المرقد الزيني في مصر
بعد استقصاء أدلة القائلين بأن السيدة زينب توفيت في مصر ودفنت فيها في المرقد المنسوب الها بعد استقصاء تلك الادلة يبدو للمتتبع ولاول نظرة انها أسلم وأقرب الى المنطق من أدلة القائلين بأنها خرجت مع زوجها الى ضاحية من ضواحي الشام فرارا من المجاعة وتوفيت فيها كما تشير إلى ذلك رواية القائلين بأن مرقدها في محلة الفسطاط من القاهرة .
لقد اعتمد القائلون بأنها توفيت في مصر ودفنت فيها على رواية ابن عساكر في تاريخه الكبير وابن طولون في كتابه الزينبيات ، ويدعي أنصار هذا الرأي انها بعد رجوعها من السبي مع عائلة الحسين وعائلات القتلى من آل ابي طالب والانصار كانت لا تدع البكاء والنحيب والحديث بما جرى للحسين ومن معه وتحاول اثارة الرأي العام على الأمويين وأنصارهم واستطاعت خلال اشهر معدودات ان تشحن النفوس بالحقد والكراهية ليزيد وأسرته وأصبحت المدينة كالبركان المهيأ للإنفجار بين لحظة وأخرى فكتب عمر بن سعيد الاشدق الى يزيد يخبره بتأزم الموقف وبمواقف العقيلة التي ألهبت المشاعر وهيجت عليه الرأي العام فكتب اليه كما جاء في ص 185 من زينب الكبرى للشيخ جعفر نقدي عن الطراز المذهب لعباس قلي خان فكتب اليه ابن معاوية يأمره بأن يفرق بينها وبين الناس ويخرجها من الحجاز فجاءها الوالي وعرض عليها كتاب يزيد بن مسيون وطلب منها ان تخرج من الحجاز الى حيث شاءت فرفضت طلب الوالي وأصرت على عدم خروجا من المدينة ، وقالت : لقد علم الله بما جرى علينا من القتل والسبي ، وكنا نساق كما تساق الانعام من بلد الى بلد على الاقتاب ، ومضت تقول : فوالله لا اخرج من مدينة جدي وان أهرقت دماؤنا على حد تعبير الراوي ، ولما أصر الوالي على اخراجها اجتمع عليها نساء بني هاشم في محاولة لاقناعها بالخروج من المدينة ، وقال لها زينب بنت عقيل : يا ابنة عماه لقد صدقنا الله وعده وأورثنا الارض تتبوأ منها حيث نشاء فطيبي نفساً وقري عينا وسيجزي الله الظالمين بما جنته ايديهم ، أتريدين بعد هذا هوانا ارحلي الى بلد آمن ، واتفق الرأي على خروجها فاختارت مصر وخرج معها من العلويات كل من سكينة وفاطمة ابنتي اخيها الحسين ، وكان ذلك سنة احدى وستين وفي شهر شعبان من تلك السنة وبعد مرور سبعة اشهر على مجزرة كربلاء وخمسة اشهر على رجوعها من السبي الى المدينة ، واستقبلها الوالي على مصر مسلمة بن مخلد الانصاري في جماعة معه وأنزلها جاره في الحمراء كما تدعي الرواية التي وصفت رحلتها فأقامت بها احد عشر شهراً وتوفيت في النصف من رجب سنة 62 هجرية ، ودفنت بالقرب من دار الوالي ومن بساتين عبد الرحمن بن عوف على حد تعبير جعفر نقدي عن النسابة العبيدلي ولم يرد في حديثه عن ملابسات رحلتها وعن سفرها ذكر لزوجها عبدالله بن جعفر ولا لاحد ممن بقي مع الاحياء من اولادها وأولاد اخوتها وغيرهم من الهاشميين .
