الشيخ محمد
جلست في جوف الليل ، أراجع آيات من القرأن ، أقوم بها ، فارتادني خاطر ، جعلني أتساءل عن أول ليلة قمت بها في رمضان ، ففاضت بي الذكريات ، وجعلت عيناي تبكيان.
كنت ابن سبع سنين ، في ليلة القدر ، دعانا الشيخ محمد إلى داره للقيام ، استأذنت أمي في الذهاب ، فأذنت لي ، كنا سنقضي الليلة كلها عنده ، كانت والدتي قد اعتادت خروجي مع الشيخ ، أنا وأتراب لي من أقربائي ، فلم يكن علي ضيق في الذهاب معه.
كان الشيخ محمد في الخامسة والعشرين ، لحيته الشقراء لم تكتمل بعد ، كنت أشعر أنني أقرب تلامذته إليه ، تبين لي فيما بعد أن هذا ما كان يشعر به كل تلامذته ، وكان قد تخرج لتوه من كلية الشريعة ، كان سماء بالنسبة لي فهو أول من عرفت من حفظة القرأن ، وكنت أحلم أن أغدو يوماً مثله.
صلينا التراويح في المسجد مع الشيخ ، ثم ذهبنا معه إلى بيته في طرف مدينتنا الصغيرة ، كانت تجربة جديدة علينا ، ولكم راد بنا شيخنا دروباً جديدة ، وفتح قلوبنا الصغيرة على عوالم الخير ، بفرحاتنا بهذا الجديد.
بدأنا ليلتنا ببعض الحلوى التي أعدتها زوجته ، ولا تسل عن فرحنا بها ، كنت أشعر أنه يعاملنا كأصحاب له ، لا كتلاميذ ، يأنس بنا ، ويهش لنا ، لم أشعر أن هناك حواجز بيننا.
ثم توضأ من يريد الوضوء منا ، وقفت وكان جنبي عبدالفتاح ، وكان أسن مني ، كان في الثانوية ، فرأى كيف أن الماء لم يصل إلى كعبي ، فأخذ يدلني على الطريقة الصحيحة لغسل القدمين ، منذ تلك الليلة وأنا أبالغ في الوضوء حتى أكون من الغر المحجلين.
لم يقف الشيخ ليصلي بنا ، بل أراد أن يمرننا على الإمامة ، فكان على كل منا أن يصلي ركعتين ، آه كم هو جميل شعوري تلك الليلة ، وقد جاء دوري ، كدت أطير من الفرح ، أنا ابن السبع سنين سأصلي إماماً ، بأكثر من عشرين شخصاً ، أخذت أفكر ماذا سأقرأ ، لا بد أن أظهر قدرتي ، سأقرأ آخر ما حفظت.
قرأت سورة الشمس في الركعة الأولى ، كان صوتي يتقطع من الإثارة ، لكن كانت عندي جرأة لا تزال إلى اليوم ، تجعلني لا أهاب الجموع ، في الركعة الثانية قرأت الليل ، وكانت أصعب علي من الشمس ، فأخطأت وردني بعض صحابي ، كان ذلك جزءاً من التمرين ، لما سلمت ، نظرت إلى الشيخ ، أنتظر نظرة استحسان منه ، نزلت على قلبي برداً وسلاماً ، أنا لا أزال أثيراً لديه.
مرت أكثر من عشرين سنة على هذه الحادثة ، صليت بعدها إماماً في أكثر من مدينة ، ووقفت خطيباً في أكثر من جامع ، وما أحسب إلا أني ابن لتلك الليلة.
كانت المسابقة التي توسطت القيام لذيذة ، أحلى من كل الألعاب ، أذكر منها سؤالاً عن الصحابي الذي ذكر اسمه في القرأن ، لم نعرفه حينها ، لكني أحفظ الجواب الأن كما أحفظ ذكريات الشيخ الغالية ، بحنين ، لا أقرأ تلك الأية إلا ترحمت على الشيخ.
لكن حكايتنا مع الشيخ ككل الحكايات العربية ، يموت فيها البطل ، ولا تنطفئ الشعلة رغم العواصف ، بل تزيد توهجاً واشتعالاً ، ينقلها جيل إلى جيل ، وهل أنا إلا حسنة من حسنات الشيخ محمد.
|