مقامة الحجام - ج3
قال الراوي : هذا ونحن نسمع الكلام،ونتوقع الحمام،فوجدت في الدار بئرا فرميت نفسي فيها،وأمرت النساء يسترونها بما يخفيها،فدخل الخطيب إلى نسائه،وعرف من قول الحجام،وفوق إليهن سهام الملام،فحلفن له بما أرضاه،وقلن حاش لله،فخرج إليه بغيظ شديد وقلب دونه الحديد،وقال يا غلام،دع عنك هذا الكلام، فما عندي من يتهم بكلامك،ولا من ترميه بسهامك،فصرخ بأعلى صوته وقال : قتلوه وليتني مت قبل موته،ولو كان حيا ما فاتته صلاة الجمعة،ولكان حاضرا وأنا فيها معه،وا حزناه وا أسفاه وا سيداه وا مولاه،غروك فأدخولك،وطمعوا فيك فقتلوك،ائذن لي بالدخول،فأنا أعرف ما أقول،فأمره الخطيب بالدخول إلى داره،ومعه من الحاضرين من بعثه فضوله على كشف أخباره،فدخل الدار في جمع كبير،فأوقعته المقادير على فم البئر،فقال سيدي في هذا المكان،ولابد من النزول فيه ولو كان ما كان،ثم نظر في نواحي البيت واستدعى بإناء فيه زيت،وحل عمامته وبل طرفها،وأوقدها لمكيدة عرفها،وأدلاها في ذلك البئر،وأدارها فأنارت أي تنوير،فرآني جالسا بمكاني وقد حل بي من الويل ما كفاني،فاستغاث كذب المماطل،وجاء الحق وزهق الباطل،سيدي في هذا البئر والإنسان جار تحت المقادير،فأخرجت من ذلك المكان،على أقبح حال وأسوء شأن،فقال لي الخطيب إن أردت الخلاص فاصدق،فقلت ما دخلت إلا لأسرق،فحملت على تلك الحال إلى الوالي،فسجنني وأخذ أموالي،فبقيت في الحبس سنة في عيشة خشنة،ما رأيت فيها لذة بينة،وعلمت أن من أحسن لكل ردئ الأصل شقي كما شقيت،ولقي ما لقيت، وكان مما نظمته في حبسي مخاطبا لنفسي :
تجنب ردئ الأصل واحذره واجتهد
****على طرده فالخير في شرف النفس
وإياك أن تغتر منه بملمس
****يلين وجنبه اجتنابك للرجس
فإن الأفاعي قاتل سمها لمن
****تدانى إليها وهي لينة المس
يكفيك في صدق الوصية ما جرى
****علي وما لقيت من ذلك النحس
تقصدته بالخير كافي بضده
****وأوليته المعروف جازاه بالعكس
وكم ليلة قضيتها في عساكر
****من البق والناموس في ذلك الحبس
أقاسي الأسى من ذلك المدبر الذي
****رأى قصده نقلي إلى ظلمة الرمس
وضيع أموالي وعرضي ومقصدي
****ولكن حمدت الله إذ سلمت نفسي
للمقامة بقية
|