وقالت الدكتورة بنت الشاطىء في ص 137 من كتابها بطلة كربلاء في وصف رحلتها الى مصر : لقد بزغ هلال شعبان من سنة احدى وستين في اللحظات التي وطأت فيها السيدة ارض النيل فاذا جموع من الناس قد احتشدت لاستقبالها وساروا في موكبها حتى بلغوا قرية بلبيس ، فقابلتهم هناك جموع آتية من عاصمة الوادي الأمين ومسلمة بن مخلدة الانصاري امير مصر في وفد من أعيان البلاد وعلمائها قد خرجوا لاستقبال ابنة الزهراء وأخت الإمام الشهيد ، فلما أطلت عليهم بطلعتها المشرقة بنور الاستشهاد والنبوة اجهشوا بالبكاء والنحيب ، ومضوا بركبها حتى اذا بلغوا العاصمة مضى بها مسلمة بن مخلد الى داره فأقامت بها قرابة عام لم تر خلاله الا عابدة متبتلة ، وكانت وفاتها عشية الاحد لاربع عشرة مضين من رجب عام 62 على أصح الأقوال على حد تعبير بنت الشاطىء .
وأكثر الذين يدعون بأن المرقد الموجود في مصر هو مرقدها يدعون ان خروجها من المدينة كان بعد رجوعها من السبي اليها باشهر معدودات وفي الشطر الاخير من سنة 61 بالذات وأن يزيدا اخرجها من المدينة لان بقاءها بها كان يشكل خطرا على دولته وانها كانت تعمل لاعداء اهل المدينة وغيرهم من المسلمين للثورة ، ولم يسجلوا موقفا لزوجها ولا لاحد من اولادها والعلويين والطالبيين من رحلتها ولم يذكروا ان احدا منهم كان معها في منفاها .
ويبدو بعد التتبع ان القائلين بأنها توفيت في مصر ودفنت فيها اكثر من القائلين بأن المرقد الموجود في ضاحية الشام هو مرقدها وان ابن عساكر في تاريخه الكبير وابن طولون الدمشقي في رسالته الزينبية كانا اول من تعرض لمرقدها على هذا النحو ودونه من بعدهما الشعراني في كتابه لواقح الأنوار والشيخ محمد الصبان في اسعاف الراغبين ، والشبلنجي في كتابه نور الابصار والشبراوي في الاتحاف ، الى غير ذلك ممن تأخر عنهما من المؤلفين ، في حين ان المؤلفين والمؤرخين القدامى الذين كانوا يتتبعون الاحداث كبيرها وصغيرها لم يتعرضوا لشيء من ذلك ، مع العلم بأن اخراجها من المدينة لو كان على النحو المذكور من المستبعد ان يتجاهله المؤرخون الذين كتبوا التاريخ والسير ولم يتجاهلوا شيئا مما حدث بين المسلمين وبخاصة ما كان منها في تلك الفترة من تاريخهم المشحون بالاحداث والاضطرابات .
ومهما كان فالذي اراه ان حديث سفرها الى مصر وأسبابه ليس بأسلم من جميع جهاته من حديث سفرها الى ضواحي الشام ووفاتها بها ولا بأقرب الى الواقع منه ذلك لانهم لم يتعرضوا لزوجها عبدالله بن جعفر مع العلم بأنه كان حيا يرزق ومن أعلام المسلمين يومذاك ولا لأحد من أولادهم وأخوتها وآل ابي طالب من هذا الحادث ، وهل يجوز على رجل كعبدالله ابن جعفر الذي كان يتمتع بمكانة عالية بين اولاد المهاجرين والانصار ان يقف مكتوف اليدين من تسفير زوجته عقيلة آل ابي طالب ولايتدخل في انقاذها او يسافر معها ، وإذا جاز عليه ولو من باب الافتراض فهل يجوز ذلك على ابن اخيها السجاد وهي التي كانت ترعاه وتحرسه منذ خروجها من المدينة في ركب اخيها الى حين رجوعها اليها وقد تعرض للقتل اكثر من مرة ، ولكنها كانت تدافع عنه دفاع من لا يرى للحياة وزنا بدونه وتطلب من اولئك الجزارين ان يقتلوها قبله .
