شبهة التفريق بين أهل الكتاب والمشركين.
ومن الشبهات التي يوردها أهل هذا الفهم الأعوج، دعواهم بأن الله تعالى فرق بين أهل الكتاب والمشركين، مثل قوله تعالى:
﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين﴾ [البينة (1)]
وهي شبهة رد عليها شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، فقال: "فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله: ﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين﴾ وقوله: ﴿ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين﴾ والعطف يقتضي المغايرة؟
فالجواب أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشركين كما صرح به تعالى في قوله:
﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)﴾ [التوبة] [أضواء البيان (1/91)]
فقد وصفهم الله تعالى كلهم بأنهم مشركون ونزه نفسه عن شركهم به.
قلت: ولا منافاة بين وصف الله تعالى لهم بالشرك وبين كونهم أهل كتاب، فهم مشركون في واقع الأمر، أهل كتاب في الأصل، كما أنه لا منافاة بين تفريق الله تعالى بينهم وبين المشركين من غيرهم في معاشرتنا لهم، من حيث حل طعامهم وحل نسائهم لنا، لأن هذه تتعلق بأحكام الدنيا، التي جعل الله فيها للمنافق الكافر في الدنيا ما للمسلمين، فالمنافقون أهل كتاب، وهم في نفس بكتابهم كافرون في واقع الأمر.
فهذه شبهة أوقعتهم في الخلط بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة.
فقد لا تبلغ دعوة الإسلام بعض الناس من اليهود والنصارى وغيرهم من عباد الأوثان، والذي لا تبلغه دعوة الإسلام لم تقم عليه الحجة، ومع ذلك يحكم عليه في الدنيا بأنه كافر وتطبق عليه أحكام الكفر، ولكنا لا نجرؤ على الحكم عليه في الآخرة.
فإذا مات قبل أن يدخل في الإسلام، فحكمه عند أهل السنة حكم أهل الفترة، الذين قال تعالى عنهم: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء (15)]
راجع على سبيل المثال: [تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/29)]
هل يطلق على اليهود والنصارى صفة الكفر؟ (3)
شبهة مفهوم طائفة من أهل الكتاب
ومن الشبه التي قد يعتمد عليها أمثال هؤلاء، في فهمهم الأعوج، قوله تعالى:
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [آل عمران (69)]
يعني أن هذا التمني إنما حصل من طائفة من أهل الكتاب وليس منهم جميعا، فغير هذه الطائفة لا يحصل منهم هذا التمني، إضافة إلى أن "مِن" هنا صالحة للتبعيض.
وهو استنباط غريب لا يصدر من طالب علم مطلع على الآيات الأخرى المتعلقة بأهل الكتاب، وعلى بيان علماء التفسير لمعانيها، وعلى الواقع الحاصل من اليهود والنصارى ضد الإسلام والمسلمين.
ولهذا نبه علماء التفسير على معنى الآية وأمثالها وحملوها على ما يجب حملها عليه.
قال الألوسي رحمه الله: "من للتبعيض، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم، وقيل لبيان الجنس" [روح المعاني (3/198)]
وهو يعني أن "من" يحتمل أن يكون معناها "التبعيض" وأن يكون "لبيان الجنس" وحملها على التبعيض المراد منه رؤساء أهل الكتاب، وبقيتهم تبع لهم كما هو معلوم...
وقال النحاس رحمه الله: "ثم قال تعالى ﴿ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم﴾ وكلهم كذا، وإنما "مِن" هاهنا لبيان الجنس، وقد قيل إن طائفة بعضهم..." [معاني القرآن (1/419]
نبه بقوله: "وكلهم كذا" على نفي الفهم السقيم الذي نحن بصدد الرد عليه، يعني أن أهل الكتاب كلهم يودون إضلال المسلمين: الزعماء وأتباعهم...
فلا يصح أن يفهم من كلمة "طائفة" أن غيرها من أهل الكتاب لا تتمنى ما تتمناه هذه الطائفة...
طوائف متخصصة في الإضرار بالمسلمين
أما المؤمنون منهم بدين الإسلام، فقد أثنى الله تعالى عليهم في آيات من كتابه، كما سبق قريبا.
