مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 18-06-2003, 05:54 AM
شيماء الراوي شيماء الراوي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
الإقامة: جمهورية العراق
المشاركات: 11
إفتراضي بغداد والوداع الأخير

اسمحوا لي أن أضع قصتي هنا..
فقد كتبتها قبل سقوط وطني الحبيب بيد الاحتلال ..
قصتي أهديها للأستاذ الفاضل منذر أبو حلتم الذي كان له أكبر الأثر في كل ما أكتب ..

وأهديها لأمي التي تعبت من أجلي كثيراً ودوماً ..

وأهديها إلى الشعب العراقي الذي لا زال صامداً ويناضل ..

أهديكم ..

بغداد والوداع الأخير ..

الغرفة باردة كئيبة ، السكون يكتم أنفاس كل شيء إلا الساعة .. أسمعها رتيبة دقيقة ، تدفع على الغيظ .. الهواء البارد يتسلل كل دقيقة ليغمرني فارتعش وأزيد من عدد الأغطية ..

قبل قليل دقت الساعة اثنتا عشرة دقة ( لا يمكن أن تكون ثلاثة عشرة كما تخيلت !! )

استرخي .. استرخي .. استرخي ثم أنقبض ..

ترى ما الذي ذكرني به ؟؟

ربما البرد ..

أغمض عيني .. أريد أن أنسى ..

يهب الهواء من النافذة .. شعرة في عيني دفعها الهواء .. آه يبدو أن عيني كانت مفتوحة .. ألم أغلقها قبل قليل !!

أغلقها من جديد علها تبقى مغلقة فترة أطول ..

صوت غريب دخل الجو ..

إنه صوت خطواته .. أليس كذلك ؟؟

بلى إنها هي .. ولكن من أين ؟؟ من الشارع ؟؟

أنهض من فراشي وأنثر الأغطية حولي .. أنظر عبر النافذة .. لا شيء سوى قطة تخرج من سلة المهملات ..

هشششش ششششش

أفزعتها بصوتي ، ثم عادت تتمشى غير آبهة بي ..

ألن ينتهي هذا الهراء ؟؟

منذ تلك الليلة وكل صوت يذكرني به .. خطواته .. ضحكاته .. صوته .. طريقته في الكلام .. هل أصبح الناس جميعاً يتحدثون ويضحكون ويخطون مثل مؤيد ؟؟؟

يا رب .. افرجها ..

الساعة دقت دقة واحدة .. يا ربي .. منذ العاشرة وأنا أحاول النوم ..

أتقلب في الفراش وأتدثر أكثر ..

لماذا لا أغلق الشباك ؟

لأنه قد يأتي .. أريد أن يكون الطريق أمامه سالكاً .. أريد أن أعرف بقدومه قبل أن أراه ..

ها ها ها هااااااه

ضحكته .. قفزت من السرير من جديد إلى النافذة ..

إنها ضحكته .. ولكن هذا الرجل .. ليس له نفس قوامه .. سقطت كتفاي ..

إنها تشبه ضحكة مؤيد لكنها ليست هي .. لا .. كيف لم أميزها ..مؤيد لا يمطها في النهاية هكذا ..

أعود لأندس تحت الأغطية ..

سأنهض في الصباح وقد أصابني الزكام وأحمر أنفي .. ولو كان مؤيد هناك لضحك ضحكته الصافية والتمعت عيناه وهو يقول :

لقد أهملت من جديد .. لماذا تركت النافذة مفتوحة ؟ الذنب ذنبك .. شكلك مهرجة بأنفك الأحمر هذا ..

كنت حينها سأرد غاضبة ، ولكن لو أنه قالها الآن لطرت من الفرح .. ولكن أين هو الآن ؟

أليس من الممكن أنه يعاني البرد كما أعاني ؟

لا لا ..

خفق قلبي .. وأحسست بوجيبه .. لا ..

يا رب تخليه يدفأ .. يا رب ..

لن أستطيع النوم .. تماماً ككل الليالي .. منذ تلك الليلة ..

قمت من السرير .. سحبت الكرسي .. وتناولت تلك العلبة المنقوشة من فوق الخزانة ..