ولماذا لم يخرج معها احد سوى فاطمة وسكينة كما تدعي الرواية واين منها اولادها وأولاد اخوتها وأحفاد عبد المطلب وأبو طالب والهاشميات من بنات ابي طالب .
وهل كانت وحدها تحرض الناس على الثورة بعد مجزرة كربلاء وكل الدلائل تشير الى ان جميع مواقف العلويين والعلويات والطالبيات كانت تلهب المشاعر وتحث الجماهير المسلمة على الثورة والانتقام من يزيد وحزبه لمقتل الحسين .
ولم تكن مواقف الإمام علي بن الحسين (ع) بأقل تأثيرا على الرأي العام من مواقف عمته العقيلة ابنة علي والزهراء ان لم تكن اكبر تأثيراً منها .
لقد بقي لسنوات عديدة وقيل اكثر من عشرين عاماً يبكي أباه وبقية القتلى من اخوته وابناء عمومته كلما ذكرهم ذاكر وعندما يقدم له طعامه يبله بدموع عينيه كما يدعي الرواة والمسلمون يتلوون لحاله ، وكان يدخل احيانا سوق القصابين ، ويوصيهم بأن يسقوا الذبيحة قبل ذبحها ثم يصيح : لقد ذبح أبو عبدالله عطشانا فيجتمع عليه الناس يبكون لبكائه ، ولم تكن ثورة المدينة وليدة انفعال طائش بل كانت مننتائج مواقف الإمام السجاد وعمته العقيلة والاحزان التي خيمت على اهل البيت ، بالإضافة الى تحسس المسلمين بوقع تلك الجريمة التي لم يحدث التاريخ بأسوأ منها ، فلماذا لم يأمر ابن مسيون باخراج السجاد من المدينة ، ولماذا ترك لها الخيار في الذهاب الى أي بلد شاءت ، ولم يعارض في اختيارها لمصر ، في حين ان وجودها في مصر يشكل عليه نفس الاخطار التي كان يتخوفها من بقائها في الحجاز ، لان المصريين كانوا اقرب الى العلويين من الحجازيين وفيها من الشيعة يومذاك أعداد كبيرة ، والذين رووا اسطورة خروجها الى مصر يدعون بأن المصريين تلقوها بالبكاء والعويل والنياحة كما ذكرنا .
وإذا كان حفيد هند وأبي سفيان يحاذر من بقاء زينب ابنة علي في الحجاز ويتخوف ان يتسبب بقاؤها في الثورة عليه ، فكان من المفروض ان يضعها تحت رقابته وفي عاصمته او في الربذة كما كان يفعل الخليفة عثمان بن عفان مع من يخاف منهم ، فكان يرسلهم الى الشام ليكونوا تحت رقابة معاوية وعندما يعجز معاوية عن وضع حد لنشاطهم اما ان يضعهم في سجونه او يردهم الى المدينة ليحدد الخليفة مصيرهم ، وكانت الربذة ومن على شاكلتها من البراري المقفرة من أوفر الناس حظا بأولئك الاحرار كما فعل
خليفة المسلمين مع الصحابي الجليل ابي ذر الغفاري حتى لا يرى احدا ولا يراه احد وبها كانت نهايته .
