مقدمة الطبعة الثانية
أصداء الطبعة الأولى
أيها القارئ الصديق..
بيد الأخوة التي تحتضن في بر وحنان كل من تجمعهم بها الرحم الانسانية دون أن تفرق بين أحد منهم، أقدم هذه الطبعة الثانية لكتاب "الخطر اليهودي: بروتوكولات حكما ء صهيون"كما قدمت سابقتها التي نفذت منذ سنوات، ثم توالى الطلب والإلحاح عليها من قراء بعد السكوت عن تلبية ندائهم تقصيراً جديراً بالاعتذار، ولكن تمحل الأعذار ليس من شمائل الأحرار.
ولست أقدمها لقومي وحدهم بل لكل الأمم، لعل عقلاءها يرشدون، ويعملون بما يعلمون، دون ان يحيد بهم عن طريق الحق تشجيع من هنا أو تخذيل من هناك.
1ـ ترجمة الكتاب واثرها:
وترجمتي هذه ـ فيما علمت بعد البحث المستفيض ـ أول ترجمة عربية لهذا الكتاب العجيب وأوفاها، وأن شعوري بمسؤوليتي الانسانية مع مسؤوليتي القومية وأشد منها هو أكبر الأسباب التي حفزتني على ترجمته منذ حصلت على نسخته الانجليزية بشق النفس بعد بحث طويل، بل أن هذا الشعور هو الذي حفزني على طلبها وتجشم المتاعب في سبيلها والرغبة في ترجمتها قبل العثور عليها، وذلك بعد ان أطلعت على فقر وخلاصات منها بالانجليزية والعربية في الكتب والصحف، حتى قضى الله لي بكلما أردت منها بعد اليأس ، فتحقق لي ما ينسب الى الشاعر المتيم المجنون بليلاه:
"وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ان تلاقيا"
فالحمد لله الذي يجمع بعد شتات، وقضى باللقاء والإئتلاف بعد مواجع اليأس وطول الفراق.
هذه الترجمة أمينة على روح النص تمام الامانة، وتكاد لدقتها أن تكون حرفية في مجمل ملامحها سطراً سطراً، لا فقرة فحسب، فلم أحد قيد شعرة عن النص الانجليزي في أي موضع،مع مراعاة المحافظة على فصاحة الترجمة العربية وسلامة عباراتها، ومراعاة ما يستلزمه الفرق بين اللغتين في النظم، ولست أبالغ اذا ادعيت أن المترجم الانجليزي لو ترجمها إلى العربية لم ضمن لها من الوضوح والدقة والبلاغة أعظم من ترجمتنا، وهذا ما جعلني أكتب في صدر الترجمة أنها "أول ترجمة امينة كاملة" دون تبجح ولا استعلاء .
وأحمد الله حق حمده أيضاً بما أولى الطبعة الأولى من عناية القراء الذي تعد عنايتهم بكتاب تشريفاً له ولصاحبه، وان لم تكن شرفاً لهما، إذ لا شرف لانسان ولا لعمل الا بما فيه. لا باقبال عليه أو باعراض عنه، وحسب الإنسان الفاني شرفاً أن يبذل مخلصاً لغيره غاية وسعه على ما تقتضي الكرامة والمروءة وتقوى الله، فأما الاقبال والاعراض وما اليهما من رواج وكساد وحظوظ عارضة قد تكون عادلة أو جائرة.
ولقد تمثلت عناية هؤلاء القراء الأماثل في صور شتى، فتناوله كثير منهم بالدرس أو النقد، وتناوله غيرهم بالتلخيص أو التوضيح كتابة في الصحف أو محاضرة في المجامع والندوات في كثير من البلاد العربية والشرقية والأوربية والأمريكية،وقام آخرون بترجمته كله أو بعضه إلى لغاتهم: ومنها الفارسية في إيران والاردية في الهند، كما ترجم في مصر ثانية إلى الفرنسية، ونشرت خلاصة له بالانجليزية، وأنسَ به وبمقدمته العربية كثير من الباحثين فاتخذوهما مرجعاً يستندون إليه أو يقتبسون منه ويستشهدون به في مقالاتهم وكتبهم مع الصهيونية العالمية،ونوه بمضامينه كثير من الأدباء والمفكرين والزعماء والرؤساء والوزراء فيما يكتبون وما يقولون.
