مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 15-02-2006, 02:57 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(5)

لم تكن السنين السبعة التي قضاها بعد تخرجه من الجامعات الرومانية ، من كلية الهندسة قسم الميكانيك ، بالسهلة حتى ينساها ، وإن كان يخشى أنه نسي ما تعلمه في الجامعة ، أو نسي ما يؤهله ليمارس عمله كمهندس ميكانيكي ، فقد تجول في تلك السنين بين أعمال كثيرة ، لكن لم يكن أيا منها له علاقة بما تعلم في الجامعة ..

كان صاحب همة عالية جدا ، ومن بيت كادح ، فلم يستنكف عن العمل في أي مهنة ، ففي موسم البطيخ ينصب مظلة على الطرق الخارجية ، ويشتري البطيخ بالجملة ، وكان يبيعه بالمفرد ، وكان يتوفق بذلك ، فكان صاحب وجها جاذبا ولسانا يرتاح من يشتري منه له ..

و عندما ينتهي موسم البطيخ ، يذهب الى المشاتل ، ويشتري من نباتات الزينة والحدائق ، ويضعها في ساحة البيت ، فيأتي المشترون اليه ، وفي المساء يذهب الى مجمع النقابات ، فيجلس بالنقابة ويتحدث بأمور السياسة والأحداث الجارية .. كانت النقابة هي الوحيدة التي تذكره بأنه مهندس ميكانيكي .

كان يشارك في معظم أشكال العمل العام ، ولم يكن يتذمر من مهنه التي يتنقل من واحدة الى أخرى ، فقد كانت تلك المهن توفر له هامشا من المال ، لا بأس به ، وقد كانت تلك السمة الغالبة لمعظم خريجي الجامعات ، حيث ينتظرون دورهم في الوظائف الحكومية .

وأحيانا يقتني سيارة شحن صغيرة ، ينقل بها ويتقاضى بدل ذلك أجرة طيبة ، كان صنفه من المهندسين ، يأخذون بدل توقيعهم على مخططات المكاتب الهندسية المعروفة بعض المال ، وأحيانا يعملون بتلك المكاتب بشكل مؤقت ، أو ريثما يتم انفكاكهم من تلقاء أنفسهم ، لأن اصحاب المكاتب الهندسية لا يدفعون لهم بانتظام ..

عندما عرض عليه أحد الأصدقاء ، العمل كمهندس ميكانيكي ، في أحد المصانع حيث يقتضي أن يحل مشاكل إنتاج البخار ، ويراقب على بقية آلات المصنع .. وافق متثاقلا ، فسر تثاقله ، بأنه يخشى أن لا يستطيع إظهار كفاءة كافية في هذا العمل .. وتهتز صورته كجليس و مشارك في القضايا العامة .

باشر عمله ، وتم تقديمه للفنيين والعمال ، على أساس أنه رئيسهم الجديد ، فكان لا يحسن عملية صياغة الأسئلة كي يفهم طبيعة العمل .. وكما هو معروف فان العلم دون تطبيق و ممارسة ، يشبه العمل بدون علم فان كان العامل بلا علم كالأعمى ، فان العالم بلا عمل كالطبل ..

ان المستخدمين ، اذا كانت مدة خدمتهم كافية فانهم سرعان ما يكتشفون ثغرات من يضاف اليهم كوافد جديد ، وان كان يتقدم اليهم على أساس مسمى يفوق مسمياتهم المهنية ، فان الحذر والحيلة من قبلهم تكون أكثر حبكا ، لجعله يحس بدونيتهم تجاهه ..

ما هي الا ساعة عمل واحدة ، حتى دخل على صاحب العمل ( صديقه) و أبلغه باعتذاره عن مواصلة العمل !!
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 16-02-2006, 04:14 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(6)

كان يختفي تحت جناح والده ، تحت رداء سميك وواسع يصنع من جلود الخراف ، حيث يكون الفرو للداخل والجلد المغطى بقماش سميك قاتم للخارج ، وكان هذا النوع من الفراء ، يصنع بشكل فضفاض ، ليبقى يحمي من يحتمي به أن يبقى يغطيه وهو في كل الأوضاع ، سواء كان يجلس أو يمشي ، أو راكبا على فرس ، ولما كان والده ليس بصاحب حجم ضخم ، فقد كانت الفروة كافية لاستيعابه مع والده ..

كان يراقب من خلال إطلالته من تحت الفروة ، وكأنه وليد كنجر ، يطل من جراب أمه ، كان يتابع حركة والده العابثة بملقط لتحريك الجمر في الموقد الذي أنشئ في مكان ما في المضيف ، ووضعت عليه دلال القهوة ، وامتلآ بالرماد الأبيض . وفي المقابل جلس الرجل الذي يستمع لحديث والده في الجهة الأخرى للموقد ، وكان يتناول من والده بين حين وآخر رشفة قهوة في فنجان .

كان الطفل الذي لم يكن عمره يزيد عن عشر سنوات كثيرا ، يستمع لأحاديث ، قد يكون سمع بعضها أكثر من خمسين مرة ، فكان اذا انشغل والده بالسعال أو العطس ، بإمكانه أن يكمل أي قصة بدأها والده . كما كان من يستمع للحديث قد استمع اليه سابقا ، أكثر من مرة ، لكن لم يكن ليتذمر ، فكانت هذه من عادات الفلاحين الذين يحظوا بوقت فراغ كبير في بعض الشهور ، فليس هناك روافد تجدد الأحداث و الأخبار لديهم ، فلم يكن التلفزيون قد انتشر ، وكان هناك قليل من أجهزة الراديو في القرية التي لم تكن قد وصلتها الكهرباء بعد ، ولم يكن من السهولة اقتناء راديو في البيت ، وان تم اقتناؤه فان الأوقات التي يفتح بها قليلة توفيرا لطاقة البطارية الجافة ، وان فتح الجهاز فان من المتعذر فهم ما يقول وعن أي شيء يتحدث ، فمعرفة الناس محدودة بالأماكن ، فهي لا تتعدى دائرة قطرها خمسين كيلومترا ..


