( 2 )
استمرت الحياة هادئة جدا لفترة ؛ ومرة فى شهر ديسمبر دعيت للعشاء ؛ وللحظ جلست بجوار أكثر الكتاب المسلمين جرأة . وفى اليوم الثانى ، فى جريدة الأهرام ظهر مقال عن عملى تحت عنوان "ترجمة للقرآن" . بعدها بيومين فى نفس الجريدة وتحت نفس العنوان عمودين من الشجب للترجمة بقلم الشيخ محمد شاكر ، أستاذ متقاعد من علماء الأزهر "وكما علمت" كان من القادة الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بالنسبة لترجمة "محمد على" . معلنا ، أن المترجم وكل من يقرأ ترجمته أو يؤيدها ، أو يظهر موافقة عليها ، مدان وفى الجحيم الأبدى حسب رأيه !!! ... وينصحنى بكل قوة ، أن أترك ما أقوم به كلية وأتفرغ لترجمة (كل البدائل القابلة للتخيل) كتفسير الطبرى !!! علما بأن تفسير الطبرى حاليا من الضخامة بمكان (وقد اختصره تفسير البيضاوى) ، ويحتاج لترجمته حواشى جانبية طويلة ، للمتكلم باللغة الإنجليزية لكى يفهم ما ترجم ، وهو لم يسبق له معرفة شئ عن تفاسير القرآن الكريم .
فور تلقى هذه الصدمة ، جلست لأدبج باللغة العربية ردا ، وعرضته على أحد أصدقائى المصريين ، الذى عدل فى كلماته ليصبح الخطاب رقيقا ، لا أعرف ما هو الذى عدله . وذهبت به إلى جريدة الأهرام بالنسخة المعدلة . وفى هذا الخطاب ، بعد المجاملات ، وبتواضع سألت ::: "هل من المشروع لرجل مسلم إنجليزى قرأ تفاسير الرجال الأول ، وله شهرة أنه من أصحاب القلم فى قومه ، أن يحاول شرح القرآن الكريم لهم بلغتهم فى أيامنا هذه ؟؟؟" .
وبعد فترة ظهر خطابى هذا ، ومعه تعليقات من آخرين ، كلها تقف فى صفى . وكتب أحد علماء الأزهر ، أن ذلك ليس مشروعا فحسب ، بل هو جدير بالتقدير ، وأنه على استعداد لمناظرة الشيخ محمد شاكر فى مناقشة عامة . وكان الشيخ محمد شاكر قد ذكر بأن هناك فتوى فى الموضوع . وقد أنكر المراسلون هذا بالقطع . وكان من الواضح أنه هناك رأيان متضاربان فى الأزهر الشريف . كما سمعت فى مناقشات خاصة ، أن كثيرا من المصريين المسلمين ، متعجبون ... كما أتعجب أنا كذلك ... من الجهل الغريب ممن يدعون أنهم العقول المفكرة ، لوضع العالم الآن - وأن هناك رجال يعتقدون أن العرب ما زالوا هم المسيطرون ، وأنهم هم "محرروا غير العرب" ؛ من هو الذى لا يرى أن الوضع قد انقلب ، وأن المسلمون من غير العرب يتحملون الآن عبء الجهاد لنشر الإسلام ، وأن مشاكل غير العرب ليست شبيهة بمشاكل العرب . وأن ترجمة القرآن الكريم هو لغير العرب ضرورة لهم ، وكما أن هناك بمصر الكثير ممن يفهمون الإسلام ويحرصون عليه ، فهناك أيضا بالهند من المتعلمين والمؤمنين به الكثير .
وكما ذكرت من قبل ، أن إحدى الترجمات للقرآن أحرقت فى صحن المسجد الأزهر علنا ومنع دخول أية نسخة لمصر ، فقد كنت أسير فى أحد شوارع القاهرة ، فوجدت بواجهة إحدى المكتبات الأوربية ، نسختين مترجمتين للقرآن الكريم ، ترجمها غير مسلمين ، وعلى غلاف أحدهما صورة للنبى محمد ومعها صورة أخرى لجبريل "عليهما السلام" !!! حيث سألت نفسى ، كيف تحرق الترجمات المحترمة ويمنع تداولها ، وتحت الإتفاقات السياسية ، تدخل الترجمات الغير محترمة بمنتهى الحرية ؟؟؟
تلقيت ردا من الشيخ محمد شاكر على صفحات جريدة الأهرام ، وهذه المرة لم يكن جافيا كمقالته السابقة ، بل كان مرحبا بأن أشرح القرآن الكريم لمواطنى بل ما أفعله جدير بالتقدير . ولكنه كان متحفظا على فقرة جاءت فى كلامى "عن نقل القرآن الكريم بطريقة يفهمهما مواطنى" . ربما ظن أن معنى ذلك هو أن أحور فى الكلام بالطريقة التى تلائم المفاهيم المودرن . كما أنى كنت أفكر أيضا ، فى اقتراحه بترجمة تفسير الطبرى الذى يحتوى على تعبيرات بعيدة كل البعد عن مفاهيم قومى .