هذا كله بالاضافة إلى ان يزيد بن معاوية بعد تلك النقمة العارمة عليه بسبب مجزرة كربلاء كان يتظاهر بالندم والتنصل من مسؤولياتها ويحاول تغطية نتائجها المريرة بالتقرب من العلويين والاحسان اليهم ، وقد اوصى مسلم بن عقبة عندما ارسله الى المدينة لقمع الثورة بعدم التعرض لاحد من العلويين والطالبيين والاحسان اليهم وجرت بينه وبين عبدالله بن العباس رحمه الله مراسلة اوردها اليعقوبي في تاريخ وغيره بعد تلك الجريمة النكراء التي ارتكبها مع اهل البيت (ع) لم يترك بن عباس عيبا من العيوب الا وألصقه فيه ولا منقصة الا ووصفه فيها محتقراً له بكل ما في الاحتقار من معنى ، ومع ذلك لم يصدر منه ما يسيء اليه ولم يكن ذلك منه إلا لما تركته في نفسه تلك المجزرة الرهيبة من الخوف والقلق على مصيره ومصير اسرته ودولته بعد النقمة العامة التي شملت جميع الاوساط الإسلامية على اختلاف ميولها واتجاهاتها .
ومهما كان الحال فان أسطورة نفي العقيلة الى مصر ووفاتها فيها ليست بأقرب إلى الواقع من خروجها من المدينة مع زوجها إلى الشام ووفاتها فيها ان لم تكن ابعد منها .
أما رأيي انا فانه ارى ان السيدة زينب بعد مقتل اخيها الامام الحسين سبيت الى الشام عن طريق ما يعرف اليوم بمدينة بعلبك حيث بالمصادفة هناك صخرة اثرية خطت في عهد الملك الظاهر بيبرس تذكر بانه اقام مسجدا والمسجد اثري لا تزال اطلاله الى اليوم .. اي ان الرحلة من كربلاء - بعلبك - الشام - مصر ومن ثم اعيدت السيدة زينب بنية عودتها الى المدينة عن طريق الشام ولكنها قد توفيت في الشام
وهو مقامها الاقرب للصحة .
__________________
البارجة هي استاذة فلسفة علوم اسلامية ,
إلى الكتاب و الباحثين
1- نرجو من الكاتب الإسلامي أن يحاسب نفسه قبل أن يخط أي كلمة، و أن يتصور أمامه حالة المسلمين و ما هم عليه من تفرق أدى بهم إلى حضيض البؤس و الشقاء، و ما نتج عن تسمم الأفكار من آثار تساعد على انتشار اللادينية و الإلحاد.
2- و نرجو من الباحث المحقق- إن شاء الكتابة عن أية طائفة من الطوائف الإسلامية – أن يتحري الحقيقة في الكلام عن عقائدها – و ألا يعتمد إلا على المراجع المعتبرة عندها، و أن يتجنب الأخذ بالشائعات و تحميل وزرها لمن تبرأ منها، و ألا يأخذ معتقداتها من مخالفيها.
3- و نرجو من الذين يحبون أن يجادلوا عن آرائهم أو مذاهبهم أن يكون جدالهم بالتي هى أحسن، و ألا يجرحوا شعور غيرهم، حتى يمهدوا لهم سبيل الاطلاع على ما يكتبون، فإن ذلك أولى بهم، و أجدى عليهم، و أحفظ للمودة بينهم و بين إخوانهم.
4-من المعروف أن (سياسة الحكم و الحكام) كثيرا ما تدخلت قديما في الشئون الدينية، فأفسدت الدين و أثارت الخلافات لا لشىء إلا لصالح الحاكمين و تثبيتا لأقدامهم، و أنهم سخروا – مع الأسف – بعض الأقلام في هذه الأغراض، و قد ذهب الحكام و انقرضوا، بيد أن آثار الأقلام لا تزال باقية، تؤثر في العقول أثرها، و تعمل عملها، فعلينا أن نقدر ذلك، و أن نأخذ الأمر فيه بمنتهى الحذر و الحيطة.
و على الجملة نرجو ألا يأخذ أحد القلم، إلا و هو يحسب حساب العقول المستنيرة، و يقدم مصلحة الإسلام و المسلمين على كل اعتبار.
6- العمل على جمع كلمة أرباب المذاهب الإسلامية (الطوائف الإسلامية) الذين باعدت بينهم آراء لا تمس العقائد التي يجب الإيمان
آخر تعديل بواسطة البارجة ، 24-06-2003 الساعة 06:47 PM.
|