عرض مشاركة مفردة
  #347  
قديم 13-12-2006, 05:14 AM
النسري النسري غير متصل
كاتب مغوار
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2004
الإقامة: الأردن
المشاركات: 2,917
إرسال رسالة عبر ICQ إلى النسري
Smile


تابـــــــــــــــــــــــــــــع

لا مكـان للفـرح


ومن بين بقاياه دفتر كتب عليه :

أقوال الأئمة الثقاة في اثبات الصفات لرب الأرض والسموات، جمع فيه أقوال الأئمة الأعلام في إثبات صفات الله عزوجل (والتي لا يثبتها الأشاعرة والمعطلة)، يحتوي على مقدمة بعثها لأحد مدرسيه في المعهد العلمي ليبين له فيها منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات لله عز وجل، بعد مناقشة حدثت بينهما في الصف ..
لفت نظري غرفة صغيرة من القش، لكنها لم تكتمل، تعجبت وزال العجب، عندما قالوا لي: بدأ محمد في بناءها ليخلو فيها بنفسه في رمضان ..

وقفت أتأمل المكان، سافرت إلى الماضي القريب، تذكرت كلماته :
هناك لا أجد الطعام فأصوم نهاري، ولا أجد ما يخفف حرارة الجو فأقوم ليلي ..
جسدي في الأرض أما روحي وعقلي فقد رحلا إلى البعيد، ولم أفق إلا على صوت حسن ابن عمة محمد يقول: السلام عليكم، رددت السلام ..
غمرني حسن بالمحبة وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد، كان شاباً بسيطاً لم يغادر القرية من قبل ..
جلست معه فراح يحدثني عن محمد حديثاً عذباً جميلاً، أنصت له بكل جوارحي ..
كانت دموعه تغلبه أحياناً ويغلبها أحياناً أخرى، شعرت بأن حزنه على محمد عظيم، فقد تغيرت حياته من اللهو والعبث إلى الجد والالتزام والحرص على اتباع السنة، شعر مع محمد بحقيقة وجوده في الحياة، كان يأمل أن يغذ الخطى معه إلى الجنة، لكنه أضاء له الطريق ومضى هو ..
وصف محمداً، فكأنه يصف رجلاً من بقية السلف بعث فينا فترة من الزمن ثم رحل .. !!

وجدت ضالتي، هكذا قلت بعدما جلست مع حسن ..
في ظلام الليل، ذهب الجميع إلى فرشهم، وجلس حسن أمامي يحول بين وبينه الظلام ..
همست له : حسن كيف مات محمد ؟
سكت برهة وكأنه يمنع بكائه أن يفضحه وراح يتحدث ..
صلينا الفجر معاً وبعد الصلاة قررت أن أتأخر في الذهاب أما هو فقد كان متعجلاً، فارقني ودخل إلى داره، يوقظ النائمين ويمزح مع المستيقظين، جلس مع أمه وجدته تناول قطعاً من الخبز والحليب، كان وجهه يتهلل بالسرور، توجه نحو جده وأبيه منحهما الكثير من الحب والبر قبل أن يجمع أوراقه وأقلامه ويتوجه نحو الشارع الرئيسي ..
في الطريق نثر الابتسامة على كل من رآه ، وسابق الجميع بالسلام ..
التقى بمدرس التحفيظ في المدرسة الذي داعبه قائلاً : متى نزوجك يا محمد ؟
فأجاب : هناك .. هناك ويشير إلى الجنة ..
فقال : وهنا أيضاً ..
ولكن الإجابة هذه المرة كانت تعبر عن ألم دفين في قلب محمد، ومرارة عبرت عنها هذه الكلمات : باطن الأرض خير من ظاهرها ..

