· شبكة العلاقات الاجتماعية:
يقول بن نبي إن أول عمل يؤديه المجتمع عند ولادته هو بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب لذلك مثلاً بميلاد المجتمع الإسلامي في المدينة حيث آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
وعلى العكس من ذلك عند أفول المجتمع تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، كما كانت حالة المجتمع الإسلامي المتفسخ الذي غزاه الاستعمار.
وبن نبي يذكر الحديث الشريف المشهور: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم..." وفيه يصف النبي عليه الصلاة والسلام كثرة المسلمين آنذاك بأنها "غثاء كغثاء السيل" فيقول "لقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار: استحضار صورة العالم الإسلامي بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعاً بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل" ("ميلاد.." –ص26)
وفي رأي بن نبي أن المجتمع يتكون من ثلاثة مركبات هي"أشخاص" و "أفكار" و "أشياء".
وأول عمل للمجتمع هو تحويل الكائن الذي صفته أنه "فرد" في "نوع" أي صفته شبه البيولوجية إلى "شخص" Person أي إلى كائن اجتماعي، والثقافة هي المحيط الذي يصوغ كيان الفرد ويقدم له الروابط الاجتماعية. لنتذكر هذه الملاحظة ولو أننا، مع بن نبي!، سنستعمل كلمة "فرد" أحياناً في التحليل اللاحق بمعناها المعتاد الذي يعني الواحد في المجموعة البشرية أكان "شخصاً" أم "فرداً" بالمعنى السابق.
وإذا كان المجتمع يتألف من "أشخاص" و "أفكار" و "أشياء" فإن غنى المجتمع يقاس مبدئياً بما فيه من أفكار لا من أشياء، ويضرب بن نبي على ذلك مثلاً ألمانيا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية حيث خسرت "أشياءها" بالكامل ولكنها استعادتها بسهولة بسبب غناها بالأفكار!
ولكن الأفكار لوحدها لا تكون فعالة عند تفكك شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب بن نبي لذلك مثلاً الإسبان الذين هزموا مسلمي الأندلس، فهم كانوا أفقر بالأفكار من المسلمين بكثير ولكن شبكة علاقاتهم الاجتماعية كانت أقوى و أفضل.
وفي اعتقادي أن هذه الملاحظة هي واحدة من ملاحظات ثاقبة كثيرة جداً لبن نبي وبالفعل ليتأمل القارئ في هزيمة الحضارة الإسلامية العريقة ممثلة بالدولة العباسية في ذروة انحطاطها أمام شعوب لا ثقافة عندها تقارن بثقافة الإسلام هي المغول، ثم انتصار المسلمين عليهم بفضل النظام الاجتماعي الفتي الذي مثلته دولة المماليك، ودوماً بتأثير هذا "المركب" الحضاري الإلهي الذي هو الإسلام الذي رأينا في فقرة سابقة أنه عند بن نبي العامل الذي يتحدد صعود الحضارة الإسلامية أو هبوطها بدرجة فاعليته.
والمجتمع كما يرى بن نبي يتراوح في كثافة شبكة علاقاته الاجتماعية بين حدين: الحد الأول يكون فيه المجتمع في ذروة نموه ويكون كل فرد عنده مرتبطاً بمجموع أعضاء المجتمع، وأما الحد الثاني فهو حالة المجتمع المتفسخ الذي تحول إلى أفراد لا رابط بينهم.
والمجتمع في حالة انحطاطه هو مجتمع مريض تضخمت ذوات أفراده ليصبح وجود العامل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً، ويقول بن نبي في تعبير لاذع يذكرنا بالفعل بحالنا هذه الأيام إن ما يميز هذه المرحلة هو أن الأفراد في المجتمع المتفسخ وبسبب تضخم ذواتهم وانحلال الروح الجماعية يدور النقاش بينهم فيحاول كل منهم في النقاش لا أن يصل إلى حلول للمشاكل ولكن أن يجد أدلة وبراهين (أي على ما يريده هو!).
وتورم الذات هذا تعبير عن أن شبكة العلاقات ما عادت صحيحة ويتساءل بن نبي ماذا كان يمكن أن يحدث في المجتمع الإسلامي المريض الذي شهدناه لاحقاً ما حدث في المجتمع الإسلامي الصحيح حين عزل الخليفة خالد بن الوليد! لقد كان فعل الخليفة دون عقدة،وتقبله خالد دون عقدة أيضاً لأن علاقتهما كانت علاقة سوية منزهة، ولو حدثت هذه الحادثة في المجتمع الإسلامي بعد قرنين أو ثلاثة لتزلزل هذا المجتمع!
ويسهر "القانون الخلقي" على شبكة العلاقات الاجتماعية، والإخلال بهذا القانون يمزق هذه الشبكة، والدين هو الذي يخلق العلاقة الاجتماعية ويؤلف بين القلوب، و كلما ضعف الدين زاد الفراغ الاجتماعي الذي لا علاقة فيه بين الناس، وعلى العكس المجتمع المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ولا فراغ اجتماعياً فيه.
