نقل الواقع، أدق من القول بأنها نقل صورة الواقع، لأن الصورة المنقولة هي إحساس بالواقع لا صورة عنه فقط.
هذا هو تعريف الفكر، أي هذا هو الفكر أو الإدراك أو العقل. وهذه العملية تحصل للمفكر الذي ينتِج الفكر، لا لمن يُنقَل إليه الفكر. أمّا من يُنقل إليه الفكر فلا تحصل له هذه العملية، لأن الفكر نتج وانتهى، فيعطيه منتجه للناس، وينقله الناس بعضهم لبعض، ويعبّرون عنه باصطلاحات اللغة أو غيرها، وإن كان التعبير باللغة هو السائر في أنحاء العالم.
والفكر الذي يُنقل للشخص يُنظر فيه: فإن كان له واقع محسوس، سبق أن أحسه الشخص، أو أحسه حين نُقل إليه، أو كان لم يسبق أن أحسه، أو لم يحسه حين نُقل إليه بل تصوره في ذهنه كما نُقل إليه، وصدّقه، وصار له واقع في ذهنه كأنه أحسه وسلّم به كتسليمه بالواقع المحسوس، فهو في كلتا هاتين الحالتين قد أدركه، فأصبح بوجود هذا الواقع له في ذهنه مفهوماً من مفاهيمه، وكان فكراً حقيقة كما لو نتج هذا الفكر عنه هو. وإن لم يوجَد لهذا الفكر واقع عند الشخص الذي نُقل إليه بل فَهِم الجملة، وفَهِم الفكر، وفَهِم المراد منه، ولكن لم يتكون له واقع في ذهنه لا حساً ولا تصديقاً وتسليماً، فهو معلومات فقط، أي مجرد معارف عن أشياء، فهو فكر باعتبار مدلولاته، ولكنه مجرد معارف عند من لم يوجَد لديه واقع في ذهنه عنه. ولذلك لا تؤثر المعلومات في الأشخاص وإنّما تؤثر المفاهيم لأنها أفكار لها واقع في ذهن من أدركها. ولذلك كان لا بد من معرفة الفكر ما هو، حتى يُعرف كيف يؤثر الفكر.
طريقة التفكير
ينشأ الفكر عند الإنسان من اقتران الواقع عنده بمعلومات عنه، ولا يمكن أن ينشأ من الواقع وحده مطلقاً, ولا من المعلومات وحدها ولا بوجه من الوجوه.
ضع أمام طفل صغير أشياء لم يسبق أن عرف عنها شيئاً، وانظر هل يحصل عنده فكر؟ فإنك تجد أنه يحصل عنده من تكرار إحساسه بالواقع وحده إحساس بوجود الواقع، ويحصل عنده تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وتمييز ما يؤلم أو يلذ، أو يَسُر أو يزعج، أو يشبع، أو غير ذلك مما يتصل بالغرائز أو الحاجات العضوية، ولا يحصل عنده شيء أكثر من ذلك مهما اختلف الإحساس وتكرر وتنوع، أي يحصل عنده إحساس ويحصل من جراء هذا الإحساس وتكرره تمييز غريزي فقط. ولكنك إذا وضعتَ أمامه شيئاً ثم قرنته بمعلومات عنه أدرك ما هو الشيء. فإنْ سألته عنه شرحه لك وبيّن لك ما هو، فيصبح حينئذ عنده إدراك الشيء، أي يصبح عنده فكر. أمّا لو أعطيته معلومات فقط عن الشيء وكررت له هذه المعلومات فإنه يعاود سردها لك كما هي، ولا يحصل عنده فكر ما لم يربطها بالواقع.
والدليل الحسي على ذلك هو: ضع أمام طفل ميزاناً وتفاحة وناراً ثم حفّظه معلومات عن كل واحدة منها كأن تقول له: ميزان يزِن، تفاحة تؤكل، نار تحرق، وكررها عليه عدة مرات ثم اسأله أين الميزان فيضع اصبعه على التفاحة أو النار، وقد يضع اصبعه على الميزان، ولكنه إذا رآك لم ترض ذلك غيَّر في الحال، ووضع اصبعه على غيره. فهو قد تلقى معلومات وأعادها، ولكنه لم يحصل عنده فكر. أمّا إذا أريته الميزان وقلت له هذا ميزان يزن، وبينت له عملية الوزن وكررت ذلك، ثم أريته التفاحة أو النار وكررت ذلك فإنه يحصل عنده فكر. فإذا قلت له أين الميزان وضع اصبعه عليه ودلّك عليه. فلو رفضت ذلك وغالطته لا يرد عليك ويصر على الميزان الذي شُرح له لأنه أدركه، فيصبح يعرفه لمجرد رؤيته أو لمجرد ذكر اسمه، لأنه صار له فكر عن هذه الأشياء باقتران الواقع مع المعلومات.
وعليه فالتفكير ينشأ عند الإنسان من إحساسه بالواقع مع تلقيه من غيره معلومات مع الإحساس، فيصبح عنده من ذلك فكر. هذا إن لم تكن عنده معلومات، أمّا إن كانت عنده معلومات فيكون قد سبق أن نشأ عنده فكر، فإذا أراد أن ينشئ فكراً جديداً عن شيء فإنه يحس الواقع ثم يربط إحساسه بالواقع بمعلوماته السابقة فيصدر فكراً. فإن لم تكن عنده أي معلومات تتصل بهذا الشيء افتقر إلى أن يتلقى معلومات عنه فيحصل من تلقيه للمعلومات مع إحساسه بالواقع فكر جديد عنده. وعلى هذه الطريقة ينشأ الفكر.