لفت انتباه الطفل (الكنجر) أن والده كان يتكلم بفرح ظاهر ، فأمعن ليعرف سر هذا الفرح ، فاكتشف أن والده يبشر ضيفه بموسم خصب ، حيث أن كمية الأمطار كافية لأن يستبشروا بموسم جيد ، وكان الوقت هو منتصف شهر شباط (فبراير) .. و حسب تقويم الفلاحين فهم في بداية ( سعد بلع ) .. حيث كانوا يقسمون الشتاء الى ( مربعانية و خمسينية ) والخمسينية تقسم الى أربعة أقسام سعد ذابح وتبدأ من بداية فبراير (شباط) ثم سعد بلع ثم سعد السعود ثم سعد الخبايا .. وكل قسم من هؤلاء عليه عشرات الأمثلة والقصص والمناسبات التي حفظها الطفل عن ظهر قلب ..

انقلبت فرحة والده بالموسم ، الى هم كبير بالنسبة له ، فهو لم يكن يرغب بسماع مثل تلك الأخبار ، لأنها ستكون عبئا عليه ، فبعد أن تنتهي السنة الدراسية ، فبدلا من أن ينعم بعطلة صيفية عابثة ، سيقضي تلك العطلة في عمل شاق ، وهو ( الدراس ) و استخراج الحبوب من المحاصيل المحصودة والمنقولة للبيادر ..

لم يكن أهل الريف يلتزمون بسن العمل ، فمن يستطيع الحراك عليه أن يعمل الرجل و المرأة ، الشاب والفتاة ، الشيخ والطفل .. فكل واحد سيجد له مهمة تتناسب مع إمكانياته البدنية .. فلذلك كانوا قريبين من التجانس والتساوي ، فلا تستطيع تمييز أحد عن آخر ، لا بسلوكه ولا بكلامه ولا برائحته ..

جاء الموسم ، وباشرت السيارات بنقل الزرع الناضج والمحصود بقشه وسنابله ، وكانت السيارات هي التطور الجديد في عملية النقل وكان يطلق عليها (الرجاد) .. وكانت تتم قبل أن يخلق هذا الطفل بواسطة الجمال (الإبل) ..

امتلأ البيدر بالحصيد ، وتكونت جبال من أكوام الزرع المرجود ، والطفل يتطلع بحسرة ويتساءل : متى سأنهي أنا و أخي طحن كل هذه الجبال واستخراج الحبوب والتبن منها ؟ لقد كان مثقلا بهم وهو ينظر اليها ، كمن يسير في البراري في وقت صيف وينظر بعيدا الى القرية ، متى سأصل الى تلك القرية وأشرب الماء و أرتاح ..

ما هي الا ايام معدودة ، حتى جاء ابن عمه وزوج أخته ، وتناول أداة اسمها (شاعوب ) وهي قطعة من حديد صلب لها أربعة أصابع أطول من الشبر قليلا ، وترتبط بذراع خشبي أطول من متر ونصف .. فهدم أحد أكوام القش ، وقسمه الى عدة أقسام ، كل قسم اسمه (دور ) و أحضر بغلة فتية ، وضع على رقبتها أداة تسمى (الحواة ) يربط بها ذراعان خشبيان وتتصل بقطعة مكونة من أجزاء من خشب السنديان أو الجوز .. ومثبت في أسفلها ، قطع من الحجارة البركانية السوداء ، لتكسر و تسحق القش ..

طلب من الطفل الجلوس على (اللوح) والتمسك جيدا ، و أخذ الرجل طرف الحبل المتصل برأس البغلة لتوجيهها ، ووقف بمنتصف القش و نهر البغلة فكانت تركض وتلف فوق القش والطفل متمسكا باللوح جيدا .. وبعد قليل أعطى طرفي الحبل ( المقود ) للطفل .. ونهره أن يقوم بتلك العملية ..

لقد اكتشفت البغلة أن من يقودها الآن هو غير الذي كان يقودها قبل قليل ، رغم أنه قد وضع على رأسها قطعة من جلد لا تسمح لها الا لرؤية ما أمامها ، لكنها بمهاراتها (البغلية ) اكتشفت من صوت الطفل الذي كان يقودها ، وقوة يديه أنه قاصر .. فتبسمت البغلة و ضمرت له عنادها (البغلي ) ..

لم تكن يداه الناعمتان قادرتين على الصمود طويلا ، لعناد تلك البغلة فتكونت فقاعات على جانبي راحة يده اليمنى ، نتيجة احتكاك الحبل بها ، ومعاندة البغلة ، ويسمع بين حين وآخر صوت زوج أخته من مكان في البيدر ، حيث يقوم بعمل خاص به ..( سوق .. سوق ) أي هيا قم بعملك !!

ما هي الا لحظات ، حتى طلب منه أن يوقف الحركة ، و يأتي لتناول طعام الغداء ، فتنفس الصعداء ، لكن مع تيقنه أنه لا مناص الا أن يتم سحق كل تلك الأكوام من القش !!
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 16-02-2006 الساعة 04:36 AM.
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 17-02-2006, 09:51 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(7)

كان عندما يعود الى بيته ، يحرص أن يعود بملابسه العسكرية ، فكان يحس بنشوة عظمى وهو لابسها ، ويسير بين الناس ، و أحيانا يحضر بعض الدعوات الخاصة أو العامة بتلك الملابس ، بحجة أنه قد عاد للتو ، وخشي أن لا يتمكن من استكمال ملابسه المدنية ..

حتى صوته وكلماته وطريقة نظمها ، كانت تتماهى مع ملابسه والشارات التي تدل على رتبته من نجوم وغيرها التي تبين رتبته .. فكان يريد القول لمن ينظر اليه إنني أأمر على مجموعات تفوق عددكم ، وهم يؤدون لي التحية بانضباط كبير .. وهم أكثر أهمية منكم ، لأن من بينهم عشرات تأمر على أعداد تفوق أعدادكم ، وهم من يجلبون لكم الأمن وهم من يحموا استقراركم فاحترموني ، فأنا أهل للاحترام !

لم يكن يدور في خلده أن تقدمه في الجيش سيتوقف في لحظة ما ، فقد كان يعتقد أنه سيصبح يوما ما قائدا مهما ، وليس مهما أن تكون تلك الأهمية تنبع من إنجازات عسكرية ميدانية ، أم لا .. فالمهم أن تزداد الشارات والنوط التي توضع على ملابسه لتدلل على ذلك ..