أنزلتها وفتحتها .. هذا هو فستان الزفاف .. هل ترونه ؟

هذا هو ذوقه .. ومعه هذا الشال .. أليس جميلاً .. أليس لطيفاً ؟؟

ومع هذا الفستان هذا الحذاء .. يحفظ حتى قياس قدمي .. وهذا العقد من الذهب ، وهذا السوار ، وهذا الخاتم على شكل زهرة اللوتس لقد اختارها بنفسه ..

أذكر ذلك اليوم .. جاء يخبرني أننا يجب أن نذهب إلى محلات الذهب حتى نشتري النيشان معاً .. ابتسمت .. إنه فَرِح وسعيد ..

فقلت له : لكنني أريدها على ذوقك ..

لوى فمه بشكل طفولي ليدلني على أنه غاضب وقال :

لا.. يجب أن تختاريه بنفسك .. إنه لك وأنت من سيرتديه ..

ضحكت ولكنني قلت له : من جديد أنت من سيختار ..

فأجاب بلهجة استخفاف : إمشي .. وأنا سوف أحرجك هناك حتى تختاريه أنت ..

رسمت على وجهي علامات التحدي .. وذهبت معه ولكن في النهاية كان هو من اختارها ..

يا الله .. كم الذكريات جميلة ..

هذا الدفتر .. إنه دفتره .. من أيام الابتدائية .. لقد كتب فيه أشعاراً كثيرة كلما أقرأها أشعر به أكثر وأؤمن بآرائه ومبادئه وأفكاره .. لقد كان القلم طوع بنانه منذ الصغر .. ولولا أن والده أصر أن يكون طبيباً لأصبح كاتباً مشهوراً .. ولكن دراسة الطب لم تبق له وقتاً لشيء آخر ..

هذه الوردة الجافة .. لقد كانت نَضِرة في ذلك اليوم ..

كنت قد استلمت نتيجة الثانوية العامة ، وكان أول المهنئين وهدية النجاح .. كانت وردة !!

ولكنها وردة تحمل معها كلمات ومعاني وخطب كثيرة لا أملّ من سماعها ..

وضعتها برفق على ثوب الزفاف الذي لم أرتديه يوماً .. وجلست أتأمل كل شيء ..

ذهبت إلى النافذة .. وقفت هناك .. أنظر إلى الشارع الخالي وإلى السماء وتلك النجمة التي تتوسط السماء ببريقها المميز ..

ذات مرة قال مؤيد .. إذا نظرت إلى تلك النجمة سأكون أنا أيضاً أنظر إليها وأكلمها لتنقل لك ما أقول ..

قالها صباح نفس اليوم .. ربما كان قد شعر بما سيحصل ..

هبت نسمة باردة فجأة فسرت في جسدي رجفة ..

صوت خطوات من جديد ..

هناك شخص قادم من الزاوية ..وقفت على أطراف أصابعي وانحنيت خارج الشباك لأرى أفضل ..

نعم .. أخيراً .. نفس القامة .. نفس المشية .. ربما تغيرت قليلاً .. ولكن كل شيء قد يتغير .. إنها الحرب ..

مؤياااااااااااااد

صرخت بها عالية وأنا ألوح بيدي .. يجب أن يعرف أنني لم أنسه .. وأني أنتظره .. ولم أصدق ما قاله الجميع ..

مؤيااااااااااااااااااااااد

لماذا لا ينظر ناحيتي ؟ ربما لا يزال بعيداً .. ربما لا يسمعني بوضوح ..

مؤيااااااااااااااااااااااااااد

أصرخ بها من جديد ..

يلتفت إليّ فأصرخ ..

مؤيد .. لقد انتظرتك أقسم أني لم أصدقهم .. كلهم كانوا كاذبين .. مؤيد .. ما بك ؟

ملامحه متغيرة !!

ولكن ..

لا ..

ليس هو ..

ليس مؤيد ..

سقطت منتحبة .. لماذا لم يعد مؤيد ؟

ألم يعدني ؟

اقتحمت أمي الغرفة واحتضنتني ..

