عرض مشاركة مفردة
  #11  
قديم 14-05-2005, 02:03 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

عليه كان مصلحة أو مفسدة حسب نص الشرع، وإن لم ينطبق عليه بُحث عن المعنى الذي ينطبق على الواقع حتى يعرف المصلحة التي قررها الشرع بمعرفة حكم الله في ذلك الشيء.
وعلى هذا فالمصلحة مصلحة شرعية لا مصلحة عقلية، وهي تدور حيثما يدور الشرع، فحيثما يكون الشرع تكون المصلحة، لأن الشرع هو الذي يقرر مصالح العباد.

أحكام العبادات توقيفية من عند الله

العبادات منتهى درجات التقديس، وهي فطرية في الإنسان، إذ هي رجْع لغريزة التدين. والعقل إنّما يجتمع فيها مع الشعور ليعبد الإنسان من يستحق العبادة وهو الخالق، حتى لا يضِل الوجدان فيعبد ما لا يستحق العبادة، أو يخطئ فيتقرب إلى المعبود بما يبعده عنه. فدور العقل في العبادة حتمي في الاهتداء لمن يُعبد وتعيين من يُعبد وهو الخالق.
أمّا الكيفية التي يؤدي فيها المخلوق العبادة إلى الخالق، فلا مجال للعقل فيها، ولا يستطيع معرفتها. لأن هذه الكيفية هي أحكام يقوم الإنسان بعبادة الله بحسبها، وبعبارة أخرى هي نظام ينظم علاقة المخلوق بالخالق، أي علاقة العابد بالمعبود. وهذا النظام لا يمكن أن يكون من المخلوق مطلقاً لأن المخلوق لا يدرك حقيقة الخالق حتى ينظم علاقته به، ولا يدرك كنهه حتى يعرف كيف يعبده. فيستحيل على الإنسان أن يضع بعقله نظاماً للعبادات بينه وبين الخالق ينظم علاقته بالخالق أي ينظم تقديسه للخالق. لأن وضع هذا التنظيم يستوجب إدراك حقيقة الخالق وهو محال، فصار محالاً أن يضع الإنسان بعقله أحكام العبادات.
ومن هنا كان لا بد أن يكون نظام العبادات آتياً من الخالق لا من المخلوق، أي آتياً من المعبود لا من العابد، فكان لا بد أن تأتي أحكام العبادات من الله وحده، وليس من الإنسان، ولا دخل للإنسان في أي شيء منها مهما قَلّ، لأنه يستحيل عليه أن يضعه. وهذا النظام لا بد أن يبلّغه الخالق للمخلوق، ليقوم بعبادة الإله بحسبه، ومن هنا كانت الحاجة إلى الرسل ليبلّغوا الناس أحكام العبادات، حتمية الوجود، لاستحالة أن يضع الناس أحكاماً في العبادات، ولأنها لا تأتي إلاّ من الله تعالى.
وقد يقال إنه لا حاجة للإنسان إلى نظام للعبادات بل يمكنه أن يقوم بالعبادات دون نظام، إذ هي منتهى درجات التقديس فيقوم بالعبادة كما يشاء لأنها رجْع لإشباع غريزة التدين ولا تحتاج إلاّ إلى الإشباع فقط، فيُشبعها بأي فعل من أفعال التقديس يؤدي فيه هذا الإشباع، فما هي الحاجة إلى تنظيم التقديس، أي إلى أحكام العبادات؟