ولم يكن يدور بخلده ، على وجه التحديد ، الفقه الذي يبقي العسكريين يتقدمون في رتبهم ، فقد كان يعتقد أن إعلان الولاء لقيادته ، والانضباط العسكري وحسن السلوك هي عناصر كافية لتحقيق ما كان يصبو اليه .. في حين أن القيادة تعتمد أساليب معقدة توارثتها من تاريخ طويل للفقه العسكري ، منذ انتهاء عهد المماليك وحامياتهم ، الى عهد العثمانيين و نقلهم لأبناء المناطق ليخدموا في مناطق بعيدة عن مناطقهم ، حتى لا تسول لهم أنفسهم أن يكونوا مصدرا لهواجس أمنية تثير قلق السلطان والولاة . الى عهد المحتلين الأوروبيين الذين قدموا الأقليات الطائفية و الإثنية لتتولى قيادات الجيش ، ولا تتباهى بوضعها كزعامات تقليدية لها امتدادها الشعبي .

أما قيادته فقد ورثت من كل هذا شيئا ، و أضافت عليه معادلات ، احترفتها لوقف حالات الانقلابات التي شاعت في أواسط القرن العشرين .. فكانت تراضي الزعامات التقليدية والإقليمية بمراكز حكومية مدنية ، وتنتقي أكثرهم حرصا على ديمومة الوضع في المراكز العسكرية ..

عندما تلقى أمر التقاعد ، احتاج كثيرا من الوقت للتكيف مع الواقع الجديد فلم يعد هناك من يزلزل الأرض من تحته وهو يؤدي له التحية ، فأصبح يمر بالناس فلا يقوموا بوجهه احتراما و أحيانا يتكاسلوا في رد السلام ..

كبر أطفاله ، وكبرت مسؤولياتهم ، وشارف رصيده من الهيبة على النضوب ولم يعد راتبه التقاعدي يكفي لتغطية كل مهام أسرته التي لا تختلف عن باقي الأسر في الطلبات ، ولم يكن محظوظا كبعض زملاءه المتقاعدين في أن ينسب لأحد الدوائر المدنية ، ولا أن يحظى بطلب من مؤسسات أهلية لتقديم خدماته ، ولا أن يذهب لأحد الدول العربية التي تطلب أمثاله من ذوي الخبرات المطلوبة ، وكل ذلك كان كما يبدو مربوطا بنفس قواعد التأثير الواجبة لتحقيق مثل ذلك .

وكونه لم يحظ بقدر كاف من المعرفة بطبائع تلك الأمور ، فقد انخرط مدنيا بنقد مظاهر الترهل العربي الرسمي ، بل وانخرط بالحياة المدنية العامة ، فأخذ يحضر الندوات ويبتسم لكلام المحاضر الناقد .. كل ذلك باعد بينه وبين أن يحظى برافد جديد عملي يرفد وضعه المالي غير الكافي ..

علا صوت زوجته شيئا فشيئا ، تطالبه بالخروج مما هو فيه ، ثم أصبح كلامها يؤلمه جدا ، فكان له أخ أمي لكنه ناجح في عمله ، فيدس له بعض المبالغ بالسر لكي يخرج مما هو فيه ، وكان تصرف أخيه الذي يصغره ، تصرفا نبيلا لم يحسسه بأي منة ، لكنه كان يتألم وهو يقبل مساعدة أخيه ..

كان على استعداد للقبول بأي عمل بعد تلك السنوات الستة التي قضاها بعد تقاعده ، مقابل أي مبلغ للخروج مما هو فيه ، أو للخروج من بيته بأي حجة للتخلص من نظرات وكلمات زوجته غير الصابرة ..

قبل بعرض أحد أصدقاءه ، بالعمل لديه بصفة مدير أحد فروع شركته ، وكان لصديقه شريك عسكري متقاعد كان دوره تنفيذي ، وكانت رتبة الشريك الذي يكبر صاحبنا بعشرة سنوات على الأقل ، أدنى من رتبته بستة أجيال من الرتب .

لم يكن يدري ، كيف شكل دور الشريك ، وكيف سيحتك به ، وان كانت كل الأمور توحي بأنه لن يحتك به ولن يكون على تماس معه ..

لكن شاءت الأمور أن يبتدع الشريك ذا الرتبة العسكرية المتدنية ، أن يذهب لساحة عمل صاحبنا ، ويفتح نصف زجاج شباك سيارته ، دون أن ينزل ، ويسأله سؤالا ، لم يكن السؤال بتلك الأهمية ، بل كان السؤال فقط من أجل صراعات التذاوت ( توكيد الذات ) .. ليقل له ( صامتا) : أنظر لقد كنت أنت تأمر على مسئول مسئولي ، و الآن أنا أتلذذ بالأمر عليك ..

ذهب صاحبنا لصديقه ، يعتذر عن مواصلة العمل ، ولكن صديقه وعده أن يحل تلك المسألة بعد أن فهمها ، ففض شراكته بمن أراد أن يهين صديقه !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 20-02-2006, 03:52 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(8)

كان إذا دخل محل لبيع الأقمشة ، أو الملابس الجاهزة ، سواء مع والده أو والدته ، أو عندما شب و أصبح يشتري لوحده دون مساعدة من يكبره . كان يحس أنه أصبح أسيرا لصاحب المحل ، أي محل من تلك النوعية ، فكان يؤخذ برائحة المحل التي تنبثق من المواد الحافظة للأقمشة ، إضافة لبعض البخات التي كان يبخها أصحاب تلك المحال لتدويخ عملائهم أو زوار تلك المحلات .

كان لابتسامة أصحاب المحلات ، و تحركهم بسرعة ، ضمن حركات كرروها مرارا ، وتكلمهم بجمل قصيرة كأنها برقيات ، ولكن رغم قصرها ، فقد كانت وتكون مؤثرة في نفس المشتري ، خصوصا عندما تتبعها حركة سريعة ، يلتقط البائع فيها ، نموذجين أو ثلاثة من القطع التي في الرفوف ، ويفردها أمام المشتري ، إن كانت قماشا ، أو يمسكها من طرفها و يفركها أمام من يراقبه ، لتترك تأثيرا يأسره ، فيغوص المشتري في أعماق رصيده اللغوي ، فلا يخرج إلا بطلب هامشي ، كأن يقول للبائع هل عندك أفضل منها ؟ أو يجب أن تراعينا فنحن نحب أن نأتي الى محلك ..

