الطلائع و الجماهير :
الطليعة و الجماهير و الأيديولوجية والاحتراف السياسي والانضباط ، هي الشروط الأساسية لتكوين الجماعات المنظمة الفعالة في عمل التغيير في أي بلد وأي وقت ..
فلو كانت الأفكار وحدها لها تلك الأهمية ، لكانت الكتب هي من تقود العالم ، ولو كانت الطلائع تسكن في جزيرة نائية وتحفظ كل مؤلفات العلوم السياسية والاجتماعية ، وانقطعت عن الجماهير ، لكن فعلها كفعل المملحة الضائعة ، يحتاجها الناس في تمليح طعامهم ، فلا يجدونها .
يلف الغرور كثيرا من الشباب العربي ، عندما يعتقد أنه ألم في مناحي علوم السياسة أو الفقه أو الدين ، فيكيف سلوكه العام مع الجماهير وفق ذلك الغرور ، فيختار أصدقاءه من المريدين والموافقين على ما يعتقد ، ويصبح هؤلاء الأصدقاء ، قبلة هامة له ، فيلتقي بهم يوميا ليتحدثوا و ليفصلوا حديثهم ، ويعرجوا على طرح مشاكل الناس ، فيتناولوهم بشيء من السخرية ، وشيء من التعالي ، في حين كان الإدعاء في تبني مشاكل تلك الجماهير ..
تتزايد لقاءات الطلائع فيما بينها ، وتكثر الأحاديث فيما بينها ، ويتبادل أعضائها عناوين لكتب صدرت حديثا في بلد قريب أو بعيد ، وتتم ( المثاقفة ) فيما بين تلك الطلائع ، ويصبح ديدنهم التكيف مع ما عرض عليهم من معلومات جديدة ، فيتبارون في القراءات الجديدة ، فتصبح عادة القراءة ، هي الهدف النهائي ، وتبتعد الطلائع شيئا فشيئا عن دورها القيادي ، فتغدو وكأنها تقود نفسها فحسب ، ويصبح تطوير المعلومات و تطوير مستوى اللغة في الحديث هو الهدف الواجب الانتباه له .
تنسى الجماهير وجود تلك (الزمر ) المسماة (طلائع ) ، ولم تكن قد تعرفت عليها أصلا ، وتتماطى قدرات تلك الطلائع الثقافية ، فيكتب بعضهم في الصحف المحلية ، أو في صحف تنشر خارج بلده .. تأتي كلمات الإعجاب من بعض أفراد الطليعة نفسها ، أو من أفراد ينتمون لطلائع مختلفة ، يتزايد الشعور ب (قرارة النفس ) لدى هذا الطليعي الكاتب ، ويصبح وفيا لمن امتدحه ، ومتناسيا للجمهور الذي لم يحسن الاطلاع على ما كتب ، نتيجة عدم رصد الجمهور لإبداعات هذا الطليعي ، أو كون الجمهور لم يتعود على التعامل مع تلك اللغة التي كتب بها موضوع ( الطليعي) واستهجان مفرداتها ..
يتذاكر أفراد الطليعة فيما بينهم ، ويؤكدوا شعورهم بالخيبة ، نتيجة صدود الجماهير عنهم ، ويحملوا الجماهير المسؤولية لعدم تأييدهم والالتفاف حولهم ، فتنمو لديهم مشاعر الكراهية تجاه تلك الجماهير ..
إن طليعة تكره جمهورها ، أو الشعب الذي تعمل داخله ، هي طليعة فاشلة لا تستحق لقب (طليعة ) على الإطلاق . فلا يجوز أن تدعي طليعة أن نذرت نفسها لخدمة شعب تكرهه ..
تتحول الكتابات و المناقشات الصادرة من الطلائع ، سواء كانت أعمال أدبية ، أشعار أو خواطر أو تحليلات سياسية ، للهجوم على الأمة ، بأنها أمة متخلفة ، وشعب جاهل ، وعندها تصبح الطليعة عامل إضافي من عوامل تخلف الأمة .
حتى تخرج الطليعة من واقعها المرير ، عليها التعلم كيفية العيش بين الناس وكيفية إيصال خطابها بلا تعقيد لهؤلاء الناس ، فمن يصيح من مكان بعيد لن يضمن أن هناك من يسمع نداءه .
__________________
ابن حوران
|