( ما بك يا حبيبتي .. أهو مؤيد من جديد ؟؟ )

في عينيها الحنون نظرات قلقة ..

( نعم يا أمي .. نعم .. ظننت أنه هو .. ولكن .. لا .. مؤيد .. لن يأتي .. مؤيد لا يحبني .. )

دموعي .. ثورتي .. حزني .. غضبي ..

لماذا يا مؤيد .. لماذا لا تعود ..

( حبيبتي مؤيد مات .. لقد مات في منزله .. أنت رأيت غرفته المتهدمة .. لقد كان إحدى صواريخ الأمريكيين من نصيبه .. هذا ما كتبه الله عليه .. علينا أن نرضى بقضاء الله وقدره .. لقد أراد الله له الشهادة .. )

ضاعت باقي كلمات أمي .. وانطلقت عيناي للذكرى القريبة .. أتذكر النعش الذي حُمل به مؤيد .. نعش كبير .. ونعوش أخرى كبيرة وصغيرة .. مغطاة بعلم العراق .. أهل الحي يحملون النعوش .. ينطلقون بها نحو المقبرة .. يصرخون .. لا إله إلا الله محمد رسول الله .. لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله .. وبعضهم ينادي : شوفوا يا عرب .. وآخر يكبر : الله أكبر .. الله أكبر .. النساء وسط دموعهن يطلقن هلاهل تشيع الشهداء .. شهداء من الأقارب .. ربما الزوج .. ربما الأخ .. ربما الأب .. ربما الوليد الصغير .. ربما الطفل الرضيع ..

تذكرت نفسها وسط المسيرة .. لا تعرف حقاً إلى أين هي ذاهبة .. منذ أن رأتْ السقف الساقط .. الدماء التي تغرق كل شيء .. ووالدة مؤيد الباكية اللاطمة .. لم تعد تعرف إلى أين تسوقها قدميها .. الجمع يسوقها عبر الأزقة التي شهدت طفولة العديد من الشهداء .. وطفولتها هي ومؤيد ..

ودموعها لا تستطيع لها كبحاً .. لماذا يموت بهذه الطريقة .. لماذا .. ما الذي قد جنته يداه .. نائم في سريره .. صحيح أنه كان ينوي قتال المعتدين ولكنه لم يشرع بذلك بعد !!

عادت للواقع سمعت والدتها تقول :

( صدقيني سنحارب .. وسننتصر على أمريكا وأعوانها .. وسننتقم لمؤيد ولغيره المئات ممن قتلتهم غارات أمريكا الجبانة ومؤيد لو كان هنا ما كان ليقبل أن يراك تبكين ..تذكرين أنه كان يرى البكاء ضعف .. وأنه علينا التسلح بالدعاء والقتال ضدهم ..

ليس من الممكن أن نجعلهم يدخلون أرضنا ويدنسون ذكرياتنا ويحرموننا مما أبقاه لنا الأحبة ..علينا أن نحمل السلاح ونقاتلهم وندافع عن الأرض والإسلام والكرامة .. ندافع عن الوطن .. عن موطن الذكريات وتراث الأحباب .. ولن نستطيع مواجهتهم بالحزن والبكاء وسهر الليالي ..

هيا يا حبيبتي .. هيا يا ميسون .. ارجعي إلى فراشك .. دعيني أغطيك جيداً .. دعيني أغلق هذه النافذة حتى لا تمرضي .. هيا ..

بعد أن هدأت .. وسكنت ارتجافتي .. وبعد أن مسحت أمي دموعي وقبلتني قبل أن تتركني .. لم أستطع النوم .. فكرت .. نعم .. لماذا أجلس باكية منتدبة ؟؟ لماذا لا أنتقم ؟

كان لكلمة الانتقام مذاق غريب .. لم أفكر به سابقاً .. أغمضت عيني فما أفكر به وأخطط له لا أستطيع تنفيذه وأنا أشعر بالتعب والنعاس ..