وكان البائع ، بعد أن يتفقد تأثير حركاته ، ويتفحص نوعية طلب المشتري ، يحس بنشوة الانتصار و نجاح أسلوبه ، فيركض و يأتي بقطعة من نفس المطروح على طاولة العرض ، ولكنها تختلف في اللون أو النموذج ، ويتركها أمام المشتري و يسمر نظراته تجاهه مبتسما ، ومتبعا تلك النظرات ، بإغداق الوصف والتوقير للمشتري ، بأنه صاحب ذوق و ذكي ، فلذلك أتى له بتلك القطعة ، ويسارع لاستثمار حالة الانتشاء عند المشتري لسماعه مدحه من قبل البائع ، ويهمس بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا ، صحيح أن ثمنها أغلى من الأولى .. لكن ثمنها فيها !

فيتشبث المشتري بالقطعة ، ويطالب تخفيض الثمن لتكون معادلة لسعر شقيقتها التي رفعها البائع من أمام المشتري ، استبعادا لاحتمال التعرف عليها بأنها لا تختلف عن التي يتم التفاوض عليها ..

كل تلك الصور ، أثرت بصاحبنا ، كما أثرت حالات الغنى والترف التي يعيشها هؤلاء التجار .. فصمم أن يمتهن مهنتهم ، ويستفيد من كل تلك الملاحظات التي تكونت لديه ، وكأنها دراسة جدوى اقتصادية ..

كان محله الذي أسسه ، يتفوق على المحلات التي كان يتجول فيها طيلة حياته ، فالديكور لامع وراقص ، واسم البوتيك حديث وراقص أيضا ، وهناك تنبثق موسيقى في زاوية ما توحي بروحية الشباب ، وقد رش بعض أصناف العطور المؤثرة في نفوس المشترين ، ولبس بلوزة قاتمة فضفاضة دون قميص تحتها ، وكانت قبتها مفتوحة لتسمح لسلسال ذهبي أن يظهر من خلالها على رقبته الشقراء ، وكان يضع على شعره بعض الدهون التي تبقيه لامعا ومنتصبا للأعلى ، ولم ينسى أن يستعين بفتاة محجبة ، وكأنه قد وضع صنفا للعملاء رسمه في ذهنه كجزء من دراسته للجدوى الاقتصادية ، كما أنه خصص محله لبيع الألبسة الجاهزة للفتيات ..

دخل رجل في الستين بعد إلحاح ابنتيه عليه للمرور على محل صاحبنا ، فتلقتهم الفتاة المحجبة ، تطلب منهم أن تخدمهم ، في توقف الوالد مع البائع الشاب الذي ناقشه في سبب اختيار اسم هذا المحل ، الذي لم يعجب والد الفتاتين إذ أحس أن أمور البلاد آخذة في التدهور ، من خلال اسم هذا المحل وديكوره !

تلعثم الشاب ، فلم يكن بحسبانه أنه سيواجه بهكذا ملاحظات منذ اليوم الأول فابتسم و طلب من الرجل الجلوس لكي يضيفه بفنجان من القهوة ، ولكن صرامة الرجل ، وعدم انتباهه لطلب البائع له بالجلوس ، قد تركت أثرا غير طيبا في نفس البائع ..

دخلت ثلاث فتيات ، توزع نظراتهن في أرجاء المحل ، كأنهن فرقة تمشيط جاءت لتطهير هذا المحل في مهمة من حرب الشوارع .. انطلق الشاب نحوهن تاركا الرجل في تساؤلاته ودهشته ، ليقرر أن يتجه نحو باب المحل كأنه غواص يخرج بين حين وحين من الماء ليتنفس .. في حين كانت ابنتاه لا تزالان في حديث بيع وشراء مع البائعة المحجبة ..

ذهب الشاب الى الفتيات الثلاثة ، بعد أن أوقف جهاز الموسيقى ، وتحدث مع الفتيات كأنه في حالة مراقبة حثيثة من الرجل الواقف عند الباب ، فكان ينتقي الكلمات المهذبة المحتشمة ، وتمنى لو أن رأسه مغطى بطربوش أو يشمغ ، حتى يداري مضايقات نظرات الرجل القليلة ، ولكن معانيها قاتلة ..

صاح الرجل بابنتيه مستفسرا ، عما اذا أكملتا الشراء ، فلم يلقى إجابة ، كانتا في كابينة لقياس الملابس ، في حين دخلت امرأة مع بنتها الى المحل ، وحديث جار بينهما ، دون أن يمنعهما المحل عن مواصلته وان كان قد بدأ منذ ساعة .

أحس الرجل والد البنتين ، بأن استغرابه لم يعد ضروري ، و أحس صاحب المحل الشاب بأن ملاحظات الرجل لا تقدم ولا تؤخر ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 22-02-2006, 05:26 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(9)

كعادتهم ، لم يكن أهل الريف يطيلوا السهر ، لعدم توفر الكهرباء ، ولطبيعة أعمالهم التي تقتضي نهوضهم باكرا في الصباح ، ولاستنزافهم القصص التي يمكن أن يتداولونها في أمسياتهم الرتيبة ..

كان أبو سليم يمسك بملقط يحرك به الجمر في الموقد الذي يحيط به أخواه وابن عمه وولدين من أولادهم . وكون أحلامهم محدودة ولا تتجاوز أن يكون موسمهم جيدا ، فلم يتمرنوا حتى على أحلام كبرى ، لقد كان أحدهم اذا أراد أن يبالغ في وصف شيء انبهر به ، فانه يكتفي بالتركيز على اسم ذلك الشيء ، كأن يقول (والله قمح جاب فلان ، يصمت ويضيف : قمح ) .. أو والله حياة يعيشها أهل الشام .. حياة ..

كنت تشعر بتعابير حواجبهم الكثة و لحاهم البيضاء ، وصمتهم المدروس بعناية المران و التكرار ، ببلاغة لا يستطيع الأدباء استخدامها حتى لو اجتهدوا .

رغم قصر فترة السهرة ، فإن أبو سليم كان يبتدع بعض الحيل القليلة ، لتمضيتها ، طالما أنه لا جديد هناك لرفد مواضيع السهرة ، فكان يمهد الرماد في الموقد الذي أمامه بواسطة علبة التبغ المعدنية المصقولة التي كان يحتفظ بالتبغ داخلها ، فيسحبها جيئة وذهابا عدة مرات ، حتى يصبح سطح الرماد ناعما وممهدا وجاهزا لخط بعض أحلامه المتطاولة .