ومضى في الطريق يردد الأذكار حيناً، وحينا ينشد هذه الأبيات :

أخاف الموت والحشر العبادا **** فما عرفوا التواني والرقادا
وكان مسيرهـم لله دومـاً ***** وما يبغي الإله ومـا أرادا
فويـل للمفـرط إذ تمـادى ***** ولم يسرج لأخراه الجيـادا
وأهمل طاعة الرحمن حتى ***** حداها الله للعسرى فحـادا

وفي أثناء سيره التقى باثنين من رفقائه الذين قطعوا معه ما تبقى من الطريق ..
وعلى الشارع الرئيسي اجتمع عدد كبير من أبناء القرية ينتظرون سيارة تقلهم إلى المدينة ..
لم ينتظروا فقد توقفت سيارة نقل بضائع كبيرة ، قفزوا إليها في سرعة كبيرة ..
اختار محمد ورفقاؤه الجلوس في مؤخرة حوض السيارة وراحوا يتبادلون الأحاديث ..
مضت السيارة في الطريق والحديث يدور بين الجميع فمنهم من يضحك ومنهم من يبتسم، ومنهم من يتأمل، النشاط والحيوية، الصحة والشباب، والهمة العالية، والهموم المشتركة تجمع بينهم ..
وفجأة .. تنحرف السيارة يميناً في محاولة يائسة لتفادي الاصطدام بسيارة فقد سائقها التحكم فيها ..
ارتطام قوي، ارتفعت أجساد الطلاب في الهواء لتسقط على الأرض الخرسانية ..
انطلقت الصرخات ثم تبعتها الآهات والأنين ، وجرت الدماء على الأرض لتحكي فاجعة القرية الصغيرة في شبابها ..
سمعت الخبر فأسرعت نحو مكان الحادث ..
الآهات والأنين والبكاء تنبعث من المصابين ، أما السائق فقد قضى نحبه في الحال ..
بحثت بين الأجساد المتناثرة على الأرض عن محمد حتى وجدته ، يئن والدم ينزف من وجهه ورأسه ..
احتضنته بين يدي ورحت أصرخ إسعاف .. إسعاف .. محمد سيموت أدركوني ..
لحظات الانتظار كانت صعبة وحرجة ، أقبل والد محمد وأمه التي صعقت عندما رأت ابنها مضرجاً بدمائه ، يئن من شدة الألم ، لحظات ويالها من لحظات حزينة ..
بحثنا عن سيارة تنقله إلى المستشفى ..
تبرع صاحب سيارة نقل صغيرة وحمل محمد ومن كان في مثل حالته ، توجه نحو المدينة ، بدأ أنين محمد يخفت شيئاً فشيئاً حتى سكت ودخل في غيبوبة ..
وصلنا المستشفى بادرنا بنقله إلى الطوارئ ، تجمع الناس ينتظرون بينما الأطباء مع المصابين في الداخل ..
انتظرنا ساعات وكأنها أيام نتابع بالنظرات الداخل والخارج نسأل كل واحد ، نظن أن الجميع أطباء ، وأن الجميع لديهم الإجابة على أسئلتنا ..
خرج الطبيب سألناه عن محمد ، اطرق برأسه نحو الأرض ، وضعت الأم يدها على صدرها ، وفغر الأب فاه واتسعت عيناه ، وهمست أنا بصوت لايسمعه أحد : هل مات .. ؟
تحدث الطبيب فأنصتنا : لن تتضح حالته إلا بعد مضي ثلاثة أيام ، إن شاء الله تمضي لا نملك له الآن إلا الدعاء ..
ارتفعت الأكف إلى السماء ، ولهجت الألسن بالدعاء : اللهم اشفه ..
وضع محمد على السرير جثة هامدة ، آثار الارتطام على وجهه ورأسه ، لكنه يبدو كأنه نائم ..
الأم تجلس بجانبه تقبله بين لحظة وأخرى ، دمعتها لا تتوقف ، ولسانها لا يفتر ، تدعو له فهو بكرها وحبيبها وسندها ، لكم مازحها وداعبها ، وهاهي الآن لا تملك له ما يدفع عنه الألم ..
أما الأب فظل يصارع الدموع والبكاء ، يصبر الأم وكلما غلبته العبرات خرج قليلاً ثم عاد ..
وقفت أشاهد هذه المناظر وقلبي يتقطع آسىً وحسرة ..
تمضي الدقائق وكأنها ساعات وأنا أترقب وأدعو الله أن تمضي هذه الأيام الثلاثة حتى يتجاوز مرحلة الخطر ..
وفي تلك اللحظات التي سكن الحزن قلوبنا وبدت آثاره على وجوهنا ، كان وجه محمد مبتسماً يتهلل كأنه مذهبة يشع منه نور الإيمان ، كان في غيبوبة لا يشعر بأحد ، لكن يديه تتحرك ، نعم تتحرك ، فتارة تراه كأنه يقلب صفحات من كتاب ، وتارة أخرى كأنه يتوضأ للصلاة ، كانت حركة يده مثار دهشة الحاضرين ، لكنني لم استغربها فهكذا كان في حال صحته ، إما أن يقرأ ، وإما أن يكتب ، أو يتوضأ ويصلي ..
مضى اليوم الأول واليوم الثاني ولا زال محمد في غيبوبته، الحالة مستقرة هكذا يقول الأطباء، الآمال بدأت تكبر لدينا بأن يمضي اليوم الثالث ويتجاوز مرحلة الخطر، ليعود إلينا، ليمنحنا الحياة الجميلة والطيبة ..
بعد محاولات عديدة وبعد أن ظهر الإعياء على أم محمد قررت وبعد إصرار الجميع عليها أن تعود إلى القرية في اليوم الثالث، لم يبق في الغرفة معه أحد غيري، تلاشت آثار الحادث وبدا وجهه جميلاً يشع منه النور والطهر، أما يده فلا زالت في حركتها التي تظهر بين وقت وآخر ..
وعند الساعة الثانية عشر بدأت أنفاسه تتصاعد، صدره يرتفع وينخفض، فرحت قلت : سيفيق الآن إن شاء الله، حضر الطبيب، راح يقيس الضغط وضربات القلب، تغير وجهه بدت عليه علامات الانزعاج، ارتدت فرحتي خوفاً وقلقاً، لم أشاهد مثل هذه الحالة من قبل، صمت ورحت أراقب الموقف ..
رفع سبابته إلى السماء ثم وضع اليد اليمنى على اليسرى على صدره، توقفت الأنفاس، سكن الصدر وشخص البصر، وضعت يدي على ساقيه الباردتين، أغمض الطبيب عيناه، ووضع الغطاء على وجهه ..
لقد انسلت روحه في هدوء وفارقت جسده ..
مات محمد ..