وأما غير المؤمنين بدين الإسلام، فغالب زعمائهم وقادتهم ظاهرة عداوتهم للإسلام والمسلمين، وقد تختلف عداوتهم قوة وضعفا، فالزعماء منهم أشد عداوة، وعامتهم يتبعونهم في تلك العداوة، وغالبهم – إن لم يكن جميعهم - يتعاونون على إنزال الضرر بالإسلام والمسلمين:
فمنهم من يتمنى إضلالنا كما مضى.
ومنهم من يظاهر علينا أعداءنا سواء كانوا منهم أو من غيرهم، كما قال تعالى:
﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)﴾ [الحشر]
ومنهم من يخططون لأتباعهم، بأن يتخذوا الوسائل التي يتمكنون بها من رجوع المسلمين عن دينهم، كما قال تعالى:
﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾َ[آل عمران (72)]
وقد حذرنا الله تعالى من الارتداد عن ديننا بطاعة فريق منهم، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران (100)]
وأخبرنا الله تعالى أن فريقا منهم، يحرفون كتب الله ويغيرونها، ألفاظا ومعاني، بحيث يخفونها ويكتبون للناس غيرها، ويوهمونهم أنها هي كتب الله، افتراء وكذبا، ليضلوا من يجهل ما أنزل الله بذلك.
قال تعالى:
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران (78)]
وأخبرنا تعالى أن فريقا منهم يكتمون الحق الذي جاء به الرسول وهم يعلمونه. فقال تعالى:
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (146)
فهل يعني إسناد الكفر إلى طائفة أو فريق من أهل الكتاب، براءة غيرها من ذلك؟
إن اليهود يتفقون على عداوتنا وعداوة ديننا، وعلى حربنا وحرب ديننا، ويقسمون أنفسهم أقساما متنوعة، كل قسم منهم يتخصص في حربنا بحسب قدرته وكفاءته وتخصصه.
وكذلك غالب زعماء النصارى يقسمون أنفسهم أقساما، كل قسم منهم يحاربنا ويحارب ديننا، بحسب قدرته وكفاءته وتخصصه.
بل إن غالب اليهود والنصارى، يتفقون فيما بينهم على أن يقسمون أنفسهم أقساما، كل قسم منهم يحاربنا ويحارب ديننا، بحسب قدرته وكفاءته وتخصصه.
ونحن نراهم في عصرنا هذا يدربون أصنافا منهم لمحاربتنا، في أرضنا وأنفسنا وديننا وعقولنا ونسلنا وأموالنا، وسائر ضرورات وثوابت حياتنا، فلم ننج من عدوان أي صنف من أصنافهم أو طائفة من طوائفهم:
وليس من السهل سرد تلك الأصناف والطوائف وذكر قاموس عدوان كل صنف أو طائفة منهم علينا...
فهذا يحاربنا بالسلاح، وذاك يمده بالمال والرجال، وهذا يحارب بالتعليم، وآخر يحاربنا بالإعلام، وطائفة تحاربنا بالاقتصاد، وأخرى بالصحة والتطبيب وثالثة بالسياسة، ورابعة بفساد الأخلاق، وخامسة بالتجسس والاستخبارات، وسادسة بالتكنولوجيا والصناعات، وسابعة بالكيد والدس والتحريش بيننا، وثامنة بتحريف معاني كتابنا وسنة نبينا، وتاسعة بتفكيك أسرنا ومجتمعنا...
ولهم في كل ذلك جامعات ومراكز بحث ومعاهد متخصصة، يتخصص فيها جيوش منهم لتنفيذ ما يريدون من حربنا وحرب ديننا...
فهل يليق ينا إذا رأينا طائفة منهم تحاربنا في مجال من المجالات، أن ننسى الطوائف الأخرى التي تحاربنا في المجالات الأخرى، ونقول: هذه الطائفة سيئة ولا يلزم من عداوة هذه الطائفة وحربها أن يكون غيرها من طوائف اليهود والنصارى كذلك؟
لقد أطلت الكلام في هذا الموضوع، وهو كون أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالإسلام كفارا، لأمرين:
الأمر الأول: كشف زيف من يدعي أنهم لا فرق بينهم وبين المسلمين، لأن كلا منهم أهل كتاب...
الأمر الثاني: إيضاح أنه لا فرق بين من خرج من دين الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية، وبين من خرج إلى الهندوسية والبوذية وغيرها من الوثنيات، فهو مرتد يجب أن تطبق عليه أحكام الردة في كلا الحالين.
|