ، واهتبال فرص تقاطع المصالح ، والاستفادة من التحالفات ،..إلخ
ولاريبَ أنّ ساسة الغرب ، قـد فكّروا في الإستفادة من الجهاد العالمي في ضمن ما ذكرت آنفا ، وقلّبوا عقولهم الماكره ، يبحثون عن كيفيّة من خبراتهم الشيطانية ، لإستثماره في مكرهم العالمي ، غيرَ أنّ الذي حيـّر عقولهم فرجعت خاسئة منبهرة ، وكفّ أيديهم فردت إلى أفواههم منكسرة ، أنّـه أمر ربانيّ ، تجاوز حدود تفكيرهم العفن ، وتعدّاها إلى حيث يقفون عاجزين أمام إنهيار بنيانهم الذي بنوه بأيديهـــم ، كماقال الحق سبحانه :
(وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون ، َفَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ، أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) .
( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) .
وقد قلنا فيما مضى ، وفي عدّة مواضع ، أنّ هذا الجهاد العالمي ، إنما هو روحٌ ربانيّة ، عليها جميع أمارات النصـر ، وملامح التمكين ، قد بثّهـا الله تعالى في الأمـّة ، لتكون إرهاصات لتغيير كبير ، وجمع لها ثلاثة ركائز ، هي سـرّ استعصاءها على دوائر المكر السياسي العالمي ،
أحدها : أنّه جهاد عالمي تجاوز حدود القدرة على حصاره ، أو إسقاطه في شَـرَك التوظيف.
الثانيــة : أنّ خطابـه مستعلٍ بالوحي ، خارج عن سيطرة أوكار الطواغيت ودسائسها ، ووسائله أيضا غير خاضعة لإعلام الطواغيـت وأبواقها .
الثالثة : أنّ استعداده للتضحيات تجاوز المقاييس كلّها ، وعزيمته أشدّ خطراً من ترسانة الأعداء بأسرها .
ولأنّ هذا الجهاد العالمــي ، فكراً ، وتنظيماً ، وسلاحاً ، تبرّأ من الجاهليّة كلّها ، وقطع جميع خيوطها ، وأظهر لها العداوة من غير خفاء ، ولاتلبيس ، لم تقدر أن تصطاده في شباكها ، بل اصطادها هـو ، فأوقعها في مستنقع الهزيمة ، وألحق بها الذل ، والعار ، وبدا عليها التخبـّط ، فهي غارقة في أخطاءٍ تولد أخطاءً ، على جميع المستويات.
وســرّ ذلك كلّه أنه قفز عن حضيض التأثـّر وردود الأفعال ، إلى مستوى صناعة الحدث العالمي ، والتأثير فيه ، ومن الأنانية الحزبية التي تعيشها الحركات الأخرى إلى الفكر الأممـيّ الذي يشقّ طريق النهضة الشاملة ، فحلّت عليه بركات الله تعالى ، وتجلّت فيه آيات العزيز الحكيم .
ومن الواضح جدا ، أنّ مسيرة الجهاد العالمي ، أربكت كلّ الأهداف الغربية ، وتعثّرت بسببه مشاريعها ، وأدخلت المشروع الغربي في دوامة من المشكلات المستعصية ، فتأمّل ما يحدث من هبوط لشعبية أمريكا، وتنامي العداء لها في كلّ الاستبيانات ، وارتفاع أسهم الخطاب الإسلامي في الشارع الإسلامي ،
وقـد خسرت أميركا بسبب هذه الروح الجهادية الآخذة في النمو والتصاعد ، من الأرواح ، والأموال ، والسمعة ، والصورة الحضارية، والمكاسب الإقتصادية ، وكسب أعداؤها المجاهدون ، من الأنصار ، والدعاية ، والإمداد من المخزن البشري ، والفكري ، ما يجعـل تفسير هذا كلّه ، بأنـّه مؤامرة أمريكية ، ضربٌ من لغو الحمقى ، الذي يترفع العقلاء عن الردّ عليـه !
هذا ،، وأعظم ما كسبه أعداءُ الطاغوت العالمي الأمريكي ، صناعة النماذج المثلى المتمرّدة على الهيمنة السياسية والعسكرية الأمريكية ، الملبَسه لباس التهويل المبالغ فيه ، والدعاية النفسية الكاذبة .
والشهيد بإذن الله الزرقاوي ، هـو لهذا أنموذج شامخ ، شموخ الأنموذج الكامل لهذا النهج التمردي المطلوب اليوم من الشعوب ، ولهذا فقـد حقّق هذا الشموخ النادر ، في ثلاثة أعوام فحسب ، من جهاده في العراق ، أهداف أمّة ، وضرب مثلاً عظيما لأمـّة ، وأنار الطريق لأجيالٍ من الأمّـة .
والحقيقة الجليـّة التي نقولها مستيقنين ، أنّ المكر الصهيوصليبي لم يكن حريصاً على التخلّص من أزمة تلاحقه ، وتزعجه ، أكثر من الزرقاوي ، ذلك أنّه لم يكن رجلا مجاهدا فحسـب ، بل كان في حـدّ ذاته أزمة عالمية ، يواجهها المشروع الصيهوصليبي العالمي ، كما قائــده الشيخ بن لادن ، وسائـر رموز هذا الجهاد المبارك .
غير أنـّه ،، شأنَ جميع أبطال الأمّة الذين يستعملهم الله ، لا يستدعيهم إليــه ـ ولا نزكّيه على الله ـ إلاّ بعدما يقـذف فيمـن يعقبهم من البركــة ، أكثر مما كان في حياتهم ، ومن ذلك استكمال مسيرتهم على يـد أتباعهم ، ولهذا فقد تولـّد من استشهاد الزرقاوي أجيالا من المجاهدين ، سيتقاذفون كالحمم الحارقة ، على المشروع الصيهوصليبي حتى يحرقوه ، فيذروه ـ بإذن الله ـ قاعا صفصفا ،
هذا هوا لجواب ،، وكفى .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
الشيخ العلامة
حامد بن عبد الله العلي
حفظه الله
ــــــــــــــ