اللجوء إلى العدو الحقيقي
غير أن عبد الله بن متعب رأى من الخير لنفسه أن يلتجئ إلى العدو الحقيقي (ابن سعود) ويسلم نفسه وحدها إليه، ويدع مدينة حائل إلى أهلها يحمونها ولا يسلمها براً بقسمه؛ إذ آلى على نفسه أنه لن يسلمها وفيه نفس يتردد وسيجد عند عدوه السلام والغنم إذا ذهب إليه طائعاً! أما إذا مكث في المدينة فلا بد أن يعتدي عليه ابن عمه ويقتله. هذا ما ظنه فحار في أمره، ولم يدر ما يصنع، فنادى سليمان العنبر، وخلا الاثنان ليلاً فقال ابن متعب:
ـ يا سليمان، الحال مثلما ترى وأنا بين عدوين فلا أستطيع قتل ابن عمي لمجرد الظن ولا أستطيع انتظاره حتى يقتلني!.. وأردف أبن متعب يقول: لقد انتقض بعض الناس علينا، وكتب بعضهم إلى ابن سعود، وأخش من ابن طلال، فما ترى؟ فرد عليه سليمان العنبر يقول: والله يا عم لو طلبت أن أخوض معك البحر لما تأخرت، فأفصح عن قصدك فأنا طوع بنانك!.
ويقال أن عبد الله المتعب قال للعنبر أرى أن تمضي إلى ابن سعود ونسلمه أنفسنا ونترك البلد ينعى من بناه.. فقال له العنبر: كما ترى!
ـ قال عبد الله المتعب:ـ أعد أمرك، فسنغادر المدينة في الفجر والملتقى في خارجها… فقال له العنبر:ـ كما ترى، وليوفقنا الله…
فمضى سليمان إلى داره كاسفاً مشغول الفكر ونادى ابنه "غاطي" وقال له:
يا بني سنمضي غداً إلى ابن سعود..
فأجاب غاطي: أتستشيرني يا أبي.
قال: لا إنما أخبرك بالأمر الذي نويناه على كل حال، فاستعد.
قال غاطي: والأمير؟!
فأجاب سليمان: معنا!.. فقال غاطي: صحيح؟!.
قال سليمان: نعم.. فتمتم غاطي.. ثم قال: الله يكتب الذي فيه خير!.
والتقى الأمير عبد الله المتعب وبعض رجاله وهم: درعان، والذعيت، وعبد الله آل بجاد، وصقيه (مملوك الأمير) بسليمان العنبر وابنه في الموعد فجراً، ومشوا يريدون ابن سعود، وكلهم يمشي على قدميه، وعلم أهل حائل في الضحى بأمر الهاربين فقرروا اللحاق بهم وردهم إلى المدينة، ولكنهم تركوهم أخيراً وكتبوا إلى محمد بن طلال الذي كان في البر يجمع قبيلة شمر لقتال ابن سعود، فتوجه أبن طلال إلى حائل ودخلها وتولى الإمارة وقد سعت إليه من نفسها.
لم يكن مع الهاربين زاد ولا ماء، فاشتد بهم العطش وأظلم الطريق، والشائع أن هناك خطة سعودية لتهريب أمير حائل عبد الله المتعب، ويقود هذه الخطة سليمان العنبر، وأنهم ركبوا الإبل من حائل حتى وصلوا مخيم آل سعود، لكن هناك حكاية يرويها آل سعود وقد نشرها أحمد عطار في كتابه، "صقر الجزيرة" الذي طبعه على نفقة الملك عبد العزيز آل سعود، تقول هذه الرواية السعودية (أنه حينما اشتد العطش بعبد الله المتعب وصحبه، قال أحدهم ـ وكان يعرف هذه الأماكن ـ إن هنا بئر خلف تلك التلول، فمشوا حتى أتوا ووجدوا عليها بدواً كثيراً من جيوش ابن سعودي يسقون، وسألهم عن مقر "أميرهم" فدلهم أحدهم عليه وما كانوا يعلمون أن هؤلاء آل الرشيد وأشياعهم، ولو علموا لفتكوا بهم، فهؤلاء بدو أجلاف غلاظ دأبهم الفتك والضراوة، وأهون ما عليهم سفك الدم.. واستقبلهم الأمير خير استقبال وأنزلهم في خير موضع، وبعث إلى الأمير آل سعود بن عبد العزيز السعود وكان القائد العام للجيوش السعودية يبشره بوصول ابن متعب ورجاله فبعث إليه أن أكرمهم وبلغهم التحية، فإن رغبوا السعي إليه من توهم فليركبهم وإلا فليأخذ رأيهم، وألا يقصر في إرضائهم وتكريمهم..