ولا تدري ما الذي يجعله يرسم تلك المربعات المتلاصقة ، هل هو استعادة لتكوين صورة رآها في مدينة ، وبنى عليها أفكارا ، تصف حالة أهل المدن المتنعمين ، أم هي حالة التعطش لتوفير حجرات ، حيث كانت ندرتها تشكل شاغلا مستمرا لأهل الأرياف ..

كان الجالسون يراقبونه ، بعدم اهتمام ، لتكرر تلك الحالة بين فترة و أخرى ، ويتقاعسوا عن الاستفسار عما يقوم به ، وان لم يسأله أحد عما يقوم به فإنه يتطوع لتفسير تلك الطلاسم أو الأحلام بكلام لم يكن متوافقا مع صوته أو حركة حاجبيه ..

كان الفارق بين عمره وعمر ابنه سليم يزيد عن خمس وخمسين عاما ، لفقدانه أبناءه بسبب أمراض الحصبة التي كانت تفني معظم المواليد ..

ذهب الى مكتب ابنه المهندس سليم ، ولم يكن سليم موجودا في المكتب ، فدخل وجلس بغرفته الرئيسة ، وكانت السكرتيرة و الرسامون والمهندسون الآخرون قد تعودوا على زياراته المتكررة ..

دخل الغرفة ، طبيب عام وتبعه محامي ، وبعد ذلك دخل ضابط من الشرطة ، سلموا على بعض ، وتعارفوا ، و أبو سليم يشاغلهم بقصص قصيرة ، لم ينتبهوا لها كثيرا ، فكان يمجد لهم من خلال قصصه بمهارات ابنه سليم كمهندس لا ينافسه بتلك المهارات ، أي شخص آخر ، فكانوا يبتسمون من باب المجاملة و يذكرون صفات طيبة لإبنه من باب المجاملة أو ضرورة سياق الحديث ..

كان هؤلاء قد تواعدوا في المكتب للخروج كلجنة انتدبتها محكمة البداية لفض خصومة بين أخوين في إحدى القرى ، وهم ينتظرون المهندس للخروج للوقوف على مكان الخصومة ..

كان أحد أعضاء اللجنة يسأل الطبيب عن مسألة ، بعدما تم التعارف ، وأحس بأن هناك ما قد يساعدهم على قتل وقت الانتظار . فكما هي عادة المنتظرين ، ينساب الكلام منهم دون تخطيط مسبق ، ولكنه كالماء يسيل مع أي انحدار ، فان لم يجد المنتظرون ما يتحدثون به ، عندها قد تشفع لهم لفافة تبغ أشعلها أحد المنتظرين ، لتتحول الى حديث ، أو صوت طريف من نغمة هاتف خلوي ، فتصبح حديثا وهكذا ..

دخل سليم بوجهه المبتسم ، وطريقته السريعة ، في التخلص من واجب الاعتذار عن تأخره ، والتفت نحو والده ، وحياه تحية ، فهم الآخرون من خلالها أنه يبلغهم بضرورة تجاوز ما قد يكونوا سمعوا منه .. وهب الجميع لينطلقوا الى مكان الكشف ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 02-03-2006, 04:10 PM
matar996 matar996 غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2006
المشاركات: 3
Thumbs up

يوه يوه توني خلصت

(بــس قـــــــــــــــــــــــــــويـــــــــــــــة )

ويعطيك العافية
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 08-03-2006, 03:33 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 13)

لم يكن الحديث عن كرة القدم في الماضي ، له مثل هذا الشأن الذي نشاهده اليوم ، فلو ذهبت الى دائرة حكومية ، ستجد مباراة يوم أمس تحتل مساحة ليست بالقليلة بين أحاديث الموظفين و المراجعين .. ولو ذهبت الى محل لبيع الصحف اليومية ، لوجدت أناسا يشترون الصحف ، ولا يبدو على ملامح وجوههم أنهم مهتمون لا ثقافيا و لا سياسيا ، و لا هم بعمر أولئك الذين يتابعون أخبار الوفيات لكي يقوموا بواجب التعزية !

وحتى في مجالس التعزية ، أو في الجلسات التي تسبق (عزومة ) ، فإن أكثر الأحاديث التي يتم تداولها بين الجالسين ، دون أن تؤدي بهم تلك الأحاديث الى سحبهم لمسائلة أجهزة الأمن التي لا تترك ( عزومة) أو لقاء يضم أكثر من اثنين الا و حضرته ، أو كلفت من يحضره ..

كان يتبارى على الحديث في تلك المجالس ، إما أستاذ رياضة متقاعد ، أو لاعب كرة قدم ( اعتزلت أجياله ) .. وكان أي متحدث يتجنب الخوض في أمور الهيئة العليا لاتحاد كرة القدم ، و يخوض فيما دون ذلك براحته ، و يحاول إدخال كلمات لا يعرف الحضور معناها على وجه التحديد ، ويحلل أي مباراة ، يتذكرها مستخدما بعض الألفاظ الأجنبية أحيانا ..

عندما كان التنافس على المقاعد الجامعية ، كان في أسفل سلم القبول ، مقاعد في كليات التربية الرياضية ، فيلتحق بها من يلتحق ، ثم يعودون ليقفون في ساحات المدارس ليشرفون على حصص وضعت في المناهج الدراسية ، كحشو لا يراعي التوقيت ولا مدى استعداد الطلبة على حضور تلك الحصص ، التي غالبا ما توضع في نهاية اليوم الدراسي ..

وتدور الأيام ، فتنتخب هيئة إدارية لنادي رياضي مأزوم ، فتقرر الهيئة الإدارية التي ترشح معظم أعضاءها لرسم حدود لذاتهم ، في شكل عمل عام .. و يقرروا التحرك من أجل رفد النادي بلاعبين صغار السن ، فيتوجهون لصاحبنا الأستاذ .. ويغدقون عليه بدفقات من المديح والثناء .. وهو يحاول لملمة تقاسيم وجهه ، ليبدو صارما ، وليقول لضيوفه أنكم أحسنتم الاختيار في التوجه لي .

ويدور الحديث ، ويتناوب الوفد الإداري الجاهل بأمور الرياضة ، و يبادر أحد أعضاء الوفد الإداري ، ليبين نفسه بأنه ليس تكميل عدد ولكنه صاحب قرار أيضا .. فيفاجئ الحضور بأنه يطلب من الأستاذ الذي قصدوه ، أن يقوم بتدريب الناشئين في النادي ، وسيكون من طرح الفكرة تلك جاهزا أمام زملاءه ، فيما لو استفسروا عن مبادرته المفاجئة ، فأعد جوابا ، بأنه اقترح ذلك دعما للنادي و أسلوبا أكثر ضمانا لانتظام اللاعبين بالتدريب مع أستاذهم !