والجواب على ذلك أن رجْع أي غريزة من الغرائز لا بد من تنظيم الأفعال التي تؤدي هذا الرجْع، لأن عدم تنظيمها يؤدي إلى الفوضى وهي تجر إلى الإشباع الخاطئ أو الإشباع الشاذ، وكلاهما يتناقض مع الأصل الذي قامت عليه الغريزة. فمثلاً غريزة النوع إذا تطلبت الإشباع الجنسي ولم يكن لها نظام لهذا الإشباع، حاوَلَت الإشباع بأي شيء يؤديه، فيجرها ذلك إما إلى الإشباع الشاذ في جهة ليست محلاً للإشباع، وهذا معناه القضاء على النوع الإنساني الذي وُجدت الغريزة من أجله، أو إلى الإشباع الخاطئ، وهو الإشباع في جهة هي محل إشباع ولكن لمجرد الإشباع المؤقت. وهذا معناه أيضاً الصرف عن نتيجة الإشباع وهو الولادة، وفي هذا تقليل النسل إن لم يكن انعداماً له، وهو صرفٌ للغريزة عما وُجدت له وهو بقاء النوع.
ولذلك كان لا بد من نظام ينظم غريزة النوع.
وكذلك غريزة التدين، لا بد من تنظيم الأفعال التي تؤدي رجْع التقديس، أي لا بد من تنظيم التقديس وهو العبادة، لأن عدم تنظيمه يؤدي إلى أن يحاول الإنسان القيام بأي فعل يؤدي التقديس، فيجُر ذلك إلى الإشباع الشاذ بتقديس جهة ليست محلاً للتقديس، كتقديس النار باعتبارها إلهاً، أو تقديس صنم من تمر يصنعه بيده فيعبده ثم يأكله. وهذا معناه صرف الغريزة إلى تقديس غير الخالق، مع أنها هي الشعور بالعجز والاحتياج إلى الخالق المدبر. فصار التقديس مناقضاً للغريزة الدافعة له. وقد يجُر إلى تقديس جهة هي محل التقديس ولكن لمجرد الإشباع لا لتحري حقيقته، كتقديس صنم على اعتبار أن الإله حلّ به أو على اعتبار أن تقديسه يقربه من الله. وهذا معناه الصرف عن نتيجة الإشباع وهو وصول الشكر إلى مستحق الحمد والثناء، إلى أداء هذا الحمد لغير من هو له وهو الصنم. وفي هذا صرفٌ للغريزة عما وُجدت له وهو تقديس الخالق المدبر.
ولذلك كان لا بد من نظام ينظم غريزة التدين كما ينظم غريزة النوع. والفرق بينهما هو أن غريزة النوع يمكن للإنسان أن يضع نظاماً من عقله للأعمال التي تؤدي رجْعها لأنها من علاقات الإنسان بالإنسان، فيمكنه إدراكه ويمكنه أن ينظم علاقته معه، وإن كان لا يمكن أن يكوّن نظاماً كاملاً. أمّا غريزة التدين فلا يمكنه أن يضع نظاماً للأعمال التي تؤدي رجْعها من عقله، لأنها علاقة للإنسان بخالقه ومدبّره، وهو لا يمكنه إدراكه، فلا يمكن أن ينظم علاقته معه، بل لا بد أن يأتي هذا النظام من الخالق.
ومن هنا كان لا بد أن تأتي أحكام العبادات من الخالق لا من المخلوق.