ولقد عرفت بعض ذلك بنفسي، وحدثني ببعضه قصداً أو عفواً مطلعون من الاصدقاء والخلطاء ممن تقلبوا في البلاد شرقاً وغرباً، وكان أشد أهل هذه البلاد اهتماماً به المغاربة والمصريون والعراقيون والسوريون، وبلغ من حماسة احدى سيداتنا المصريات الجليلات ـ كما حدثني موزعوه ـ أنها اشترت من نسخة نسخه بضع مئات ثم بضع خمسينات أهدتها إلى تعرف ومن لاتعرف، وألقت محاضرتين أشادت فيهما بمضامينه في ناديين نسائيين على غير معرفة بي، وإن أنسَ لا أنسى أمسية طرق بابي فيها فلاح كهل، لو كان بين جمهرة من أوساط فلاحينا أو من دونهم لاقتحمته أحصف العيون. ولم أكن أعرفه ولكن ما كاد يستقر بمجلسي حتى عرفت انه من قرية خاملة في اطراف الصعيد، وأنه جاء يستوضحني مواضع من الكتاب، ويستزيدني غيرها، واستمر ساعات يسألني ويحاسبني ويستوثق مما يسمع كأنه من ملائكة الحساب، وأنا أفرغ له وعيي بين الغبطة والدهشة، فوالحق لقد كانت غبطتي بزيارته عدلاً لأعظم جزاء، ولقد كان الرجل الى جانب حصافته كريماً فاعتدني من الأصدقاء وكرر وصالي بهذا الولاء فحيا الله "الشيخ عبد الحميد روق" في قريته من مركز الصف بالجيزة.
وكنت قبل خروج نسخ الكتاب من الطبعة أترقب أن يحاول اليهود جمعها كدأبهم معه حيثما ظهر في أي لغة، فكنت أناشد موزعيه وطنيتهم أن لا يبيعوها الا نسخة نسخة، الا أن يجدوا سبباً مرضياً لشراء جملة منها، إذ كانت غايتي الأولى من اظهاره نشر فكرته وتدبر خطته ابتغاء وجه الله ومصلحة عباده جميعاً، وأن يعتبره قارئه كأنه رسالة شخصية من صديق، وما يسرني غير ذلك ان تنفد منه مائة طبعة لكي تمضي آلاف نسخها إلى الظلام أو النار أو ما يشبه ذلك، أياً كان ما تجنيه لي من عروض الدنيا التي يتهافت عليها من يزنونها بغير ميزاني وحسبي في نهاية المطاف أن أشير إلى أن ندائي بهذا الكتاب لم يكن صوت صارخ في البرية.
2ـ الفرق بين الطبعة الأولى والثانية:
وقد كان الكتاب في طبعته الأولى ـ ولم يزل قسمين: قسماً مترجماً لا فضل لي فيه إلا الأمانة التي وسعتني في الترجمة، وقسماً موضوعاً أنا كاتبه وهو لي وعلي بمزاياه وعيوبه.
أما القسم المترجم فهو البروتوكولات الصهيونية ومقدمتها وتعقيبها اللذين اختصها بهما الأستاذ "سرجي نيلوس" أول من نشرها للعالم في الروسية، وقبل ذلك تصدير البريطان للترجمة الانجليزية في طبعتها الخامسة (ومنها نسختنا التي ترجمناها) وفقرة وردت داخل غلافها عنوانها "بروتوكولات حكماء صهيون: الانجيل البلشفي"، وكنت ترجمت هذا القسم سنة 1947، وأطلعت عليه بعض ذوي القوة والأمانة من اخواني فنظره، كما كررت النظر فيه مرات بعد ذلك حتى خلال تصحيحي لمسودات طبعته سنة 1951، فلما عزمت إعادة طبعه ابقيت هذا القسم على حاله في الطبعة الأولى غير جمل أو ألفاظ قلائل دعتني الرغبة في زيادة تجويد الصياغة وتوضيح العبارة إلى تبديل جزء مكان غيره في جملة جملة، وندر ان استبدلت لفظاً بغيره، فلا اختلاف بين الطبعتين على القراء الذين لا يهمهم من الكتاب الا البروتوكولات وسائر القسم المترجم.
