تابع
الاختلاف ونتائجها بين هذين النوعين من الدول ، ثم نقارن ذلك بكيفية إدارة الأسرة . ومن هذه المقارنة نستطيع أن نسلط الأضواء إلى حد بعيد على مقياس سلامة جو الأسرة أو فساده ومن المؤمل أن يدرك الآباء ـ وهم أبناء الأسرة الكبيرة ( الدولة ) ـ أسس هذه المقارنة كي يتفهموا مسؤوليتهم تجاه أبنائهم بصورة أوضح ، ويقيموا إدارة الأسرة على أساس أقوى ، ويراعوا واجباتهم الثقيلة في تربية أطفالهم سائرين على منهج الشرع الحنيف.
1 ـ الحرية والهدوء النفسي :
يعد الهدوء النفسي والأمن من الخوف ، الشرط الأول لسعادة الانسان . ففي المجتمع الذي لا يأمن أفراده على آرائهم وتكون حياتهم مقترنة بالاضطراب والقلق ، لا مجال للسعادة الحقيقية والكمال الواقعي إليه ، فالعدالة الاجتماعية هي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تبعث الاطمئنان والهدوء إلى النفوس وتهب الأشخاص الأمن والسكينة.
البيئة الصحيحة للانسانية تكون في الدولة التي يسوسها القانون والعدالة ، الدولة رسمت حدود اختصاصات المسؤولين والشعب فيها بموجب القوانين العادلة ، في الدولة التي يكون المسؤولين أنفسهم مطيعين للقانون ، ويسلكون سبيل العدالة في أحكامهم ولا يسمحون لأنفسهم بأقل انحراف أو تجاوز على حقوق الآخرين ... هناك يحس جميع الأفراد في داخل أنفسهم بالهدوء والأمان ، فلا وحشة ولا قلق ، ولا ظلم يصيب المواطنين من المسؤولين والمسيطرين على زمام الحكم . في دولة كهذه يكون طريق التكامل والتعالي مفتوحاً أمام جميع الناس ، وباستطاعة كل فرد أن يعمل لسعادته بارتياح واطمئنان ، ويستفيد من نتائجها المهمة.
أما الدولة التي يسيطر عليها الاستبداد والتعنت ، ولا يحترم فيها القانون والعدالة أصلاً ويفقد الحق والانصاف معناهما فيها ... فلا حرية هناك . بل يسود سماء الأمة قلق واضطراب ويفقد الأفراد هدوءهم ، يقضون ليلهم ونهارهم في الخوف أو يكونون عبيداً لا إرادة لهم قبال أسيادهم ، وفي كل لحظة يمكن أن يسيئ الحاكم إلى شخص أو أشخاص من أفراده ويحمل
===============
( 384 )
كالحيوان المفترس عليهم ويهجم على كرامتهم ووجودهم بلا قيد أو شرط ... فينهي بذلك حياتهم.
` الحياة في دولة كهذه لا تعني إلا الشفاء والحرمان ، وهناك يستحيل على الأفراد الوصول إلى الكمال اللائق بهم بهم كبشر ، وينغلق الطريق أمامهم نحو السعادة ... في مثل هذه الدولة يحترم الأفراد حاكميهم بدافع من الخوف والأمن من الضرر ، ويطيعون أوامرهم صوناً لدمائهم ... ولكنهم في الواقع يصبون سيل اللعنات عليهم.
الانقياد بسبب الخوف :
إن نظرة الاسلام إلى هؤلاء الحكام الظالمين ... إلى هؤلاء الثلة الحقيرة التي تحكم الناس بقوة الحديد والنار ... نظرة ملؤها الريبة والاحتقار ويعرفهم بأنهم أحقر الناس وشرهم في مقام الحكم الإلهي.
عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله ( ص ) : « شر الناس يوم القيامة : الذين يكرمون إتقاء شرهم » (1)
كما ورد عنه ( ص ) في حديث آخر : « ويل لمن تزكيه الناس مخافة شره ، ويل لمن أطيع مخافة جوره ، ويل لمن أكرم مخافة شره » (2).
وفي حديث ثالث : « الا أن شرار أمتي : الذين يكرمون مخافة شرهم ، الا ومن أكرمه الناس اتقاء شره فليس مني » (3).