في الصباح قفزت بنشاط لم أعهده في نفسي .. سحبت المسدس والبندقية من تحت السرير .. فقبل أن تبدأ الحرب وزعت الحكومة السلاح مجاناً ووفرته في السوق بسعر رخيص .. معلنة أنه من حق كل شخص الدفاع عن نفسه .. ولكن ماذا عن الانتقام ؟؟

تأكدت من حشوها .. فقد علمنا والدي كيف نستخدمها وكيف نحشوها بالرصاص .. أخرجت علبة الرصاص ووضعتها أمامي .. سحبت حقيبة قديمة من تحت السرير كانت ملقاة هناك منذ زمن .. وضعت البندقية والمسدس وعلبة الرصاص .. ذهبت إلى غرفة الجلوس ومن تحت الخزانة أخرجت الأنبوبة الطويلة .. الـ ( آر بي جي ) سلاح فتاك ويناسب ما أنوي القيام به ..
__________________
يَموتُ الأنامُ بأرضِهمْ وأُريُدُ أَنْ بِأرضِي أَعِيشَ وَفيها يُدْرِكَني الفناءُ .. بعيدٌ عنِ الأوطانِ مرتحلٌ أنا ..
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 18-06-2003, 05:56 AM
شيماء الراوي شيماء الراوي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
الإقامة: جمهورية العراق
المشاركات: 11
إفتراضي

تابع ...



سحبت بجهد الحقيبة السوداء التي كانت بجانب السلاح .. كانت بها ثلاث قذائف .. جيد لا أظنني سأحتاج أكثر .. إن خطتي وببساطة أن أذهب إلى الناصرية وأضرب دبابة أمريكية أو بريطانية .. لقد بدءوا في التوغل في تلك المنطقة ، كما أني أستطيع الوصول إليها بشيء من الجهد .. طبعاً لا يمكن أن أنطلق صباحاً فعندها سينتبه أهلي إلى غيابي سريعاً ..

على العشاء جلست أرمق أفراد عائلتي .. أبي معلم المدرسة جالس أمام التلفاز وبجانبه المذياع لا أدري لأيهما يستمع .. أمي التي تضع العشاء المكون من الباذنجان والطماطم المقلية وخبز التنور الذي تتقن صنعه .. أمي ذات القلب الكبير والصدر الحنون .. أخي الذي يصغرني بثلاثة أعوام والزغب النامي فوق شفته .. أختي التي تجدل شعرها ، وأخوي الصغيرين الذين ينوحان مطالبين هما أيضاً بطعامهما .. كلنا محشورون في تلك الغرفة الضيقة .. التي دائماً ما نلجأ إلى في الليالي حيث تزداد الغارات وتقوم الطائرات بتكثيف القصف وتزيد احتمالات إصابة المنزل .. ففي الزاوية تتكدس أكياس الطحين والأرز وبعض المواد الأساسية وجالونات من الماء ، وقد ألصقنا الأشرطة بأشكال متقاطعة على زجاج النوافذ لنمنع شظاياها من التناثر في وجوهنا إذا ما تحطمت ، وأغلقنا فتحات النوافذ في مكان التحامها مع الجدار ، وفتحة المفتاح بالباب وكل الفتحات في الغرفة بالنايلون ، وجهزنا ما نغلق به الفتحة أسفل الباب ، كل الفتحات ستغلق وسنعتصم بهذه الغرفة لو تم ضربنا بالسلاح الكيماوي ..

نظرت إليهم من جديد .. الحقيقة أني ربما لن أعود .. وعندها سأفتقدهم .. سأفتقدهم كثيراً .. أخذت أملئ عيني منهم ، وبدون أن أدري انحدرت من عيني دمعة .. مسحتها بسرعة قبل أن ينتبه إليها أحد .. وقبل أن يناموا قبلتهم جميعاً فضحكوا وقالوا : يبدو أنها متأكدة من أننا سنموت الليلة ..

عندما خيم الليل تسللت خارجة من المنزل كان الحمل ثقيلاً .. وضعته في صندوق السيارة .. وانطلقت قاطعة شوارع بغداد .. أنظر إليها وأحسبني كنت أودعها الوداع الأخير ..

استغرقت قرابة الخمس ساعات للوصول إلى الناصرية ، غلبني النعاس كثيراً وخفت أن أموت بحادث سيارة .. لا .. ليس قبل أن أقتل واحداً أو اثنين منهم ..