ويستطيع القارئ لكتابات بن نبي أن يرى تحليلات شيقة للسياسة الاستعمارية المدروسة لتحطيم العلاقات الاجتماعية للمجتمع المغزو. ومبدؤه "فرق تسد" يمارسه بدقة ومهارة وبأساليب خفية لا يلقي إليها الضحايا بالاً، ولا يحتاج القارئ هنا إلى أن نذكره بالمهارة الخارقة التي تمكن فيها خلفاء الاستعمار المباشر من تفريقنا ليس كدول فقط بل حتى كوحدات أصغر بكثير من الدول، وقد استعان هؤلاء بالعيوب الاجتماعية التي قضى مالك بن نبي حياته يحللها، عيوب المجتمع المتفسخ، "مجتمع ما بعد الحضارة"، "مجتمع ما بعد الموحدين".
· القابلية للاستعمار والاستعمار، الحقوق والواجبات:
مفهوم "القابلية للاستعمار" هو من أشهر مفاهيم مالك بن نبي رحمه الله، وباستقراء استعماله لهذا المفهوم في مؤلفات عديدة تبين لي أنه يستعمله على الأغلب كصفة للمجتمع تعادل صفة "مجتمع ما بعد الحضارة" أو في حالة المسلمين ما يسميه "مجتمع ما بعد الموحدين"، أي الوضع المنهار للحضارة في نهاية دورة حضارية وقبل بدء دورة حضارية جديدة، إنه وضع المجتمع الإسلامي الآن.
غير أنه في كتابه "شروط النهضة" استعمله في توصيف حالة خاصة هي حالة الجزائر التي كان الاستعمار حين دخلها يعرف "القيمة الطبيعية" الكامنة في أفراد شعبها، ولذلك بدأت الإدارة الاستعمارية في تنفيذ خطة منهجية للتقليل من هذه القيمة خصوصاً بعد هزيمة فرنسا المخزية أمام بروسيا عام 1870. "منذ ذلك الحين بدأ الحط من قيمة الأهالي ينفذ بطرق فنية، كأنه معامل جبري وضع أمام قيمة كل فرد، بقصد التنقيص من قيمته الإيجابية. ولقد رأينا هذا "المعامل" يؤثر في حياة الفرد في جميع أطوارها" ويعدد بن نبي أمثلة : فالطفل يحرم مما يقوي جسده وينمي فكره فلا مدرسة ولا توجيه، وإن كان يتيماً فالأمر أدهى وأمر، وحتى لو تمكن من الدخول إلى المدرسة فسوف توضع العراقيل في وجهه لكي لا يكملها بنجاح ،ثم هو بعد ذلك لا يستطيع أن يجد عملاً مناسباً. وفي عهد الرجولة تنسج حوله شبكة دقيقة مسمومة تجعل الشراء والبيع والسفر والكلام والكتابة والتليفون لا تنال إلا بشق الأنفس. إنه ما عاد يمكن له أن يقوم بأعماله إلا بالقدر الذي يريده الاستعمار.("شروط.." ص147)
هذا إذاً "معامل استعماري" يؤثر في الفرد ويبخس من قيمته الإنسانية والاجتماعية. ولكن بالمقابل ثمة معامل آخر يؤثر في الفرد وهو داخلي هذه المرة وليس مفروضاً من الخارج شأن المعامل الأول يجعل من الفرد يقبل الوضع الاستعماري ويسير في الحدود التي رسمها له الاستعمار، بل يقبل حتى الاسم الذي أعطاه الاستعمار له. يقول بن نبي ساخراً: "إذا لم نكن شاهدنا خصياناً يلقبون أنفسهم بالخصي فقد شاهدنا مراراً مثقفين جزائريين يطلقون على أنفسهم الأهلي"("شروط.." ص153)(2)
هذه القابلية للاستعمار تعني جملة الخواص الاجتماعية التي تسهل سيطرة الغزاة واستمرار الوضع المنحل للحضارة. وبن نبي يستعمل هذه الصفة عموماً كما قلنا في وصف الحضارة في طورها المنحل ولا يقتصر على وصف المجتمع الذي تعرض بالفعل للاستعمار. ومن أمثلته الدائمة أن هناك مجتمعات تتعرض بالفعل للاحتلال العسكري، ولكنها "غير قابلة للاستعمار" ،كحال المجتمع الألماني بعد احتلال الحلفاء، وهناك مجتمعات لم يدخلها الاستعمار ولكنها قابلة للاستعمار ويحظى بهذه "المزية" إخواننا في اليمن الذين هم بخلاف المجتمعات الإسلامية الأخرى لم يتعرضوا للاحتلال الاستعماري ولكن المجتمع اليمني مثله مثل بقية هذه المجتمعات قابل للاستعمار!