ورأى ابن متعب ومن معه أن يبيتوا ليلتهم بموضعهم، فهم في حالة لغوب وتعب وقرروا أن يمضوا إلى سعود صباحاً.. وزادت ضجة البدو واجتمعوا حول خيمة آل الرشيد يرددون صيحات الضراوة يريدون أن يفتكوا بهم، فخرج إليهم أميرهم ووبخهم وطردهم وأفهمهم أنهم "مسلمون" يوحدو الله، وأنهم أصبحوا صبيان التوحيد، اخوان من أطاع الله ودخلوا في طاعة ابن سعود!) هكذا تقول رواية آل سعود الأشرار في كتاب العطار… اخوان من أطاع الله!!.
ومضوا من الفجر إلى الأمير سعود بن آل سعود، وكان نازلاً بقعاء فاستقبلهم استقبالاً فخماً، وبعد أن أقاموا أياماً رجع بهم سعود كأسرى إلى الرياض، واستقبلهم والده.. والحقيقة أن آل سعود قد استفادوا من تهريب عبد الله المتعب، فأخذوا معلومات كافية عن الأوضاع في حائل خدمتهم.. إلا أن محمد الطلال أخذ يقاوم ابن سعود، وينقل العطار عن ابن سعود قوله: (والحق أن محمد بن طلال كان حازماً قوياً بعيد المرمى، شجاعاً مقداماً شديد الأيد والصلابة، فيه صفات من عبد العزيز بن متعب بن رشيد القتيل بروضة مهنا، وليس في أمراء آل الرشيد الذين جلسوا على دست الحكم من يشبه هذين الأميرين في الشجاعة والقوة النفسية والبطولة ـ وهما عبد العزيز المتعب الرشيد ومحمد الطلال آل رشيد ـ وكان محمد بن طلال أعقل وأحصف، ولكن:
ما حيلة الرامي إذا التقت العدى وأراد رمي السهم فانقطع الوتر!
هكذا كان الحال مع ابن طلال، فقد تولى محمد بن طلال والأمر مدبر جد الإدبار، والبناء واهي الأساس محطوم الجدار، ولا يطيق الثقل الذي عليه، ولا يستطيع تداركه قبل الإنهيار، ويحتاج إلى زمن طويل لإعادة البناء كما كان، وخصمه لا يعطيه الفرصة ولا يمكنه من البناء.. وبالرغم من كل هذا فلم يفت في عضد محمد بن طلال بل وقف يدافع عن إمارته بكل ما وهب من قوة وجلد حتى أخذ. ولو تولى الامر والحال هادئ والبلاد منظمة لكان لها شأن كبير في الانشاء والتجديد).. ومع ذلك فان شمر وأهل حائل استطاعوا بالقيادة الصلبة لمحمد الطلال اكتساح الجنود السعوديين بعيداً وهزيمتهم وبادر إلى تجنيد الجيش وقاد جحفلاً عظيماً يسترد بعض ما اقتطع من بلاده ويؤدب الخونة، ووضع عصا الترحال في الجثامية ـ وهي على بعد 40 كم من حائل ـ ونزلها بجيشه وعسكر بها يتجهز من جديد لحرب جديدة مع آل سعود.
ولقد ترامت أنباؤه إلى ابن سعود فبعث فيصل الدويش، أحد شجعان العرب الأشداء، على رأس سرية قوية ليحارب حتى يأتيه بنفسه على رأس جنده!