أوقفت السيارة قرب جدار متهدم .. كانت الدماء تلطخ الجدار .. وشظايا لقنبلة سقطت في منتصف البيت تماماً .. الله أعلم كم كان عدد الضحايا .. فهذه البيوت تضم عادة الكثير من الصغار بشكل خاص .. هه .. ويقولون أنهم يضربون أهدافاً عسكرية !!

جلست هناك .. تأملت النخلات .. كم من صاروخ مر عليك أيتها النخلة .. وكم من شخص مات بجانبك.. وكم من الدماء سالت على جذعك ؟ وكم من محتضر أسر بكلماته الأخيرة بجانبك ؟

كانت أضواء الصباح قد بدأت بالبزوغ من خلف المزروعات الخضراء .. والهواء كان نقياً .. هبت نسمة جنوبية .. أحسست أن تلك المزروعات والنباتات تتمايل بسلام .. دون أن يخطر ببالها لحظة أن قدماً غريبة قادمة من مكان ما من قارة خلف المحيط ستأتي لتسحقها وتئدها وتنتزع منها الحياة ..

وضعت القذيفة في الـ آر بي جي .. وحشوت المسدس والبندقية .. فقد لا يتسع لي الوقت لإعادة حشو أحدها ..

احتميت ببقايا جدار المنزل ووضعت المسدس بجيبي والبندقية بجواري .. أما الـ آر بي جي فهو بيدي .. كومت بعض الحجارة لأسند السلاح إليها وهو مصوب باتجاه الطريق المعبد ..

بعد قليل مر طفل صغير يحمل إناءً في الغالب ليملأه بالماء .. ثم مرت مجموعة من الأطفال الذين يشدون بالنشيد الوطني ..

وطن مدا على الأفق جناحاً .. وارتدى مجد الحضارات وشاحاً

بوركت أرض الفراتين .. وطـن .. عبقري المجد عزماً وسماحاً

أخذت أدندن به .. راقت لي الفكرة .. وقد أسعدني أن أشعر بالنشوة والفخر .. الذين بعثهما النشيد في قلبي ..

بعد فترة بدأت أسمع أصوات صراخ .. صراخ حاد يشق عنان السماء .. ما الذي يفعله هؤلاء الحقراء ؟

كان بوسعي أن أنطلق ولكن لا .. يوجد رجال هناك .. ربما من الأفضل أن أنتظر هنا .. أنتظر الدبابة ..

ظللت أسمع أصوات الصراخ فترة ثم انتهى كل شيء كما بدأ .. إذ ربما أهمد المعتدون صرخات النساء هذه إلى الأبد بذلك الأسلوب الذي يجيدونه ..

بعد قليل .. بدأت أسمع الصوت الذي انتظرته منذ فترة .. الصوت الهادر للدبابة وهي تشق سكون المزارع .. ارتعشت فَرِحة .. سأنتقم .. نعم .. أخيراً سأنتقم لك يا مؤيد ..

تحفزت يدي على زناد ال آر بي جي .. وتحفزت في جلستي .. يجب أن أركز جيداً .. يجب أن أحقق شيئاً .. يجب أن أنتقم ..

اقتربت الدبابة أكثر وبدأت أكثر وضوحاً .. كان هناك جندي يخرج رأسه من فتحة الدبابة ورشاشه بيده .. كان يلتفت ذات اليمين وذات الشمال .. كان خائفاً وقد بث الله الرعب في قلوبهم كما فعل في معركة بدر .. إنهم خائفون .. خائفون من الموت الذي يبرز لهم من تحت كل حجر .. من كل بيت .. ومن كل جدار متهدم .. وكنت أنا والموت نتربص بهم من المكان ذاته ..

وجهتها جيداً نحو ما أظنه كابينة القيادة .. بسم الله الرحمن الرحيم .. تمتمت بها .. الله أكبر صرخت بها وأنا أضغط الزناد ..

بمم ..

صوت الانفجار الأول ..

وضعت القذيفة الثانية بسرعة في السلاح وصوبتها من جديد نحو الدبابة ..