كنت في مقال سابق (انظر مجلة "المجتمع" العدد 1470-مقال "النقد المنطقي لمفهوم القابلية للاستعمار") نقدت استعمال هذا المفهوم كصفة جوهرية للحضارات غير الغربية التي تعرضت للاستعمار الغربي، حيث أن هذا المفهوم لا يقدم لنا صفة جوهرية لهذه الحضارات ولا يفرق بينها وهي في غاية الاختلاف فلا يظهر خصائص كل منها المميزة ولا يرى فيها إلا علاقتها مع الحضارة الغربية.
ومن دوافع نقد هذا المفهوم إساءة استعماله عند من يهدفون من الاستشهاد به إلى الدفاع الضمني عن الاستعمار وتبرير تعاونهم معه وهو طبعاً عكس ما كان يريد مالك بن نبي رحمه الله.
وعلى أنني لا أزال على هذا الرأي، إلا أنني أريد هنا أن أذكر الوجه الإيجابي الهام جداً لهذا المفهوم ألا وهو دعوة المجتمعات المستعمرة (بفتح الميم) وخصوصاً المجتمع المسلم للتركيز على عيوب التركيبة الاجتماعية التي تجعل المجتمع ضعيفاً لا يصمد أمام أي تحد خارجي.
ومن هنا يضيق بن نبي ذرعاً بذلك الفكر السياسي الذي يجعل من الاستعمار المشجب الذي تعلق عليه كل مشاكل المجتمع، والذي يرى أن حل هذه المشاكل السحري يتلخص في التخلص من الاستعمار.
ولا شك أن هذه الفكرة أثبتت مصداقيتها بعد أن تم التخلص من الاستعمار المباشر في غالبية أقطار العالم الإسلامي، إذ استمر التخلف الاقتصادي والانحلال الاجتماعي وتفاقمت التبعية للغرب في كل شيء حتى في الغذاء.
يقول بن نبي: " لقد انتهى المجتمع الإسلامي منذ عدة قرون إلى آخر أطوار حضارته. وهو اليوم في مرحلة ما قبل التحضر من جديد. ولقد بذل جهوداً كبيرة خلال ما يقرب من قرن لكي تدب فيه الحركة من جديد، ولكن إقلاعه يبدو ثقيلاً وبطيئاً إذا ما قورن ببعض المجتمعات المعاصرة مثل اليابان أو الصين الشعبية التي كانت متأخرة عنه بكثير.
ويرى المفسرون أن هناك نوعين من المعوقات. فالمدافعون عن الاستعمار يرجعون إلى الإسلام سبب تأخير الإقلاع، وأما حاملوا لواء النظرية القومية فيعزونه إلى الاستعمار، وفي كلتا النظريتين خطأ جسيم (...) فالفريق الأول عندما يحمل الإسلام مسؤولية كل هذه الأوضاع يتجاهل حقيقة صارخة وهي أن الاستعمار مسؤول عن النصيب الأكبر من الفوضى التي تسود العالم الإسلامي اليوم. أما الفريق الثاني فعندما يلقي اللوم كله على الاستعمار يحاول أن يخفي سياسة التملق التي يتبعها مع شعوبه كونها لا تخفف من مضاء المشكلة وحدتها بل على العكس تزيد الطينة بلة مما يشبه عملية تخدير لهذه الشعوب تلفتها عن مسؤوليتها في ورطتها الحالية"("مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي –ص97-98)
هنا نكون وصلنا إلى واحد من أهم آراء مالك بن نبي في اعتقادي، وإلى الوصية الأهم من وصاياه التي على المجتمع الإسلامي أن يسير عليها ألا وهي تركيز الجهود على القيام بالواجب وعدم الاكتفاء بانتظار الحصول على حقوقنا من طرف خارجي.
هذه النقطة يكررها بن نبي في كافة مؤلفاته تقريباً: إن الطريق الوحيد للحصول على الحقوق هو القيام بالواجبات. إن قابليتنا للاستعمار عائدة إلى كوننا متقاعسين عن أداء واجباتنا، إننا نرفع شعارات كبيرة ولكننا نكسل عن تنفيذ الخطوات الصغيرة التي لو نفذناها لبنينا المجتمع المثالي القوي القادر على الدفاع عن حقوقه!
ومن الأمثلة التي يضربها بن نبي مثال اليهود الذين كانوا يعيشون في الجزائر أيام استلام حكومة موالية للنازية في فرنسا بعد الاحتلال الألماني لها عام 1940 فقد منعتهم الحكومة من الانتساب إلى المدارس وصدرت قوانين اقتصادية ضدهم ولكن المدارس التي أغلقت قامت بدلاً منها مدارس تطوعية في البيوت أساتذتها المهندس والطبيب والمحامي، وتجارتهم أنقذوها بفضل تضامنهم الداخلي. ويذكر بن نبي بمرارة في مضمار المقارنة مع المسلمين كيف امتنع المتعلمون المسلمون عن أن يفعلوا شيئاً مماثلاً لمكافحة داء الأمية الرهيب في المجتمع الجزائري. هذا هو التغيير الداخلي الذي هو شرط لتحقيق التغيير الخارجي، وبن نبي يستشهد مثالاً بقوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
|