توقف حسن عن الحديث لحظات

أما أنا فقد انهمرت من عيني الدموع كانت باردة غسلت أحزاني وآلامي، إنها دموع الفرح، هنيئاً له هذه الخاتمة الحسنة، هنيئاً لتلك السبابة التي ارتفعت في الرخاء توحد الله، فارتفعت في الشدة وفي اللحظات الحاسمة ..

عاد حسن يتحدث : حضر القرية جمع غفير من المدن المجاورة للصلاة عليه وإتباع جنازته، خيم الحزن على الوجوه، وجرت الدموع وهي تودع شاباً أجمعت القلوب على محبته ..
مضى محمد بعد أن أضاء لنا الطريق، بعد أن صار حديثاً باسماً في المجالس ..
مضى لكن رسالته قد بلغت القلوب ..
لم أشعر كيف انتهى المجلس بيننا ؟

هناك بدأنا ..
ومن هنا سأبدأ وحيداً ..
يتردد بين جوانحي كلماته العذبة : عبدالله .. عبدالله .. طلب العلم فريضة على كل مسلم ..
وفي الجنة بإذن الله نلتقي ..

اللهم أجمعنا في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك إخواناً على سررٍ متقابلين ..
أغمضت عيني .. ونمت قريراً ..

أيها الأحبة ..
هذه قصتي مع محمد رحمه الله ..
ولي رجاء بأن تدعو لمحمد وللكاتب ..

قصة حقيقة منقولة
__________________