هذه من أجل مؤيد .. بسم الله ..

وضغطت الزناد ..

بمم ..

من جديد يدوي الانفجار ..

ظننت أني بدأت أنتصر .. غير أن سائق الدبابة انتوى غير ذلك .. فقد اندفع بالدبابة ناحيتي عازماً على تحطيمي ..

بسرعة أكبر .. وضعت القذيفة الأخيرة ..

ولكن الدبابة تقترب أكثر ..

وهذه من أجل الشعب العراقي .. والشهداء .. والأطفال .. والنساء .. والشيوخ .. والإسلام .. والأرض .. والوطن .. والـ ..

بسم الله ..

كنت قد ضغطت الزناد ..

بمم ..

الانفجار الثالث ..

للحظة ظننت أنني نجوت ..

ولكن الدبابة كانت قد انفجرت وألقتني بعيداً ..

أحسست بالألم في جميع عظامي .. يبدو كأنها تحطمت إلى قطع ..

أحسست أن إحدى ساقي تأبى أن تتحرك ..

كما كان هناك خيط من الدم ينساب من جرح في كتفي ..

بقيت مستلقية حيث كنت ..

كانت دقيقتين تقريباً قد مرتا عندما سمعت تلك الآهة الخافتة ..

التفت لأجد جندياً أمريكياً ربما ، إذ لم يكن الوقت قد اتسع لأرى العلم البشع على الدبابة ..

كان الجندي هناك ..

بدا أنه سقط من البداية ..

لم يكن مصاباً أبداً ..

وكان بعيداً عن موقع الدبابة بما يكفي لأعتقد بأنه الجندي الذي كان واقفاً في الفتحة ..

تحسست جيبي ..

كان المسدس لا يزال هناك ..

الحمد لله ..

نهض المعتدي من سقطته ..

ونهضت أنا ببطء ..

كانت إصاباتي لا زالت تؤلمني وكنت قد بدأت أشعر أن جسدي بلا طاقة ..

ولكني تحاملت على نفسي قدر استطاعتي ..

ووقفت أستند على جدار هناك ..

نظر نحوي نظرة مليئة بالرعب وقال : سيدة أنت لا تقتل ..

كانت يداه ترتجفان بقوة .. رغم أن حزامه كان يحتوي قنبلتين وأشياء أخرى ..

ولكنه الرعب ..

لقد خاف من امرأة !!

لم أشأ أن أتركه .. ألم يقتلوا هم بقلب بارد من توسل لهم .. عبر السنين ..

رفعت المسدس وسحبت صمام الأمان ..

إصبعي على الزناد ..

لكن فجأة تشوشت الصورة أمامي .. وخذلتني قدمي للحظة ..

تحاملتُ على نفسي واستطعت أن أتمالك نفسي ..

إلا عيني اصطدمتا بنظرته الحقود .. وابتسامته المقيتة ..

كان الرشاش بيده وكان يصوبه ناحيتي ..

كانت اللحظات التالية حاسمة ..

المسدس في وجه الرشاش ..

للحظة .. تذكرت غرفة مؤيد والدماء التي كانت هناك ..

تذكرت جنازته ..

تذكرت صرخات المشيعين ..

لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله ..

فكرت .. لماذا لا أكون شهيدة ..

لم أعرف ما فكر به هو في تلك اللحظات ..

فقط قلت :

بسم الله الرحمن الرحيم ..

وصوبت نحوه .. و ..

ضغطت الزناد ..

كان هو أيضاً قد حسم أمره وأطلق في اللحظة ذاتها ..

غير أني لا أذكر سوى تحطم ابتسامته المغرورة ..

والثقب الدامي في جبهته البغيضة ..

وبداية سقوطه نحو الأرض ..

أرأيت يا مؤيد ..

لقد انتقمت لك ..

لقد انتقمت لك يا مؤيد ..

كان هناك أصوات لغط قادمة من جهة البيوت ..

وكانت هناك وجوه سمراء محببة تطفو فوق ذكرياتي ..

ثم لم يعد هناك زمان ولا مكان ..

*****

في إحدى غرف العناية المركزة في المستشفى ..