وهذه النشأة هي طريقة التفكير الطبيعية عند الإنسان وهي طريقة التفكير الأساسية، وهي التي توجِد الفكر.
وعلى ذلك فطريقة التفكير من حيث هي تحتّم اقتران الإحساس بالواقع مع المعلومات السابقة عنه، أو اقتران المعلومات السابقة مع الإحساس بالواقع فحينئذ يحصل الفكر، وفي غير ذلك لا يحصل فكر مطلقاً. فلا بد من إعطاء المعلومات مع الإحساس بالواقع حين نريد أن ننشئ فكراً، ولا بد من إيجاد الإحساس بالواقع مع المعلومات حين إعطائها إذا اردنا أن يدرَك الفكر الذي نعطيه. فلا بد من وجود واقع محسوس، ومن وجود معلومات حتى يوجد فكر. وهذه وحدها هي طريقة التفكير. ولذلك كان إعطاء المعلومات وحدها وربطها مع بعضها دون اقترانها بواقع محسوس لا يشكل فكراً عند الشخص، بل يوجِد عنده معلومات ولا يوجِد أي فكر مهما شرحت له ما لم يدرِك واقعها ويكون هذا الواقع محسوساً.
هذا من حيث إيجاد فكر عند المفكر الذي أوجد الفكر أو أنشأه، وكذلك هو عند من يعطي الفكر لغيره، فإذا أريد إعطاء هذا الفكر للناس فإنه يمكن أن يُنقل إليهم بأي وسيلة من وسائل التعبير كاللغة مثلاً، فإن اقترن عندهم بواقع سبق أن أحسّوا به أو أحسّوا بمثله أو قريب منه فإنه يكون قد انتقل إليهم فكراً، فصار مفهوماً من مفاهيمهم كأنهم هم قد توصلوا إليه، وإن لم يقترن عندهم بواقع محسوس لديهم بأن فهموا معنى الجُمل وشُرحت لهم ولم يتصوروا أي واقع لها، فإنه لا يكون قد انتقل إليهم فكراً، وإنّما نُقل إليهم مجرد معلومات، فيصبحون بهذه المعلومات متعلمين ولا يصبحون مفكرين، لأنه لم يُنقل إليهم فكراً، بل نُقلت جمل تتضمن معلومات.
ومن هنا كان لا بد لمن ينقلون للناس أفكاراً أن يقرّبوا ما فيها من معانٍ لأذهان الناس بمحاولة اقترانها بواقعها المحسوس لديهم، أو بواقع قريب مما يحسونه، حتى يأخذوا منهم أفكاراً. وإن لم يفعلوا ذلك لا يكونون قد نقلوا للناس أفكارهم، وإنّما نقلوا إليهم معلومات علّموهم إياها.
ولهذا كان لا بد من الحرص على طريقة التفكير، وذلك باقتران المعلومات بالواقع عند إنشاء الفكر، أو بتقريب الأفكار من الواقع المحسوس عند من يأخذها حتى تقترن المعلومات بالواقع فتوجِد فكراً.
ومن هنا كان الاهتداء إلى طريقة التفكير والحرص عليها من أهم ما يجب توفره عند الناس.
القَدَرية الغيبية
القدرية الغيبية هي الاستسلام للقدر، وإرجاع كل شيء في الحياة إلى تصرفات المقادير المغيَّبة عن الإنسان، وأنه ليس لعمل الإنسان في الحياة أي أثر، وإنّما هو مسيَّر وليس بمخيَّر، وهو كالريشة في الفضاء تحركها الرياح حيث تشاء!
وقد شاعت هذه الفكرة، واتُخذت عقيدة، منذ أواخر عهد العباسيين، واستمرت حتى الآن. وقد اتُخذ وجوب الاعتقاد بالقضاء والقدر وسيلة أُدخلت بواسطته هذه الفكرة على المسلمين. وكان من جرائها أن وجد المخفقون في كنفها مبرراً لإخفاقهم، ووجد القَعَدة الجَهَلة في الاستناد إليها حجة لكسلهم وتقاعسهم. ورضي كثير من الناس بالظلم ينزل فيهم، وبالفقر ينهش من لحومهم، وبالذل يخيّم عليهم، وبالمعاصي تسيطر على أعمالهم، استسلاماً منهم إلى القدرية الغيبية التي يعتقدونها، زاعمين أن ذلك استسلام إلى قضاء الله وقدره!
ولا تزال هذه الفكرة مسيطرة على الناس، متحكمة في كثير من تصرفاتهم، بينما يجد الباحث المدقق أن القدرية الغيبية لم تُعرف في عهد الصحابة، ولا دارت بخَلَد أحد منهم، ولو كانت موجودة عند المسلمين لَما فتحوا الفتوحات، ولا تحمّلوا المشقات، بل لكانوا تركوا للقدر يفعل ما يشاء، ولكانوا قالوا "ما قُدّر يكون سواء عملت له أو لم تعمل!"
|