لكنه فوجئ بأن أحد زملاءه ، قد زايد عليه ، وقال لماذا الناشئين ، ولما لا يكون الأستاذ مدربا للفريق الأول ؟ . وهكذا فقد تم التعاقد مع مدرب ، كمعظم العقود التي تتم في مجتمعاتنا البسيطة ، دون دراسة وافية ودون شرح كاف ودون توقيع ، ودون السماح باستيضاح ، حيث تطغي عبارات المواددة الفضفاضة ، على روح التعاقد الصحيحة ..

وبعد عدة جولات تدريبية ، للفريق الأول ، والذي كان يتغيب عنها كثير من اللاعبين ، بحجة مطالبتهم بمخصصات الموسم السابق ، أو مطالبتهم بالتحرر من النادي للعب في ناد آخر .. فكان الذين يحضرون حصص التدريب من الكثرة بمكان ، لكن الذين سيخوضون المباريات و الذين سجلوا في سجلات اتحاد كرة القدم ، لم يكونوا يحضروا التدريبات ، بشكل يجعل المدرب و الإدارة يعتقدون أن برامج التدريب وتكوين اللياقة قد اكتملت .. ولكن هذا لم يمنع الإدارة و المدرب بتنظيم مباريات ودية مع فرق أخرى ، و لكن تصنيفها أدنى من تصنيف الفريق التابع للنادي ..

تجمع أعضاء الفريق ، وحضر اللاعبون كلهم ، حتى الذين كانوا يغيبون عن التدريبات ، فكان لديهم اعتقاد بأنهم يتفوقون على كل اللاعبين في كل الفرق ، حتى لو لم يتمرنوا و لم يكونوا لياقة كافية في بداية الموسم الكروي !

صفر حكم المباراة لبدئها ، تحت أعين بضع مئات من المتفرجين ، الذين كانوا فاقدين الحماس ، حتى لحضور تلك المباراة الافتتاحية للفريق ، ولكن كونهم هم من أعضاء النادي وهم من أوصلوا الهيئة الإدارية ، فكان حضورهم من باب رفع العتب ، لا أكثر ..

بعد مرور ربع ساعة ، عن بدء المباراة ، سجل الفريق الخصم هدفا في فريق الأستاذ .. فخرج الأستاذ عن صمته ، و أخذ يصرخ ( كل لاعب مع لاعبه ) .. (هي .. فلان .. مد المكسورة ) ( ويقصد رجل اللاعب الذي يخاطبه ) .. حتى طغى صوت الأستاذ المدرب على صوت كل من في الملعب ، من مشجعين ولاعبين يشتمون بعض عندما لا يوصل أحدهم كرة للآخر ، أو عندما لا يحسن استلام الكرة .. ثم تشجع الجمهور و أخذ يشتم مع الشاتمين ، بعدما جاء الهدف الثاني للفريق الخصم ..

بانت أثر سوء اللياقة على لاعبين الأستاذ ، فأخذوا يسقطون على الأرض ويصرخون من ألم مفتعل بصوت عال كأنهم ذكور جواميس هائجة ، علهم يحصلون على ضربة خطأ .. ولكن الحكم أنذر اثنين منهم .. ثم طرد آخر ..

انتهت المباراة بأربعة أهداف نظيفة ، و ذهب الأستاذ بسيارته الخاصة ، ولم يلتق بأعضاء الإدارة ولا الفريق .. لتوضع تلك الفترة بسجل حياته المهنية كنقطة سوداء !!
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #8  
قديم 19-03-2006, 03:44 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(14)

لم يكن الوحيد الذي يتلذذ في رؤية الآخرين يتضرعون ، أو يبدو عليهم الضعف .. بل ما هو الا نموذج من بين نماذج كثيرة في مجتمعاتنا ، و قد يقول قائل : ومن أين جاءت هذه الصفة المنتشرة بكثرة ..

فقد يسهل رؤية هذا النموذج ، عند موظفي الدولة بكثرة ، فاذا ما أحس الموظف بأن المراجع ، تنتابه حالة من التلهف على إنهاء معاملته بسرعة ، فان الموظف يبادره ، بأن يحضر ورقة من دائرة بعيدة ، أو جهة قد تكون غير مدرجة في سلسلة الطلبات البيروقراطية الكثيرة ، ولكن الموظف لا يريد تفويت الفرصة ، في التمتع برؤية المراجع وهو يترجى و يتوسل ..

وقد تجدها عند خباز في يوم عطلة ، فيرى جمهرة الطالبين لخبزه ، بكثرة فيطلب منهم الاصطفاف بطابور طويل ، ولو تمادوا كثيرا فانه سيطلب منهم عدم الكلام مع غيرهم أو إطفاء سجاير المدخنين منهم ، كيف لا ، فالفرصة قد أتته فلماذا لا يضع يديه على خصريه و يأمرهم بأوامر مختلفة ، أو يحرمهم من الخبز لذاك اليوم ..

وقد تجدها عند سائق تكسي ، في يوم ازدحام للمسافرين في محطات التنقل ، ولكن ليس هناك من السيارات ، ما يكفي لنقلهم الى حيث يريدون .. فيضع نظاراته القاتمة على عينيه ، ويسير بين طوابير الركاب ، فيؤشرون له ، وهو يشير اليهم بحركة كلها كبرياء و عجرفة ، معتذرا عن السفر ، ثم يدور حولهم مرة واثنتين وثلاثة .. كيف لا ، فهذه من الفرص النادرة التي يمارس فيها هواية التلذذ بإيذاء الآخرين ..

وقد تجدها عند عجوز بلغ زوجها العجز قبلها ، فتصرخ به بمناسبة ودون مناسبة ، لتيقنها بعدم إمكانياته لإيذائها ، أو العكس بين رجل ، حل بامرأته عارض مرضي ، فيذيقها شتى أصناف الزجر و الإيذاء النفسي ..

أما نموذجنا الرئيسي ، فهو شرطي المرور الذي تتاح له فرص أكثر من غيره في ممارسة تلك الهواية ، التي يتشابه بها مع النماذج السابقة بكثرة ، ولكن ممارساته ، تفوق غيره بطرافتها ووضوحها في نفس الوقت ..