أما القسم الموضوع الذي هو من قطرات قلمي فكان مقدمة طويلة ذات اثنتي عشرة فصلة تدور حول القسم المترجم ولا سيما البروتوكولات، ثم هوامش كثيرة ذيلت بها صفحاته اما لتوضيح غامض أو ربط، فلما عزمت اعادة طبعه ترددت أمام المقدمة والهوامش بين راين: الابقاء عليها والتخفيف منها ولم يضطرني إلى التردد محض النقص الذي فطر الله الناس عليه فنضح على كل ما يصدر عنهم، كما حبب اليهم الكمال فنزعوا الى طلبه، انما كان هناك سببان آخران: أحدهما ظاهر وهو طول المقدمة والهوامش وشفيعه حاجة جمهرة القراء بيننا إلى مجهول قليل مثمر يغنيهم بالضرورة عن مجهود ضخم دون طائل. فقد لا تتيسر مراجعة أو لا يتاح الوقت له، أو لا تعين القدرة عليه.
والسبب الثاني خفي يكاد يكون خاصاً بي، وشفيعي في اعذاره هو ابراء ذمتي، فأرجو ألا يضيق كرمك الأخوي عن وعيه،هذا السبب هو أني كتبت المقدمة والهوامش خلال طبع القسم المترجم وأنا مضعضع النفس والجسم إبان نقاهة من مرض أيأسني وأوهمني يومئذ أنني لما بي، فكنت والموت في سباق ليخرج الكتاب أو يدفن، فكنت أجر رجليّ، واتوكأ عليهما متثاقلاً من فراشي إلى مكتبي لأسطر ما يسعني سطراً أو بضعة سطور أحياناً، وصفحة أو نحوها أحياناً أخرى. والقلم بيميني على الصحيفة كمحراث ناشب في صعيد صخري، ثم مدت لي عناية الله في الغاية ببقية من شباب صنتها فصانتني، وبضرورة معوقة ضقت بها أولاً حين خشيت لضعفي أن يدفن عملي بعدي،ثم حمدتها بعد قليل، وكانت مصداق الآية الكريمة "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
هذه الضرورة هي اشتغال المطبعة عن طبع كتابي بكتب غيره التزمت مع أصحابها مواعيد محدودة، فاستطعت خلال هذه الفترة أن أكتب ما تيسر لي على مهل، ثم استطعت ـ وكل صفحات الكتاب امامي ـ أن أربط متشابهات مسائله باشارات في الهوامش ولو كانت قاصية في تفرقها بين مطالع الكتاب وخواتمه.
إن ما يكتبه الإنسان في تمام عافيته عرضة للنقص كسائر أعمال البشر وكل أبناء الفناء، فكيف بما يكتبه وهو مضعضع الجسم والنفس؟ أنه غالباً عرضة لمزيد من النقص والاضطراب، ولست أنكر أن هذه القاعدة لا تطرد على الدوام في جميع مجالات النشاط الانساني الجسمية والنفسية ولا سيما الآداب والفنون، فطبقات الحياة في النفس والجسم أكثر من طبقات الأرض، كلما تحللت طبقة منها أو قشرت ظهرت من ورائها غيرها، وفي مجالات النشاط الانساني قد تفيض ينابيع النفس ـ وانوارها يثقلها بما تضطرب خلال الازمات ـ بما لا تفيض به، وهي مطمئنة بالأمن والعافية. وقد لا تتجلى ملكاتها ومواهبها العالية ـ ولا سيما العبقرية التي لا أدعيها ـ كما تتجلى والمرض يشعرها بالخطر على الحياة، وحب البقاء يستجمع كل قواها المتفرقة المكنونة في قصوى الأغوار فما أعظم ما حبانا الله من قدرته وحكمته. أو لست ترى المريض يتعثر في خطاه كأنه قائم من القبور، أو كأنه الوليد أول انتصابه على قدميه، يقارب في خطوه مسير المقيد، فإذا تهدده خطر وثب راكضاً رغبة في الحياة كأنه بدل غيره من فتيان السباق؟ أو لست ترى الطالب أول العام الدراسي بعد عطلة شهور مستريحة يمل استذكار دروسه بعد سويعة، فإذا اقترب موعد الامتحان وصل الليل بالنهار ناشطاً متفتحاً بعد أن تسربت بعض عافيته في شهور الدراسة السابقة، فصار أقل عافية منه في أول عامه الدراسي؟.
|