ومضى فيصل والتقى يا بن طلال في الجثمانية، وتقاتلا قتالاً شديداً لم ينتصر فيه فريق على الآخر وتعادلت كفتا الخصمين واستمرت المناوشات مدة.
وعلى حين فجأة لم يشعر فيصل الدويش إلاّ بابن طلال ينسحب إلى النيصية يتحصن بها ولم يكن إنسحابه عن هزيمة، إنما فكر في الأمر دقيقاً فوجد أن التحصن أجدر به، فقد أنبأته عيونه أن جيشاً قادم من الرياض يتجه صوب الشمال وعليه عبد العزيز نفسه وبرسي كوكس وجون فيلبي فخشي أن يقف سداً بينه وبين عاصمته ويقطع عليه خط الرجعة إليها. إلا أن ابن سعود فاجأ ابن طلال في أول المحرم سنة 1340هـ بأسلحة انكليزية هائلة وجنود من البدو والحضر قوامهم / 30000 / مقاتل، واضطر ابن طلال من أجل ذلك إلى التقهقر والتحصن بجبل" أجا" ثم التراجع إلى حائل، في حين أن ابن سعود تقدم بجيشه وحاصر حائلاً وضواحيها وحصونها الخارجية ووحد القيادة تحت أمرة السير برسي كوكس الذي كان يقود (جيش الأخوان) بنفسه، يرافقه جون فيلبي وعدد من ضباط الإنكليز، وأصدر "تعليماته" إلى قواد الجيش بتطويق حائل من جميع جهاتها، وقطع الطرق عنها لئلا تتلقى المدد من الميرة والذخيرة، فيسهل الإستيلاء عليها نهائياً تحت تأثير هذا الضغط الشديد والتجويع..
فركز جون فيلبي مدافع على تل مرتفع تخويفاً، وأخذ يطلق قذائفها على السور أحياناً، ثم رتب قواته وجهزها ليهاجم البلدة هجوماً عنيفاً، وأحاط جميع جوانبها بالمدافع لهدم السور وضرب المدينة، وبدا الذين كانوا يراسلون ابن سعود ممن كانوا يسمون أنفسهم "أكابر الجماعة" بدأوا يرجفون في المدينة، وذهبوا إلى ابن طلال يشرحون له الأمر. ملمحين إليه بالتنازل لابن سعود!. فلم يرض أن يتنازل لخصمه، وأصر على الكفاح، فاشتد غضب العملاء عليه حين رأوا إصراره ونفروا منه ولكن لا حول لهم ولا قوة، وقد أمر البطل باعتقال بعضهم، وقبض على الأمر بيد من حديد، وأخذ يقاتل مع الشعب.
والحقيقة أن حصار حائل قد كشف للإخوان "البدو" كذب الدعاية الإنكليزية السعودية التي تقول ان (شمر وأهل حائل كفرة لا يؤمنون بالله!)، وذلك حينما رأى البدو المآذن، وسمعوا أصوات المؤذنين يرددون نداء الصلاة (الله أكبر الله أكبر)، فثاروا على ابن سعود والسير برسي كوكس وفيلبي، لكنهم وعدوهم بالانتظار يومين فقط! لأن أصحابهم في داخل حائل وعدوا بإدخالهم دون معرفة أبن طلال وأهل البلاد..
ويقول أحمد عبد الغفور عطار في كتابه السعودي (صقر الجزيرة) الذي أخذ عبد العزيز آل سعود يمليه عليه طيلة سنة يقعد ـ العطار ـ تحت قدمي الملك ليدون ما يقوله، يقول في الصفحة 327 (ولقد حاول السيربرسي كوكس أثناء حصار حائل التوسط بين ابن طلال وابن سعود، لكن ابن طلال رفض وساطة السير برسي كوكس في الصلح بينهما) وصمم ابن طلال على مقاومة آل سعود والإنكليز، وقال لبرسي كوكس (أيها الانكليز إنكم تكفروننا وأنتم كفرة.. ولولا سلاحكم وقيادتكم فلن يصل عبيدكم آل سعود إلى حدود حائل.. إننا إذا سلمنا من الخونة في الداخل، فسننجح في هزيمتكم أو نموت بكرامة).
|