أخي اليتيم،
لا أستطيع هنا إلا أن ألاحظ التشابه البالغ بين دعوتهم في السياسة ودعوتهم في الأدب، ولا بدّ من ملاحظة أن جميع هذه المفاهيم هي ثنائية المقصود تبعا لمكان تطبيقها، فتطبيقها في الغرب يختلف عن تطبيقها في الشرق، ولنبدأ ببعض المفاهيم السياسية أولا.
الديمقراطية: عندما تطبق في الغرب فهي أن يكون للشعب حرية اختيار قادته من أعلى مستوى إلى أقل منصب. انتخابات حرة، وتعددية حزبية، وتفاعل شعبي. ولكنها عندما تطبق في الشرق (وأخص الدول الإسلامية) فإنها (حتى بمفهوم الغرب نفسه) تعني حرية اختيار الشعب لقادته ما لم يكن اختيار الشعب قائدا يمثل الفكر الإسلامي، أو حرية اختيار الشعب قائدا مع عدم احتمال اختياره لقائد يمثل الفكر الإسلامي، وإن فقدت الأولى والثانية، فالديمقراطية هي اختيار الغرب لقائد يحول دون اختيار الشعب لقائد يمثل الفكر الإسلامي.
العلمانية: عندما تطبق في الغرب فهي الفصل بين الدين والدولة، والمقصود بها أن لا علاقة للدين بالدولة، ولكن بنفس الوقت نجد الحكومات تتعايش مع (الدينيين) بل إنهم يصلون إلى مناصب قيادية لا نستثني منها رئاسة الحكومة. ولكنها عندما تطبق في الشرق (الدول الإسلامية ثانية) فإن معناها معاداة الدين (الإسلام) واضطهاد دعاته، تجعل الإسلاميين يقولون لحكامهم: نحن مع العلمانية بمفهوم الغرب، لكم الحكومة واتركونا بحالنا.
الحرية: بمفهوم الغرب، أن يكون للإنسان حرية يمارس بها أشغاله وأموره وطقوسه، ما لم يتعارض ذلك مع حريات الآخرين. وهي في الشرق حرية الإنسان في أن يختار الأمور التي يدعو إليها دعاة الحرية، فمثلا حرية المرأة في أن تختار لبس الحجاب لا تعتبر حرية لأن الحجاب ليس مما يدعو إليه دعاة الحرية.
الآن نعود إلى الأدب، ولنبدأ في الغرب، فإن كان هناك علمانية في الأدب -وهي شيء لم أسمع به هنا- فإن معناها الفصل بين الدين والأدب، وذلك معناه أن لا يكون الأدب تابعا للدين، ولكن مع ترك باب الحرية مفتوحا، فمن شاء أن يخلط بين الأدب والدين فله ذلك، وما أكثر الشعر الإنجليزي الذي له صبغة دينية، ولكن علمنة الأدب في الدول الإسلامية معناها هي حرية الأديب في أن يكتب ما يشاء إلا أن يكتب بصبغة إسلامية فإن ذلك يعتبر رجعيا بلاستيكيا متجمدا.
ثم تطور مفهوم العلمنة في الأدب، وأذكـّر أن دعاة هذا الإتجاه يرددون دائما عبارة (الأدب للأدب) أي أننا يجب أن نستمتع الأدب لما فيه من أدب بغض النظر عما يحمله من تطاول على الدين، أقول إن مفهوم العلمنة في الأدب تطور إلى أن وصل إلى نقطة يكاد يكون تعريفه فيها محاربة الإسلام في الشعر، أي أن القصيدة المنثورة كما يقولون لا تكون قصيدة منثورة إلا إذا وردت فيها كلمة الرب أو الإله أو حتى الله، مضاف إليها صفة لا تليق به -سبحانه وتعالى- ولا تكون قصيدة نثر إلا إذا استهزأت بالمتدينين، وقبلهم بموروثهم، ونعتتهم بالرجعيين، وقارنتهم بالخرافيين من غجر الغرب وكهانهم.
والنتيجة -التي يؤيدنا فيها فضيلة الدكتور صلاح الصاوي- هي أن الهدف هو نزع القداسة عن كل ما هو مقدس لنا، فتصبح كلمه الله كلمه أدبية لا قداسة فيها، ولا يتورع أحد عن استخدامها في قصة حب إباحية، أو في موضوع عهارة اجتماعية تكون بطلتها فريسة ظلم المتدينين في المجتمع. هذه طبعا النتيجة النهائية ولا شك أن القوم يمرون من خلالها عبر إزالة القداسة عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن موروث الأمة جميعها، حتى أن هناك من يقول بأن الثابت الوحيد في الدين هو العقيدة، وما دون ذلك -يقصدون الفقه- فهو آراء الرجال وليس له أي حرمة تراعى.
وكمثال على ما أقول فإنك تجد القوم لا تخلو قصائدهم من استهزائهم باللحى (شعار المتدينين) ولا تخلو من إضافة ما يحلو لهم إلى لفظ الجلالة، فيقولون هذه بسمة الله، وتلك دمعة الله، وقتلت الإله، وفاجأت الإله، واحتار الله، أعوذ بالله مما يقولون.
أختم بتكرار رأيي وهو أن العلمنة في الأدب في إطار تطبيقها على المسلمين هي محاولة نزع القداسة والحرمة عن كل ما هو مقدس ومحرم في نفوس المسلمين، فإذا وصلوا إلى نزع القداسة الذي يرومون فما أسهلها عليهم بعد ذلك أن يهدموا الدين جميعا، والله حافظ هذا الدين، ولن تكون إلا حسرة في أنفسهم. ولكن حفظ الله للدين لا يرفع عنا واجب المدافعة عنه في أوجه مثل هؤلاء. والله من وراء القصد.
|