هناك كانت ترقد ميسون ..

وقد اخترقت جسدها العديد من الرصاصات ..

تحلق حولها الأهل والأصدقاء والعديد العديد ممن سمع بقصة البطلة ..

هناك كنت جالسة أنظر إليها ..

إلى البطلة التي صنعت المجد لأمتها .. وأهدت إليهم الطريق ..

إلى البطلة التي حولت الأسطورة إلى رماد ..

إلى العزيمة والإرادة والكفاح ..

إلى القوة التي تخلقها العزيمة ..

إلى البطلة التي قتلت أربعة رجال ..

البطلة التي تساوي جميع الرجال ..

إلى ميسون ..

كنت أتمنى أن تتحسن حالتها لأحدثها بإعجابي وإعجاب الجميع بالعمل البطولي الذي قامت به ..

ولكن في الصباح التالي ..

لم تعد ميسون هنا ..

كانت هناك ..

مع مؤيد ..

لقد أصبحت البطلة ميسون .. الشهيدة ميسون ..

ولكن .. لها قد كان إخوة .. والحرب لا زالت قائمة ..

والمدافعون يزدادون ضراوة ..

ويزادا إيمانهم بالله ونصره لهم ولو بعد حين ..

لن تذهب دماء الأهل والأحبة هدراً ..

وبسم الله سيكون الانتقام هو سيد الموقف ..

شيماء الراوي

4 / 4 / 2003
__________________
يَموتُ الأنامُ بأرضِهمْ وأُريُدُ أَنْ بِأرضِي أَعِيشَ وَفيها يُدْرِكَني الفناءُ .. بعيدٌ عنِ الأوطانِ مرتحلٌ أنا ..
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 20-06-2003, 09:41 AM
يتيم الشعر يتيم الشعر غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2001
الإقامة: وأينما ذُكر اسم الله في بلدٍ عدَدْتُ أرجاءه من لُبِّ أوطاني
المشاركات: 5,873
إرسال رسالة عبر MSN إلى يتيم الشعر إرسال رسالة عبر بريد الياهو إلى يتيم الشعر
إفتراضي

أختي الكريمة شيماء

ألا ألف أهلاً ومرحباً بك صاحبة السمو أخلاقاً وذوقاً ..

و أصحاب السمو يُستأذنون قبل التعقيب على حديثهم فهل لي أن أعقِّب ؟؟
__________________
معين بن محمد

آخر تعديل بواسطة يتيم الشعر ، 20-06-2003 الساعة 09:47 AM.
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 22-06-2003, 12:48 AM
شيماء الراوي شيماء الراوي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
الإقامة: جمهورية العراق
المشاركات: 11
إفتراضي

أخي الكريم معين ..

أشكر كثيراً ترحيبك السامي .. وسعيدة بانضمامي إليكم كثيراًً وخصوصاً هناك أصدقاء ممن جمعتنا بهم مواقع منذ زمن ..

أخي يتيم الشعر .. بانتظار تعقيبك .. فلست أسمو على غيري ..

ولك جزيل الشكر على ردك وخصوصاً أنه الوحيد

شيماء
__________________
يَموتُ الأنامُ بأرضِهمْ وأُريُدُ أَنْ بِأرضِي أَعِيشَ وَفيها يُدْرِكَني الفناءُ .. بعيدٌ عنِ الأوطانِ مرتحلٌ أنا ..

آخر تعديل بواسطة شيماء الراوي ، 22-06-2003 الساعة 01:24 AM.
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 23-06-2003, 01:04 AM
العم صابر العم صابر غير متصل
دمعة خيانة
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2002
المشاركات: 203
إفتراضي

يترقرق الدمع كلما مرت العين على كلمة من كلماتك يا شيماء . حفظك الله لبغداد وحفظ بك بغداد .
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 23-06-2003, 06:36 AM
الباكي الباكي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
الإقامة: المملكة العربية السعودية
المشاركات: 2
إفتراضي