حضر لى فؤاد بك من الإسكندرية ، وقد كان يتابع المساجلات ، وقال لى أنه انزعج أولا من هجوم الشيخ شاكر ، وعندما قرأ ردى عليه اطمأن . وهو سعيد الآن ، لأن هذه فرصة للوصول لحل نهائى ، وإلا لكانت فضيحة كبرى لمصر . وأعطانى نسخة من إحدى الجرائد بها رسم كاريكاتور ينتقد فيه وجهة نظر الشيخ محمد شاكر ، وبذلك علمت أن رأى الجماهير كانت لا تؤيده فضيلته .
فى هذه الأثناء ، جاء صديقى والآن معاونى ، دكتور غمراوى بدعوة من جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة على حفلة شاى ، ومع الدعوة طلب بأن ألقى خطبة بعد الحفلة . وكان هو نفسه مواظبا على حضور مقر الجمعية يوميا من منزله بهليوبوليس ، بعد عودته من عمله بكلية الطب ، وملحق بالجمعية ملعب للتنس . قال لى بأنه يعقد لقاءات منتظمة مع الشباب من كليته ، ولم تمنعهم دراستهم المدنية من أن يكونوا متدينين ، وبصفته عالم ، فقد كان يتكلم معهم عن الموضوع المثار ، ووصل إلى إقناع الكثير منهم بصحته . كان رجلا فاضلا ، وقد أمدنى بكثير من المساعدة بحيث لم أستطع رفض طلبه للدعوة لحفل الشاى .
وفى نفس الوقت ، وجدت أن الخطاب المطلوب منى ، سيعكر على الهدوء الذى أتوخاه لعملى الذى أقوم به . ولذلك وافقت بشرط أن يكون خطابى باللغة الإنجليزية ، فإعداد خطاب باللغة العربية سيأخذ الكثير من وقتى الذى أريد أن أوفره للمراجعة . وقد وافق مشكورا على أن يقوم هو بالترجمة الفورية لخطابى ، لمن لا يعرف اللغة الإنجليزية .
وبناء على ذلك ، طلبنى فى يوم قبل الغروب ، وذهبنا للجمعية حيث وصلنا فى موعد صلاة المغرب . ثم كان لقاء مع الأفاضل الذين كانوا مكلفين بلقائى ، ثم ذهبنا للحفل . وفى هذه الإثناء لاحظت الحضور ، فشعرت أن ما سأقوله لهم لن يكون مريحا .
فمن منظر العمائم وزى رجال الأزهر ، وجدت عددا كثيرا ، وقد كنت أعتقد أن الحضور سيكونون من طلبة غير أزهريين . وبشئ من الهلع ، شعرت أنه لكى أكون مؤئرا لهم ، لابد أن يتضمن خطابى جزءا باللغة العربية ، كما أنه يجب على تغيير محتوى خطابى باللغة الإنجليزية . ويكون الخطاب باللغة الإنجليزية متأخرا . أما الآن فيجب على تركيز أفكارى على النقاط التى يجب على ذكرها بالعربية ، وأترك الباقى للقدر . فترة تناول الشاى انتهت ، وانتقلنا لقاعة المحاضرات المكتظة . وجلست على المنبر ، حيث كان د. الغمراوى بجوارى وبالقرب من على اليمين الشيخ رشيد رضا ، ومن الذين أعرفهم فى منتصف القاعة محمد على بك كامل وبجواره ابن فؤاد بك يحملقون تجاهى بفزع . هؤلاء فقط هم الذين أعرفهم من الحضور .
يتبع
آخر تعديل بواسطة أبو إيهاب ، 22-09-2005 الساعة 08:44 PM.
|