يقف أحيانا قرب سيارة الشرطة ، ويؤشر للسيارات لتقف بالقرب منه ، ويتفحص عيني السائق وتتجول عيناه داخل سيارته ، فيكتشف أضعف نقطة بطريدته ، كما تكتشف سباع الغاب تلك النقطة في فريستها ، عندما تطاردها .

فيطلب أوراق السائق ، وقد تيقن أن هناك شيء قد ظهر من خلال تعبيرات وجهه ، و شدة لمعان عينيه ، فان أبرز السائق أوراقه وكانت كاملة ، فانه يطلب منه أن يفتح له صندوق السيارة الخلفي ، أو أن يختبر بمعيته جاهزية الأضوية و المساحات ، حتى يهتدي الى نقطة الضعف عنده .. وغالبا ما يكون حزره في مكانه .. حيث علمته تجاربه الطويلة ، أن لا يقوم بتلك الأسئلة و الطلبات ما لم يكن متأكدا من أن الذي أمامه لديه ما ينبئ بوجود ما يبرر المخالفة ..

مع ذلك فاليوم معظم هؤلاء الشرطة ، لديهم من التذهيب ما يجعلهم يتفوقون على من سبقوهم قبل عشرين عاما ، حيث أن الأولين ، كان أحدهم يصر أحد عينيه ، ويتكيء على جانب السيارة ، ويسأل أسئلة كأن السائق الذي تطرح عليه الأسئلة ، أحد خصومه المذنبين في عمل كأن يكون قد طلق أخت الشرطي أو اختلف معه على معاملة إفراز أرض ، فلن يكن من السهل الإفلات من الشرطي ، الا بتوسل كبير أو إرضاءه بشيء ما ..

أما شرطة اليوم فمعظمهم متعلمون ، لا يطالب أحدهم بأكثر من خضوع بسيط وكلمات تبجيل وتوقير و احترام مبالغ فيه ، حتى تسجل تلك النقطة لصالح الشرطي ، فقد يستغل تلك الناحية ، في التوسط في مجال آخر .. فالمصالح متبادلة بين أفراد المجتمع .. و كثيرا ما نرى أناس يوسطون كبار قوم في قرية أو مدينة من أجل الإفراج عن رخصة سوق أو تغيير ( كروكي ) أو مساعدة أحد الممتحنين لنيل رخصة سواقة .. وكلها نوافل تؤدي للتمتع في استغلال وضع الآخرين ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #9  
قديم 29-03-2006, 10:28 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

أبو محمود المقاول

لا ندري من أين جاءت كلمة ( مقاول ) .. ولكنها لا بد أنها اشتقت من الجذر (قول) بفتح الواو .. وقيل للملك عند اليمن ( القيل ) لأن قوله نافذا ، وتقاول فلان مع فلان تفاوض معه على شيء ينفذه له ..

والمقاول في أيامنا هو من ينفذ مهمة إنشائية أو توابعها من متممات الأبنية والطرق و غيرها ، وهناك مقاول ومقاول بالباطن .. أي من ينفذ مقاولة أخذها غيره ، تاركا له بعض هوامش الربح ، كون الأول و هو الرئيسي أقدر على الوصول الى أخذ المقاولات و العطاءات ، من خلال علاقاته الواسعة ، و كون سجله زاخرا في تنفيذ تلك الأعمال ، بعكس مقاول الباطن ، الذي غالبا ما يكون مغمورا .. ويرفع شعارا باستمرار ( أريد أن أعمل ) ..

و يختلف المقاولون في قدرتهم على كسب الأموال ، فمنهم من يتفق مع كاتب صيغة المقاولة ، ويطلع على مناقصات الآخرين ، فيضع سعرا مدروسا ، يحتم إحالة المقاولة عليه . ومنهم من يتفق مع كاتب صيغة المقاولة على أن يهمل بندا رئيسيا في صيغة العطاء ، ثم بعد رسو المقاولة عليه ، يتم استدراك ذلك البند بأسعار تعوض ما تنازل عنه في البنود الأخرى ..

وهناك نوع من المقاولين ، يعرفون من أين يحصلون على مواد خام أرخص من غيرها ، فقد تكون ( ستوكات ) وقد تكون من منشأ غريب ، ولكن العلامة التجارية عليها ، تدل على أنها من منشأ معروف و سعره عالي ..

وهناك قسم من المقاولين يخسر بكثرة ، لأنه ينفذ الخطوة رقم خمسة قبل الخطوة رقم واحد ، وعندما يريد تنفيذ رقم واحد يضطر لهدم وإزالة رقم خمسة ، كأن يقيم الأبواب بقياسات تكون أضيق من أن تتسع لإدخال ماتور تبريد أو تدفئة ، فعندما يكتشف ذلك يضطر لهدم الجدار و إعادة توسعته و تغيير قياسات الأبواب ..

وهناك مقاول يحضر الأجراء خمسة أو ستة عمال ، و يأخذهم للموقع مع وجبات غذائهم ، ويكتشف أنه نسي تحضير الماء لصب الكونكريت أو الإسمنت مثلا .. فيضطر لدفع أجور العمال دون أن ينجزوا شيئا ..

أبو محمود ، لم يكن مهندسا ولا معمارا محترفا ، ولا محاسب جيد ، لكنه اقتحم مجال المقاولات في عينة من الزمن ، كان يتعذر على من يريد أن يبني لنفسه بيتا أن يجد من ينفذه بسرعة ، وحتى ببطء ، فالكل مشغول والكل بيده أعمال تحول دون قدرته على تلبية طلبات العملاء الجدد .. فاكتشف انه بإمكانه أن يتحول لمقاول ، يأخذ من بعض محلات بيع المواد عمولة ، مقابل أن يشتري لعملائه منهم ، و يأخذ من العمال عمولة وحتى من المكاتب الهندسية .. وهي علاقات دارجة في عالم المقاولة ..

كان يصطاد عملاؤه من أساتذة الجامعات الذين فتح الله عليهم في عينة من الوقت باب رزق ، في خضم إنشاء الجامعات الأهلية ، أو بعد سفرهم للخارج ، فلم يكونوا ذوي عهد سابق بالأبنية الفخمة ، ولم يكونوا مصنفين على العائلات البرجوازية .. فتكون عندهم سلوك برجوازي لكن دون جذور برجوازية ، فهم كالفلاحين الذين يغتنوا إثر بيع عقار ، فيعبروا عن غناهم إما بالزواج مرة ثانية أو بالإكثار من الطعام الدسم .. وركوب سيارة فارهة ..