إلى شيماء الراوي صاحبة الشيم والمعاني
أي حزن تبعثه قصتك وأي فخر يتوج نهايتها
أحسنت ميسون في انتقامها وأأبدعتي أنت في سرد أحداث قصتها
رحم الله ميسون ومؤيد وكل الشهداء
لك الشكر على ما خطته أناملك الذهبية ونتمنى منك المزيدمن الإبداع
إليك تحياتي من قلبي الدامي
مع تحيات الباكي.
__________________
تحياتي من قلبي الدامي
الباكي
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 29-06-2003, 12:26 AM
شيماء الراوي شيماء الراوي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
الإقامة: جمهورية العراق
المشاركات: 11
إفتراضي

إقتباس:
الرسالة الأصلية كتبت بواسطة العم صابر
يترقرق الدمع كلما مرت العين على كلمة من كلماتك يا شيماء . حفظك الله لبغداد وحفظ بك بغداد .

أشكرك كثيراً عم صابر على ردك الجميل ..
وأشكر طولة بالك في قراءتها ..
فلندعو الله أن يحفظ بغداد .. ويحفظ أهلهاويثبتهم على الدين .. لأنهم بحاجة إليه ليتحسن وضعهم ..
شيماء
__________________
يَموتُ الأنامُ بأرضِهمْ وأُريُدُ أَنْ بِأرضِي أَعِيشَ وَفيها يُدْرِكَني الفناءُ .. بعيدٌ عنِ الأوطانِ مرتحلٌ أنا ..
الرد مع إقتباس
  #8  
قديم 29-06-2003, 03:49 AM
شيماء الراوي شيماء الراوي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
الإقامة: جمهورية العراق
المشاركات: 11
إفتراضي

إقتباس:
الرسالة الأصلية كتبت بواسطة الباكي
إلى شيماء الراوي صاحبة الشيم والمعاني
أي حزن تبعثه قصتك وأي فخر يتوج نهايتها
أحسنت ميسون في انتقامها وأأبدعتي أنت في سرد أحداث قصتها
رحم الله ميسون ومؤيد وكل الشهداء
لك الشكر على ما خطته أناملك الذهبية ونتمنى منك المزيدمن الإبداع
إليك تحياتي من قلبي الدامي
مع تحيات الباكي.

جزاك الله خيراً أخي الباكي ..
عسى الله يجعل أيامك سعادة فتصبح السعيد لا الباكي ..
لو لا الحزن لما شعرنا بالسعادة .. ولو لا الشعور بالحزن على وطن ضائع .. ما كانت هناك وطنية .. لكن الحمد لله الذي مكن ميسون من أن تنتقم وتقاوم وتستشهد .. كنا نتمنى لو نستطيع فداء الإسلام والعروبة المنتهكة في العراق وفلسطين قبلها .. لكنها تقادير رب العالمين ..
والحمد لله على كل شيء ..
لك الشكر الجزيل أخي على ردك الرائع .. وعلى ما أضفيت علي من ألقاب وصفات وددت لو أحملها حقيقة ..
تحياتي لقلبك الدامي بكاءًً على وطنية ضاعت في زمن المادة ..
شيماء ..
__________________
يَموتُ الأنامُ بأرضِهمْ وأُريُدُ أَنْ بِأرضِي أَعِيشَ وَفيها يُدْرِكَني الفناءُ .. بعيدٌ عنِ الأوطانِ مرتحلٌ أنا ..
الرد مع إقتباس
  #9  
قديم 29-06-2003, 11:39 AM
الصمصام الصمصام غير متصل
ذهـَــبَ مـَــعَ الرِيحْ
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2001
المشاركات: 1,410
إفتراضي

الفاضلة شيماء

قد كفانا الإخوان كل قول

وننتظر المزيد من ابداعك
__________________
-----------------------------
الأصدقاء أوطانٌ صغيرة
-----------------------------
إن عـُـلـّب المـجـدُ في صفـراءَ قـد بليتْ
غــــداً ســـنلبسـهُ ثـوباً مـن الذهـــــــــبِ
إنّـي لأنـظـر للأيـّام أرقـــــــــــــــــــبـهــــا
فألمحُ اليســْــر يأتي من لظى الكــــــرَبِ


( الصـمــــــصـام )
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م