الانقياد في ظل الحرية :
في ظل الحرية والعدالة ، تكون إطاعة الناس للقوانين والأنظمة ناشئة من الشعور بالواجب ، والميل للحصول على السعادة ، اما في الحكومة الاستبداية والتي تساس بالعنف والقسوة ، فإن منشأ إطاعة الناس للأنظمة هو غريزة
حفظ الذات ، لأنهم يعلمون أنهم عند ارتكابهم أبسط مخالفة فسيكون عقابهم عليها شديداً جداً :
« يكون أفراد الشعب عبيداً للحاكم في الحكومات الاستبداية ، ولا يكون لأحد امتياز على الآخرين ، إن الحاكم المستبد لا يلتزم بأية قاعدة أو قانون فارادته وتشهياته فوق القانون والأنظمة ، إنه يحاول أن يمحو الآخرين من صفحة الوجود » (1).
« تتطلب طبيعة الحكومة في النظام الاستبدادي نوعاً من الاطاعة اللامحدودة . ولا يوجد في هذه الحكومات ما يتعرض للأوامر الصادرة من تغيير ، أو إمهال ، أو موعد أو بدلية ، أو مفاوضات ، أو انتقادات ، أو وساطة ».
« في هذه الحكومات يعد الانسان مخلوقاً خاضعاً لارادة مخلوق آخر . ويجب أن لا يحتمل إظهار القلق أو الاضطراب من وقوع بعض الحوادث الفجائية ».
« يعيش الانسان في ظل الحكومة الاستبدادية كالحيوانات لا نصيب له بغير الغريزة الطبيعية ولاطاعة والعقاب » (2).
« تستند الحكومة الاستبدادية على قاعدة الخوف ، وفي الأمم الجبانة والجاهلة والمندحرة لا ضرورة للقوانين الكثيرة فكل شيء هناك يقوم على فكر شخصين أو ثلاثة . وعليه فلا حاجة للأفكار الجديدة ، ذلك أنكم عندما تقومون بتربية حيوان تلاحظون فقط أن لا يأخذ الحيوان منكم أحد ، وأن يعرف صاحبه ولا يغير سلوكه ».
« عندما كان شارل الثاني عشر في مدينة ( بندر ) لا حظ أن
خلافاً نشب تجاهه في مجلس الشيوخ السويدي ، فكتب إلى المجلس : إنه سيرسل إحدى جزمتيه لتحكم عليهم » (1) .
إن أوطأ الأمم وأشقى الناس ، هم المحرومون من نعمة العدالة والقانون والحرية والفضيلة ... إن الحياة في جو الاضطهاد والضطراب والتعنت والقسوة ، أوطأ وأحط من حياة حيوان بكثير ، بلا شك ...
العدالة في الأسرة :
يحكم الآباء في الدولة الصغيرة للأسرة أفراد أسرهم بأساليب مختلفة ، فبعض الآباء العقلاء والمؤمنين يطيعون الأوامر الإلهية والأسس العقلية يديرون شؤون الأسرة حسب العدالة والانصاف والاحترام للحق والفضيلة فأعضاء هذه الأسرة حسب العدالة والانصاف والاحترام للحق والفضيلة فأعضاء هذه الأسرة يعيشون في ظل الأمن والهدوء الفكري ، وكل منهم يؤدي واجباته بكل سرور وارتياح أملاً في الحصول على السعادة في غد ، وتشع أشعة الحنان والحب في جميع زوايا ذلك البيت وتلك الأسرة.
وعلى العكس من ذلك : فهناك من الآباء الجاهلين والمنحرفين من لا يتقيد بالواجبات الدينية ولا يطيع الأنظمة العلمية والعقلية ، ولأجل أن يكون الحاكم المطلق في جو الأسرة وتنفذ أوامره بلا استفسار أو إنتقاد ، يتوسل بالاستبداد والتعنت ويثبت قدرته ويفرض إرادته بالفحش والعربدة والكلمات الركيكة ، ويعامل زوجته وأطفاله معاملة أشد من معاملة الحيوانات فيذيقهم الأمرين من السوط والعصا والتعذيب والضرب والتجويع ، محولاً جو الأسرة إلى سجن رهيب لا يطاق !.
... حين ينعكس صوته الغليظ في محيط البيت يفر الأطفال الأبرياء بوجوه شاحبة إلى هنا وهناك ، وترتعد فرائصهم كنعاج هجم عليها الذئب ثم يلجأون إلى الفراش بأرواح ملؤها العقد والتأزمات ، وحين يستيقظون في الصباح ويتذكرون أباهم المجنون وتصرفاته البذيئة يسيطر عليهم الجزع والانكماش حتى كأنهم لا حراك بهم.
__________________
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:83)
|