فكان أبو محمود يخدع هؤلاء الأساتذة الجامعيين ، بالتحدث معهم بأنواع الحجر والإكسسوارات ، وهو يعلم مدى جهلهم بتلك الكلمات ، وحذرهم الشديد من السؤال عنها ، حتى لا يصنفهم من يسألوه بأنهم جهلة ..

رأيته وهو في جلسة محاسبة وتحكيم بينه و بين أحد الأساتذة في مكتب أحد المهندسين الأصدقاء .. كان يتعامل مع النصوص بالمشافهة ، وكان الأستاذ الجامعي ، يحس بحرج كبير نتيجة استغفاله بعد التنفيذ .. وقد أدرك أنه كان على درجة من الحمق ، عندما كان يتحدث مع المقاول والمقاول يطاوعه بعد كل تعديل تطلبه زوجة الأستاذ .

فكانت إن رأت مطبخا عند أحد صديقاتها ، تطلب من زوجها أن يضيف مترا زيادة على المخطط ، وإن رأت ( قرميدا ) على أحد البنايات تطلب إضافته ، و إن رأت حجر بناء بشكل ما ، تطلب إضافته .. والمقاول يبتسم ، ويقول معها حق .. وعندما يسأله الزوج الأستاذ عن إمكانية التعديل .. يجيب أبو محمود : كله في حبك يهون ..

لقد كلف كل هذا الجهل ، صاحب البناية ضعف كلفتها الحقيقية ، وكان المهندس يستمع لهما ، ويجد أن أبا محمود بجهله قد تفوق على الأستاذ الجامعي ، و أغلق أمامه المنافذ في تحصيل حقه المفقود ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #10  
قديم 05-04-2006, 11:50 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

قاسم المهرب :

هناك صنفان من العرب يستفيدان من التجزئة ، ويكرهان الوحدة ، الصنف الأول الحكام العرب ، والصنف الثاني المهربون .. ومع ذلك أن هذين الصنفان من الناس هم أكثر من يتكلم بالوحدة العربية ، فصنف الحكام يتكلم بها للاستهلاك الإعلامي المحلي ، والصنف الثاني ، يبرر امتهانه للتهريب كونه لا يؤمن بالحدود بين الأقطار العربية ..

التهريب مهنة مستترة ، لا تكتب ببطاقة الأحوال المدنية ، ولا بجواز السفر ولا يقدم من يمتهنوها أنفسهم على أنهم مهربون .. ولكن الناس ، وليس كل الناس تعلم بحقيقتهم .. فهم يغيبون عدة سنوات بالسجن ، ثم يخرجون ليعاودوا نشاطهم و كأنهم في رهان مستمر مع أنفسهم أو مع حكومات بلادهم ..

قليلون الكلام ، عيونهم حذرة ، لا يعلقون على ما يستمعون اليه من حديث حتى لا يتقفى من يتابع حديثهم أخبارهم فيتضررون من تلك السقطات ..

كرماء ، ولكن كرمهم يخدم مهنتهم الخطيرة .. فيهدون هداياهم و يرفضون أن تسمى بالرشاوى ، بل يدرجوها تحت باب ( رحم الله امرؤ فاد واستفاد ) .. وهي قواعد من أدبيات هؤلاء التي يتناقلوا أخبارها بالمشافهة .. فليس لهم مدارس أو مراجع يستمدون منها معرفتهم ..

قوام علومهم وفنونهم تتأتى من معرفة القصص النادرة ، التي تبلغ عن ذكاء سلفهم أو من سبقوهم في هذا الكار .. وان جلسوا في أمان فيما بينهم ، فانهم يهيمون بأنواع لا تخطر ببال من يجهل عملهم .. فمنهم من يتحدث عن كيفية تضليل دوريات الجمارك ، عندما كان التهريب على الخيل ، فيبعثوا أمامهم أحدهم يحمل خرجا من حشائش أو أوراق ، فيجعل الدورية تتعقبه ، في حين يقوم زملاؤه في تهريب ما اتفقوا عليه ..

ومنهم من يدخل حدود بلغاريا بنمرة سيارة ذهب ، تطلى بلون النمر العادية ، ومنهم من يضع قطع ألماز ثمينة في زيت ( الكوابح ) ومنهم من يبرم قطع العملة التي يريد إخراجها من دولة لأخرى ، ويجدلها بشكل حبل ، ويربط بها أمتعته بعد إضافة بعض الخيوط التي تخفي ما يهربه ..

كان قاسم ، قد شرب كل تلك الفنون منذ الصغر ، وتعرض للضرب والسجن والغرامة ، فدعكته السنين والتجارب ، حتى أصبح أستاذا بكل معنى الكلمة ، فلما تقدم به العمر ، وكان لم يكتف بالتهريب من بلاده للبلاد المجاورة ، بل قادته مغامراته للتهريب بين دول أوروبية ..

كان أحد الذين أشاعوا أجواء التهريب و ثقافته في مناطق واسعة ، وعندما كثرت أعداد المهربين ، تفننوا في تطويع القوانين المعمول بها والتي تعني بأمورهم ، و أطلقوا على أنفسهم اسم ( بحارة ) .. و افتتحوا محلات تجارية ، وأخذوا لها رخصا مهنية ، فيعرضون بضائع لا يهتمون بسوقها نهائيا و يخفون بضائعهم الأصلية ، فأصبحت محلاتهم ملتقى لمن يهوى بضائعهم المخفية ..

نجح قاسم في انتخابات غرفة التجارة لمرتين ، و أصبح وجيها غنيا ، يبتسم باقتصاد ، ويرد على من يغمز بجانبه ، متسائلا عن الثروة الهائلة و الأبنية والعمارات التي لديه ، يرد عليه بعبارة عرف بها وبصوت خافت ( على راسي)
ولا يعلق ، لكن كانت عيناه كل واحدة تحمل تعبيرا يختلف عن الأخرى ، واحدة تقول أنه رجل هادئ تائب مستقيم ، والأخرى تقول : لا بد من أن يأتي يوم و أرد عليك تلك الغمزة غير البريئة .. والوسائل لدى قاسم كثيرة !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م