الفكـر

الفكر والإدراك والعقل بمعنى واحد، فهي أسماء متعددة لمسمى واحد. ويطلَق الفكر ويراد منه التفكير، أي العملية التفكيرية. وقد يطلَق ويراد منه نتيجة التفكير، أي ما توصّل إليه الإنسان من العملية التفكيرية. وليس للفكر بمعنى التفكير عضو خاص به حتى تصح الإشارة إليه، بل هو عملية معقدة تتكون من الواقع المحسوس، وإحساس الإنسان، ودماغه، والمعلومات السابقة لديه. وما لم تجتمع هذه الأشياء الأربعة في عملية معينة لا يمكن أن يحصل فكر ولا إدراك ولا عقل.
ولذلك أخطأ القدامى حين بحثوا العقل، وصاروا يحاولون تعيين مكانه في الرأس أو القلب أو غير ذلك. والظاهر أنهم كانوا يظنون أن العقل عضو معين، أو أن للعقل عضواً معيناً. وأخطأ المحدثون حين جعلوا الدماغ هو محل العقل والادراك والفكر، سواء الذين قالوا إن الفكر هو انعكاس الدماغ على الواقع، أو الذين قالوا إن الفكر هو انعكاس الواقع على الدماغ. لأن الدماغ عضو كسائر الأعضاء لا يحصل منه أي انعكاس، ولا يحصل عليه أي انعكاس. لأن الانعكاس هو تسليط الضوء على الشيء وارتداده عنه، وتسليط الشيء على جسم فيه قابلية الانعكاس وارتداده عنه مع وجود الضوء. وذلك كتسليط مصباح كهربائي على جسم ثم ارتداد الضوء عن هذا الجسم، فيُرى الجسم ويُرى الضوء. أو تسليط الشمس أو القمر أو أي ضوء من أي جهة. وكتسليط جسم على مرآة مع وجود الضوء، يرتد الضوء، وترتد صورة الجسم عن المرآة، فيُرى كما هو. إذ ترتد صورة الجسم كأنها ارتسمت خلف المرآة فرؤيت، وهي في حقيقتها لم ترتسم، وإنّما انعكست كما ينعكس الضوء على أي جسم. فهذا هو الانعكاس.
وفي عملية الفكر لا يحصل أي انعكاس، فلا يحصل فيها ولا أي انعكاس من الواقع على الدماغ. فالانعكاس من حيث هو لم يحصل. وأمّا العين التي يُتوهم أنه يحصل بواسطتها انعكاس، فلا يحصل فيها، ولا منها انعكاس، وإنّما الذي يحصل هو انكسار. فالشيء المرئي لا ترتد صورته للخارج، وإنّما يحصل بتسلطه على العين انكسار، إذ تنكسر صورة الشيء المرئي وتستقر في الداخل فيُرى الشيء، ولا يمكن أن ترتد إلى الخلف، ولا يمكن أن يحصل انعكاس منها ولا بها مطلقاً. وعليه فالدماغ ليس محل الفكر.
والذي يحصل هو أن الواقع المحسوس تنتقل صورة عنه إلى الدماغ بواسطة الحواس، وتكون هذه الصورة بحسب الحاسة التي نقلت الواقع. فإن كانت البصر، نقلت صورة الجسم، وإن كانت السمع نقلت صورة صوته، وإن كانت الشم نقلت صورة رائحته، وهكذا. فيرتسم الواقع كما نُقل إلى الدماغ، أي حسب الصورة التي نُقلت. وبذلك يحصل الإحساس بالواقع فقط، ولا يحصل تفكير، ويحصل تمييز غريزي فقط من حيث كونه يُشبِع أو لا يُشبِع، يؤلم أو لا يؤلم، يفرح أو لا يفرح، يلذ أو لا يلذ، ولا يحصل أكثر من ذلك، فلا يحصل تفكير. فإن كانت هنالك معلومات سابقة، رُبطت بواسطة قوة الربط الموجودة في الدماغ بالواقع المحسوس الذي رُسم في الدماغ، فتحصل بذلك العملية التفكيرية، وينتج إدراكه الشيء ومعرفة ما هو. وإن لم تكن هنالك معلومات سابقة لا يمكن أن يحصل إدراك لحقيقة الشيء، بل يبقى عند حد الإحساس فقط، أو عند حد التمييز الغريزي فقط، من حيث كونه يشبِع أو لا يشبِع ليس غير، ولا يحصل فكر على الإطلاق.
وعلى هذا فإن العملية الفكرية لا تحصل إلاّ بتحقق وجود أربعة أشياء هي: الواقع المحسوس، والحواس أو واحدة منها، والدماغ، والمعلومات السابقة. فإذا نقصت واحدة من هذه الأشياء الأربعة لا يمكن أن يحصل فكر مطلقاً. وما يحصل من محاولات التفكير مع عدم توفر الواقع المحسوس ومع عدم توفر المعلومات السابقة هو تخيلات فارغة لا وجود لها، وليست أفكاراً. والاستسلام لها بالبعد عن الواقع المحسوس، أو عن المعلومات السابقة المتصلة بها، يؤدي إلى الإغراق بالأوهام والضلال، وربما أدى إلى إجهاد الدماغ فيصاب بأمراض الخلل والصرع وما شاكلها. ولذلك لا بد من وجود الواقع المحسوس، ووجود المعلومات السابقة، كما لا بد من وجود الدماغ، ووجود الحواس.
وعليه فالفكر أو الإدراك أو العقل هو نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها هذا الواقع. ويقال نقْل الواقع لا نقْل صورة الواقع، لأن الذي يُنقل هو الإحساس بالواقع لا صورة كالصورة الفوتوغرافية. فهي صورة للواقع وهي الواقع إحساساً. ولذا كان القول بأنها