خلق المسلم في آيات من الكتاب المحكم
فضيلة الدكتور/ السيد عبد الحليم محمد حسين
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله رب العالمين, ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد ولد آدم أجمعين.. محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.. وبعد..
فإن الله جلت قدرته قد صاغ أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى كتابه صياغة ربانية, وناطها بأخلاق جلى, وصفات عليا, لتكون نموذجا فريدا فى دنيا الوجود, يقتدي بها, ويهتدى بهديها, فهو سبحانه قد خط طريقها وحدد مسارها على مراده, فإن سلكت سبيله واستنارت بهداه, ضمن لها الفوز, وتحققت لها السعادة. وتبوأت أوج عزتها, ونالت أسمى الدرجات, وكان النور الهادي والضياء السارى للأمة المؤمنة هو كتاب ربها الذى تتلأ لأ آياته الباهرة آناء الليل وأطراف النهار. وهذه الرسالة الوجيزة تحدد المسار الأخلاقي, فى القرآن الحكيم لكل سائر إلى الله, مبتغ فضله, طالب رضاه, فى حدود المنهج الإسلامى الكريم: نفع الله بها كل من قرأها أوأعان على نشرها, والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
( تمهيد )
قال سعد بن هشام : دخلت على عائشة رضى الله عنها وعن أبيها , فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : أما تقرأ القرآن ؟ قلت: بلى , قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن. ولا غرو فقد أدبه القرآن بمثل قوله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [سورة الأعراف 199 ] وقوله ( إن الله يأمر العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر ) [سورة النحل 90 ] وقوله ( واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) [ لقمان 17] . وقوله ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) [ الشورى 43] , ( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ) [ المائدة 13] وقوله( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) [ النور 22] ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) [ فصلت 34] . ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) [ آل عمران 134] ( اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ) [ الحجرات 12 ] وذلك أنه لما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وشج يوم أحد , فجعل الدم يسيل عن وجهه وجعل يمسح الدم ويقول ( كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ ) : أنزل الله تعالى (ليس لك من الأمر شىء ) [ آل عمران 128] تأديبا له صلى الله عليه وسلم. وأمثال هذه التأديبات فى القرآن كثيرة, لأنه المقصود الأول بالتأديب والتهذيب ثم منه يشرق النور على كافة الخلق, فهو أدب بالقرآن وأدب الخلق به, ولذلك قال ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وقال ( إن الله يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها ) ولذلك قال علي رضى الله عنه ( يا عجبا لرجل مسلم يجيئه أخوه المسلم في حاجه فلا يرى نفسه للخير أهلا, فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا, لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق, فإنها مما تدل على سبيل النجاة. فقال له رجل: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم وما هو خير منه, ذلك أنه لما أتي بسبايا طىء, وقعت جاريه في السبي فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عني, ولا تشمت بي أحياء العرب, فإني بنت سيد قومي, وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العان ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة, أنا ابنة حاتم الطائى. فقال صلى الله عليه وسلم (يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا, لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه, خلوا عنها, فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق) فقام أبو بردة ابن نيار فقال: يا رسول الله (آلله يحب مكارم الأخلاق؟) فقال: (والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا حسن الأخلاق).. فالإسلام قد حف بمكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال, ومن أطهرها ما تخلق به المصطفى صلى الله عليه وسلم: من حسن المعاشرة وكرم الصنيعة, ولين الجانب, وبذل المعروف, وإطعام الطعام, وإفشاء السلام, وعيادة المريض, وحسن الجوار, وإجابه الطعام, والدعاء عليه, والإصلاح بين الناس, والجود والكرم والشجاعة والسماحة والابتداء بالسلام, وكظم الغيظ, والعفو عن الناس, واجتناب ما حرم الأسلام, من اللهو والباطل والغيبة والكذب والبخل والشح والجفاء والمكر والخديعة والنميمة وسوء ذات البين وقطيعة الأرحام وسوء الخلق والتكبر والفخر والاختيال والاستطالة والبذخ والفحش والتفحش والحقد والحسد والطيرة والبغي والعدوان والظلم, وفي ذلك يقول أنس رضي الله عنه
لم يدع النبي الكريم نصيحة جميلة إلا وقد دعانا إليها وأمرنا بها ولم يدع غشا أو قال عيبا أو قال شيئا إلا حذرناه ونهانا عنه). وكل ذلك مظهر قول الله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان...) الآية وتأمل قول معاذ (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
يا معاذ أوصيك باتقاء الله, وصدق الحديث والوفاء بالعهد, وأداء الأمانة وترك الخيانة, وحفظ الجار, ورحمة اليتيم, ولين الكلام, وبذل السلام, وحسن العمل وقصر الأمل ولزوم الإيمان والتفقه في القرآن, وحب الآخرة والجذع من الحساب, وخفض الجناح وأنهاك أن تسب حكيما, أو تكذب صادقا أو تطيع آثما, أو تعصي إماما عادلا, أو تفسد أرضا, وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر وأن تحدث لكل ذنب توبة, السر بالسر والعلانية بالعلانية) وهكذا أثمر تأديب القرآن لمحمد صلى الله عليه وسلم أخلاقا وأفعالا ولم تجتمع لبشر قط قبله ولن تجتمع لبشر بعده, إذ إننا لم نسمع لاحد قط صبرا كصبره, ولا حلما كحلمه ولا وفاء كوفاءه, ولا زهدا كزهده ولا جودا كجوده, ولا نجدة كنجدته ولا صدق لهجة كلهجته, ولا تواضعا ولا علما ولا ثباتا ولا عفوا كتواضعه وعلمه وثباته وعفوه.. وكذلك تجلى أدب القرآن في كلامه.. تأمل الآيات والأحاديث الآتية يتبين لك أن أقوال الرسول أصدق ترجمان لهذه الآيات وخير دستور كفيل بإصلاح الأمم والأفراد..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته