مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 05-04-2006, 11:50 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

قاسم المهرب :

هناك صنفان من العرب يستفيدان من التجزئة ، ويكرهان الوحدة ، الصنف الأول الحكام العرب ، والصنف الثاني المهربون .. ومع ذلك أن هذين الصنفان من الناس هم أكثر من يتكلم بالوحدة العربية ، فصنف الحكام يتكلم بها للاستهلاك الإعلامي المحلي ، والصنف الثاني ، يبرر امتهانه للتهريب كونه لا يؤمن بالحدود بين الأقطار العربية ..

التهريب مهنة مستترة ، لا تكتب ببطاقة الأحوال المدنية ، ولا بجواز السفر ولا يقدم من يمتهنوها أنفسهم على أنهم مهربون .. ولكن الناس ، وليس كل الناس تعلم بحقيقتهم .. فهم يغيبون عدة سنوات بالسجن ، ثم يخرجون ليعاودوا نشاطهم و كأنهم في رهان مستمر مع أنفسهم أو مع حكومات بلادهم ..

قليلون الكلام ، عيونهم حذرة ، لا يعلقون على ما يستمعون اليه من حديث حتى لا يتقفى من يتابع حديثهم أخبارهم فيتضررون من تلك السقطات ..

كرماء ، ولكن كرمهم يخدم مهنتهم الخطيرة .. فيهدون هداياهم و يرفضون أن تسمى بالرشاوى ، بل يدرجوها تحت باب ( رحم الله امرؤ فاد واستفاد ) .. وهي قواعد من أدبيات هؤلاء التي يتناقلوا أخبارها بالمشافهة .. فليس لهم مدارس أو مراجع يستمدون منها معرفتهم ..

قوام علومهم وفنونهم تتأتى من معرفة القصص النادرة ، التي تبلغ عن ذكاء سلفهم أو من سبقوهم في هذا الكار .. وان جلسوا في أمان فيما بينهم ، فانهم يهيمون بأنواع لا تخطر ببال من يجهل عملهم .. فمنهم من يتحدث عن كيفية تضليل دوريات الجمارك ، عندما كان التهريب على الخيل ، فيبعثوا أمامهم أحدهم يحمل خرجا من حشائش أو أوراق ، فيجعل الدورية تتعقبه ، في حين يقوم زملاؤه في تهريب ما اتفقوا عليه ..

ومنهم من يدخل حدود بلغاريا بنمرة سيارة ذهب ، تطلى بلون النمر العادية ، ومنهم من يضع قطع ألماز ثمينة في زيت ( الكوابح ) ومنهم من يبرم قطع العملة التي يريد إخراجها من دولة لأخرى ، ويجدلها بشكل حبل ، ويربط بها أمتعته بعد إضافة بعض الخيوط التي تخفي ما يهربه ..

كان قاسم ، قد شرب كل تلك الفنون منذ الصغر ، وتعرض للضرب والسجن والغرامة ، فدعكته السنين والتجارب ، حتى أصبح أستاذا بكل معنى الكلمة ، فلما تقدم به العمر ، وكان لم يكتف بالتهريب من بلاده للبلاد المجاورة ، بل قادته مغامراته للتهريب بين دول أوروبية ..

كان أحد الذين أشاعوا أجواء التهريب و ثقافته في مناطق واسعة ، وعندما كثرت أعداد المهربين ، تفننوا في تطويع القوانين المعمول بها والتي تعني بأمورهم ، و أطلقوا على أنفسهم اسم ( بحارة ) .. و افتتحوا محلات تجارية ، وأخذوا لها رخصا مهنية ، فيعرضون بضائع لا يهتمون بسوقها نهائيا و يخفون بضائعهم الأصلية ، فأصبحت محلاتهم ملتقى لمن يهوى بضائعهم المخفية ..

نجح قاسم في انتخابات غرفة التجارة لمرتين ، و أصبح وجيها غنيا ، يبتسم باقتصاد ، ويرد على من يغمز بجانبه ، متسائلا عن الثروة الهائلة و الأبنية والعمارات التي لديه ، يرد عليه بعبارة عرف بها وبصوت خافت ( على راسي)
ولا يعلق ، لكن كانت عيناه كل واحدة تحمل تعبيرا يختلف عن الأخرى ، واحدة تقول أنه رجل هادئ تائب مستقيم ، والأخرى تقول : لا بد من أن يأتي يوم و أرد عليك تلك الغمزة غير البريئة .. والوسائل لدى قاسم كثيرة !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 10-04-2006, 07:18 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

عايد السائق :

لقد كانت مهنة قيادة السيارات ، مهنة كما هي في كثير من المهن المستحدثة على هامش التطور الحضاري ، فمهن تزول و مهن تظهر ، لم يعد الجلالاتي (صانع جلال الدواب ) أو الدليل ( الذي كان يدل المسافرين بالصحراء ) موجودين بنفس القدر الذي كانوا فيه سابقا .. كما أن مهنا مثل قيادة السيارات ، وان ظهرت في القرن الماضي كمهنة لها أهميتها ، أصبحت اليوم من المهارات الضرورية ، أو العادات ، كعادة التدخين .. فلم تعد بنفس القوة التي ظهرت بها وقت بدايات ظهورها ..

وكان من يتقدم بطلب للعمل سواء في القطاع العام أو القطاعات الأخرى ، يلقى قبولا لطلبه .. أما في هذه الأيام ، فإن تلك المهنة لم تعد مصنفة كمهنة بل كوصف لمن يكلف بها من قبل غيره أو حتى هو يكلف نفسه بها ، كضرورة عملية ، فاقتناء ( سيارة أجرة ) يحتم أن يكون على قيادتها شخص يستطيع القيادة ، و أحيانا يكون هذا الشخص مهندسا أو معلما أو عسكريا متقاعدا ، أو أي صفة مهنية أخرى ، لكنه أضاف تلك الصفة المهنية الجديدة على نفسه ، لضرورات المعيشة أو لاستثمار بعض المال في قطاع النقل ..

كان بعض ممتهني تلك المهنة ، لا ينظرون لها على أنها مصدر رزق فقط ، بل كان ينظرون لها كعادة ، أو صفة محببة لهم ، كما هي صفة أو خاصية الطيران عند الطيور ، فكما يتضايق الطير عندما يوضع في قفص ، أو يعيقه ما يعيقه عن الطيران ، فإن سواق السيارات يصبحون بهذا العشق لمهنتهم ، وخصوصا من يقودوا سيارات الأجرة ( التاكسي ) .. وخصوصا من يتقدم بهم العمر قليلا ، فعليهم أن يتصرفوا في حياتهم بكياسة و رزانة تتناسب مع أعمارهم ، لكنهم في مهنتهم ، يشرعنوا الصبابة و دغدغة بعض مشاعرهم التي عليهم أن يدربوها لتكون عاقلة !
كانوا يستمتعون بحديث يستمعون اليه بين عشيقين يركبان مع أحدهم ، أو يسرقون نظرة من المرآة التي يعدلون وضعها ، ليقنصوا نظرة ممن يجلسن في المقعد الخلفي .. وكان يطربهم صوت ضحكة عفوية من فتاة بسن بناتهم ، لكن لا أحد يراجعهم بما يقترفون من ذنوب هم لا يصنفونها كذلك !

كانت مهنتهم تمدهم بثقافة من نوع خاص ، آتية بالمشافهة ، من خلال ما يشاهدون وما يسمعون ، فأحيانا تسرهم مصطلحات بعض المثقفين الذي نقلوهم من مكان لمكان ، فيحاولوا استعمالها في أحاديثهم مع زملائهم أو أسرهم ، وأحيانا يسربون ما رأوا من مشاهد رأوها في مهنتهم .. كل ذلك كان يعطيهم شعورا بالتفوق في شيء ما !

كان عايد من ذلك النوع من السواق ، لم يكن بحاجة ماسة لما يحصل عليه من أجرة ، فكان ينتقي ركابه أو من يطلبوا الركوب معه ، ليشبع فضوله المستتر ، فلم يختلف على قيمة الأجرة مع من يرغب في نقلهم ..

عندما ركب الرجل بجانبه وكان ملثما ، عندما فاوضه بسرعة على الركوب ، فك لثمته ، في حين جلست المرأة التي كانت مع الملثم في المقعد الخلفي ، طرق عايد بأصبعه طرقة خفيفة على المرآة التي ثبتت في وسط السيارة الأمامي العلوي ، عله يفك لغز زبونه .. وقد انتبه الرجل الذي يجلس بجانبه ، ولكنه لم يكن في حالة تبرر اعتراضه ..فشاغله بالطريق الذي احتاج الى ساعة من الزمن حتى يصلوا الى وجهتهم ، حتى لا يجد عايد فرصة كافية في التمعن بمن تجلس بالخلف ..

كان الرجل يتحدث بمواضيع متعددة وغير مترابطة ، وعايد يستمع ويهمهم ، ولم يظهر ثنية الذهب على سنه طيلة حديث الرجل ..

كان عايد يتساءل ، بينه وبين نفسه ، هل تلك المرأة المكحلة ، والتي تضع عصبة زاهية على رأسها ، هل تكون ابنة هذا الرجل ؟ .. ثم يجيب نفسه : لا ، فلو كانت ابنته لما صعدا في سيارة أجرة ، بل لركبا في الحافلات ، حتى لو طال زمن الوصول الى أربعة أضعاف وصول سيارته !

ربما تكون زوجة له ، وكانت (زعلانة) عند أهلها منذ مدة ، وهاهي تعود معه ، فأراد أن يكرمها بالركوب بسيارة ، أو لسرعة الوصول !

كان الطريق الذي سلكه عايد ، لم يشاهد به بالذهاب أو الإياب أي سيارة أخرى ومن أي نوع .. فقد أشار الرجل الى اتباع طريق مختصر ، علمه البدوي بخبراته السابقة .. كان طريقا ضيقا ليس به من الطرقات الا الاسم ، لم يكن ترابيا ، ولم يكن معبدا بشكل جيد ، لكنه كان خاليا من الحفر ، ولم يكن طريقا موحشا وسيئا على أي حال ..

كان يمر من جنب بيوت ، هي كالبيوت ، لكنها لم تكن بتلك الفخامة ، ويتراكض أمامه أطفال ، هم كالأطفال بالشكل ، ولكن ملابسهم و ألوان بشرتهم وملامح العافية ، لا توحي أنهم أطفال كالذين يراهم في المدن ..

لمح عايد بين تلك البيوت المتواضعة ، قصرا فخما ، يصلح أن يكون أحد قصور الأحياء الفخمة ، في العاصمة ، أقطب جبينه ، وتساءل : هل يكون هذا لشخص ، رفض أحدهم أن يعطيه ابنته عندما كان مغمورا ، فأراد أن يقهر من رفضه ليبقى هذا القصر الذي بناه بعد أن اغتنى فجأة ، شاهدا على خطأ قراره!

برز كلب ضئيل الحجم ، ليلحق بسيارة عايد ، لكن دون جدية ، بل كان يحاول أن يعلن عن نفسه بطريقة مجانية أنه سيد تلك البقعة اللا محددة !

نزل الرجل والمرأة قرب القصر .. ولم يحل عايد لغزهما !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 14-04-2006, 05:49 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سويلم الراعي

الرعاة في التاريخ من أقدم المحترفين مهنيا ، ومهنتهم تلك قد أثرت في تكوين الحياة الراهنة ، حيث كانوا يشكلون مجسات لمجتمعاتهم ، ترشدهم للتحرك والتنقل من مكان لمكان ، أقوام في أمكنة ليست لها وتصارعت مع أهلها الأصليين ، فأنهت وجودهم أو انصهرت بهم حتى آل الوضع الاجتماعي لما نحن عليه الآن ..

لم تكن ملكيات الأراضي معترف بها سابقا ، فحيث تستطيع الوصول بقطعان أغنامك أو إبلك ، وتحمي وصولك هذا بقوتك أو قوة جماعتك ( قومك ) .. فيصبح عندها هذا الوضع مقبولا وغير قابل للنقاش ..

حافظ الرعاة العرب على بعض الصفات التي تهم الباحثين ، فهم حذرون بطبعهم قليلو الكلام ، لا يدخلوا مفردات جديدة على لغتهم ، فلذلك كانت اللغة العربية عندهم ، هي الأنقى والأكثر مطابقة لصفاتها . وهذا ما يفسر كيف أن الهيثم بن نصر بن سيار ، والخليل بن أحمد الفراهيدي ، عندما خافوا على التلحين في العربية ، ذهبوا الى البادية ليدونوا المفردات العربية بقواميس لا زالت اليوم هي المراجع التي نعود لها عند الحاجة ..

كما أن الرعاة ، لو أراد أحد أن يصنف مزاجهم هل هو عدواني أو متسامح لرجح الحالة الأولى على الثانية ، إذ لم يكن أحدهم يرغب بوجود من ينافسه على المرعى القليل بنباتاته الكافية و ماء الشرب ..

كما أنهم لا يجيبون من يسألهم بوضوح ، بل يتهربون من الإجابة ، توجسا وحذرا من دوافع السؤال ، فإجاباتهم الاعتيادية ، هي أنهم لا يعلمون جواب السؤال الذي وجه إليهم ، وإن اضطروا للإجابة ، فإن الإجابة لا تسعف السائل ، بل سيحتاج أن يسأل بعد الراعي الأول مجموعة من الرعاة ، فيدرك بمرحلة من المراحل أنه في متاهة ، وكأن كل راعي آخر يشكل خط دفاع ثاني بالنسبة لمن وجه إليه سؤالا سابقا ..

بعد أن تشكلت الدول الحديثة ، وأصبح للأرض من يملكها ، وحمت القوانين الراهنة حقوق المالكين ، كان على الرعاة أن ينتقلوا الى الأراضي الميرية (التي تملكها الدولة ) .. أو عليهم أن يتكيفوا مع الوضع الجديد بنمطية جديدة من التحايل على تلك الأعراف و القوانين ..

ولما كانت الأراضي التي تحيط بالقرى والمدن ، هي أكثر خصوبة من غيرها من الأراضي الأخرى ، فكان على الرعاة والذين هم أصلا يرعون لملاك قد يكونوا من سكان تلك المدن والقرى ..

كانت لغة الرعاة وخبراتهم تتركز في كيفية إدارة قطعانهم ، وكان القطيع وأفراده يشكلون صحبة دائمة للراعي ، فكان يميز كل شاة أو كبش من بين عدة مئات ، ويفتقد الناقص منها ، نتيجة لتلك المعرفة الحثيثة ، وكان يسمي كل واحدة منها و يجد ما يميزها عن غيرها ، فيجد صفة بالقرون خاصة ، ولون الوجه ، وتحدب الأنف الخ ..

كما كان على خبرة كافية ، في تربية (المرياع ) وهو خروف تمت رعايته منذ الصغر ، و يشترط بأن تكون أمه معروفة بجودتها ، فلذلك تمت صياغة المثل القائل ( ابن الخوثة ما يصير مرياع ) .. وقد ينسحب هذا المثل على قيادات المجتمع .. حيث أن ( الخوثة هي الهبلة ) .. كان المرياع و أحيانا بالقطعان الكبيرة تجد مجموعة من ( المراييع ) .. تزين بألوان معظمها من مشتقات اللون الأحمر ، انطلاقا من معرفة أن الحيوانات لا ترى سوى اللون الأحمر ، أما باقي الألوان فيكون ( رمادي ) .. ويضع في رقبة المرياع ، جرسا يسمى (كركاعة ) . ليعلم القطيع عن تحرك المرياع الذي يكون على مقربة كبيرة من الراعي وحماره في المقدمة ..

وكان الراعي على معرفة بتربية الجراء (صغار الكلاب ) .. فكان يخضعه لتجارب قاسية تتناسب مع فداحة المهمة التي يقوم بها .. و أحيانا يقطش أذانه أو يقطع جزءا من ذيله ، وللرعاة مبررات وجيهة في ذلك ..

كان سويلم يضع في خرج حماره ، كل ما يلزم لرحلته التي ، فبعض أرغفة الخبز وقليلا من الشاي والسكر ، وإبريق قاتم اللون وبعض المواد القليلة الأخرى ..

أما اللغة التي كان يستخدمها سويلم لإدارة الحيوانات ، فهي مجموعة من الأصوات ودون كلام مفهوم ، كالتي تستخدمها قبائل بدائية جدا ، قسم يخرج من أسفل الحلق ، وقسم من خلال ضغط الشفتين وأحيانا يستعين ببعض أصابعه لإخراج تحذيره لبعض الشياه المتخلفة أو المتمردة على السير ..

كان سويلم ، يرعى في الأراضي التي لا يزرعها أصحابها ، ويبدأ رعيه من بداية الخريف ، فاذا سقط المطر مبكرا ، قامت الحيوانات باستلال البادرات التي تنمو مبكرا ، وحيث أن قوانين الرعي التي كانت تحمى سابقا من مهنة انقرضت تماما وهي مهنة ( المخضر ) الذي كان يمنع الرعاة من الاقتراب من الأراضي المتروكة من دون زراعة ، حتى تزهر نباتاتها و تحفظ جنس النبات ، فقد تدهورت أصناف نباتات المراعي ، واختفى المستساغ منها ..

يلجأ ملاك قطعان الأغنام لشراء حقول القمح أو الشعير ، التي لا يتأمل أصحابها من مردود يعادل كلف الحصاد .. فيرعى سويلم بها حتى أواخر الصيف وعندما تصبح الأراضي جرداء لا عشب ولا قش ولا غيره .. فتبقى عادة الرعي وكأنها فقط لتدريب الأغنام ، حتى لا تنسى عادة المشي !

وضع سويلم إبريق الشاي المسود على نار .. وأخرج ( مزمارا ) وعزف ألحانا مختلفة ، تكاد تكون ثلاث جمل موسيقية بدائية .. وبقي يعزف ، قرب النافذة لأكثر من ساعة ، وعندما تضايق صاحب مكتب قريب ، بني على منشأة بعيدة في البراري .. دفع الفضول صاحب المكتب للذهاب الى سويلم ..

تدري يا سويلم : ما أقل عقل منك إلا هذا المرياع ، الذي يطرق مستمعا اليك ، ألا تمل من هذا العزف ، والضحك على هذا القطيع الأبله ، وكأنك تتجول به في إقليم ( السافانا ) ..

ضحك سويلم ، واستفسر عن ( السافانا ) .. ثم قال : هذه حياتنا ، أستاذ منذ الأزل ، فليس لنا سبيل غير ذلك ، ناوله الأستاذ لفافة تبغ ، كمصالحة ضمنية وودعه معترفا بوجاهة قول سويلم ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 20-04-2006, 07:13 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سعدي المذيع

كثيرا ما تستمد الشخصيات قوتها من بيئتها .. وقد تكون البيئة ضيقة .. كما في حال من يركب سيارة فارهة أو يجلس خلف مكتب فخم ، أو حتى يلبس ملابس أنيقة ، فان حركاته ستثقل و تتناسب مع ما دخل فيه من حيز جديد !

و أحيانا تكون البيئة معنوية ، كأن يتباهى أحدهم في انتماءه الى عشيرة كبيرة ويظهر ذلك على طريقة كلامه مع ابن عائلة بسيطة ، قد يفوقه علما و خلقا ومكانة اقتصادية واجتماعية ..

وأحيانا ـ كما في حالة بوش ـ فإنه يسير كأنه طاووس يزهو بريشه ، في حين لو تصورنا أنه مدير ناحية في غينيا بيساو ، فلا أحد يضمن له أن ينجو من حمام من ( البصاق ) يوميا ..

في حالة سعدي المذيع ، التي لا تبتعد كثيرا عن تلك القواعد ، كان يزهو كونه ينتمي لأسرة محطة تلفزيونية ، لها الملايين من المشاهدين يوميا ، وكان يتصرف وفق هذا الشعور ..

كان يتنقل بين مواضيع كثيرة ، ففي الأسبوع تشاهده ، ينتقل بين أزمة اليسار العالمي ، الى موضوع شح المياه ، الى انفلونزا الطيور ، الى أسرار المفاعلات النووية ، وكأنه اكتشف ( أقراصا ) من الدواء ، لو بلع أحدها سيتسوعب خمسة كتب في الثانية !

كان يتلذذ في جعل من يقابلهم ، يشعرون بشعور دوني تجاهه ، فكان ينادي ضيوفه بأسمائهم ، دون ألقاب ، وإن كان القصد الظاهر ، هو إضفاء جو حميمي على المقابلة ، لكنني كنت ألاحظ أنه كان يتعمد ذلك ، لملئ داخله بكبرياء من نوع ما ، أو أنه قد تراهن مع صنف من المشاهدين ، قد تكون زوجته أو خليلته أن يوجه إهانة خفية لأكبر رأس ..

كان يستقبل أكثر من ضيف ، ولا يستمع اليهم ، بل كان يعمل كميقاتي ، تقفز من فمه الأسئلة ، وفق تدريب خاص ، فيطرح سؤاله التالي ، حتى لو لم يكن هناك تأسيسا له في الإجابة السابقة .. وينتقل من ضيف الى آخر ، وفق نظرية الأكل و( أنت ماشي ) .. حيث يقضم من سندويشته قضمة ، ويجرع فوقها جرعة من علبة بها مشروب غازي ..

كان يضع رجلا على رجل ، وبيده أوراق السيناريو ، فيتكلم بصوت كأنه أعد للرد على المكالمات الهاتفية ، فلم يكن بنغمة صوته ما يوحي أنه يفهم ما يطرح

بالمقابل كان ضيفاه ، على ما يبدو أنهما حديثي العهد بذلك النوع من المقابلات التلفزيونية ، وقد تكون تلك أول مرة يجلسان بها أمام كاميرا التلفزيون ، ورغم أن ثقافتهما كانت عالية ، إلا أن شخص متوسط الانتباه يمكن أن يلاحظ ظاهرة الجهل والاستسلام لسعدي المذيع ..

ومن يدري علهما ، انشغلا بتحضير فيديو لتسجيل تلك الحلقة ، وقاما بالاتصال بكل معارفهما ليتسمروا حول أجهزة التلفزيون لمراقبة الحدث العظيم ..

ومن يدري ، لعلهما راجعا أكبر قدر ممكن من كتبهما اللاتي ألفاها ، أو قرأاها، خشية أن يواجههما هذا الصنديد سعدي بسؤال محرج !

لم يكن لأحدهما ، أي فكرة عن عمليات التصوير ، داخل الاستوديوهات ، بل كان يعتقد أن التكلم بصوت رزين والتقليل من إشارات اليد ، ومسحة مبتسمة قليلة على محياه ، مع الاهتمام بتناسق ربطة العنق مع القميص والجاكت ، ستجعله صاحب طلة مؤثرة على الجمهور ..

كان طويلا ونحيفا ، وعندما جلس على الكرسي ، ارتفع بنطلونه ليصبح طرفه الأسفل أعلى من كعبه بأكثر من شبر و نصف ، فبانت جواربه التي كف جزء من إحداها وظهر جزء من ساقه النحيل الأبيض الشاحب ..

كان المصور يعمل كقناص ، وبالطبع فلم يثر المصور ما تم من كلام ، بقدر ما كان فرحا بقنص تلك اللقطات ..

لقد ضاع علي ما طرح من موضوع في تلك الحلقة ، فكنت أنا الآخر مشغولا بتوليف مقالتي ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 25-04-2006, 05:35 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

يوسف مدير البنك

ارتبط اسم البنوك بالربا ، ولا تكاد تتزحزح تلك الفكرة من رؤوس الناس ، بل تتعمق وتزداد يوما بعد يوم .. ومع ذلك فان أعداد من يتوجه لتلك البنوك للتعامل معها ، تزداد يوما بعد يوم ..

كان هناك قبل انتشار البنوك بهذا الحجم ، بعض المرابين الذين يعطون الناس أموالا بالمضاعف ، وهي أن يقترض مائة دينار مثلا لمدة عام ، ويسددها للمرابي بعد مرور سنة مائتي دينار .. وذلك بعد ظهور موسم الحصاد .. وكان هناك شكل آخر ، إذ يقوم المرابي بشراء محصول الفلاح أو جزءا منه بسعر بخس ، وذلك قبل الموسم ، ليفك ضيقه !

كانت كل تلك الأمور تتم بسرية كاملة ، وترتبط بوثائق يشهد عليها شهود مخصصين لذلك ، وأحيانا تضمن بواسطة رهن قطعة أرض ، أو ذهب المقترض . كانت سريتها آتية من الخوف من الحرام ثانيا ، وكلام الناس أولا ..

عندما انتشرت البنوك ، وكان انتشارها بإذن من الدولة ، على هيئة بنوك تسليف زراعي ، أو عقاري ، كانت أرحم كثيرا من الشكل الذي يتعامل به المرابون ، وقد ساعد على تقبلها ، الممانعة التي ترافق طلب القرض ، فكان مشوار المعاملة يطول لعدة شهور ، وهي مدة كانت كافية لفضح المتعامل وترويضه ، كما كانت كافية للتبشير بفكرة التعامل مع البنوك ، إذ أن النظرة التي كان ينظر بها للمقترض ، هي مزيج من كونه مارقا ومحظوظا .. ثم طغت الصفة الثانية على الأولى ..

لقد ارتبط الربا بالذاكرة الإنسانية عند المسلمين ، إضافة لكونه أحد الكبائر ، بأنه مشروع لسحق الإنسانية ، فكان المرابي عندما نزل التحريم ، يتفق على مضاعفة قيمة القرض بعد مرور عام ، وان عجز المقترض عن التسديد ، فان القيمة الجديدة ( الضعف) ستتضاعف ، وفق قانون المتواليات الهندسية .. ثم اذا عجز المقترض عن التسديد ، فان المرابي يأخذ زوجته و بناته ويبيعهم بسوق النخاسة ، وقد ورد ذلك بشرائع حمورابي ..

لقد استفاد مؤسسو البنوك و أصحابها ، من تلك النظرة الدفينة للبنوك في جني أرباح ضخمة ، فتكاد نسب الفوائد في بلادنا تزيد سبعة أضعاف عما هي عليه في بلاد الغرب ، وعشرة أضعاف عما هي عليه باليابان ، و أصبح البنك ودخوله ، معبرا لدخول عالم الإفلاس عند المقترض ، عاجلا أم آجلا ..

إذا دخلت الى مكتب يوسف ، فانه قد يقوم لمصافحتك ، و قد لا يرد التحية ، وقد يقوم لعناقك ، وقد يبادر ويطلب لك شرابا ، أو يمد يده فيخرج لك قلما فاخرا أو دفترا أو علاقة مفاتيح كهدية ، أو قد يرمقك بنظرة تبلغك بأنك شخص غير مرغوب فيه .. وكل هذا يتوقف عليك أنت .. من تكون ..

إذا كنت نكرة ، وهذه أول مرة تدخل عند يوسف ، وتكرم عليك بالجلوس ، فإن قدراتك على الحديث ستخونك بكل تأكيد ، حتى لو كان يوسف قد جمع عنك معلومات ، بأنك رجل أعمال ناجح أو مشروع رجل أعمال ناجح ..

سينقطع حديث الثلاثة أو الأربعة رجال الجالسين في حضرة يوسف ، وتتسمر نظراتهم تجاهك ، كأنهم وجهوا أشعة ليزر لفحص داخلك ، وعيونهم كلها فضول فلديهم متسع من الوقت ، ستسعفهم في جعلك مادة لأحاديثهم لفترة ما ..

يدخل مستخدم ، لا تتناسب هيئته مع ديكور مكتب يوسف ، المكون من الستيل والجلد الفاخر ، و جهاز تكييف يتم السيطرة عليه بالريموت ، ويتناول سخان قهوة ويسكب لك رشفة ، ليست حارة بالقدر الكافي ، وتستنتج أن هذه الخطوة الإضافية ، لم تكن من تصاميم الجهات العليا ، بل ابتكرها يوسف من تلقاء نفسه .

يدخل موظف يرتدي بذلة قاتمة و ربطة عنق تتناسب مع القميص و لون البذلة ، وعلى ما يبدو أن معظم الموظفين ، يلبسون مثل ذلك ، فيتكلم كلاما لم يسمعه أحد إلا يوسف ، ويرد عليه يوسف بكلام ، لم يسمعه إلا الموظف ، وكأن مهاراتهم المتراكمة ، أوصلتهم لذلك الامتياز .. حتى التلفونات التي كان يرد عليها يوسف ، لم يكن باستطاعة أحد أن يفهم كلمة واحدة منها !

يتوجه يوسف ليحيي ضيفه الطارئ ، بتحية اقتصادية مقتضبة ، مع ابتسامة بلاستيكية ، تمرن عليها طويلا ، ثم يمد عليه ورقة مكتوب عليها بعض المعلومات ، كان يدرك أن ضيفه لن يرى ما كتب عليها ، لكنها كانت دعوة لضيفه أن ينهض و يقترب من يوسف ، ليتكلم معه بكلمات لم يسمعها إلا هو ..
شكره ضيفه ، حاملا الورقة و خرج ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 04-05-2006, 07:36 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

أبو كفاح المتفرغ

في أواسط القرن الماضي ، انخرط الشباب العربي ، في معظم الأقطار ، بالعمل السياسي أو تأييد العمل السياسي والتعاطف معه ، فانقسموا الى ثلاثة خطوط أيديولوجية ( الإسلامية و اليسارية و القومية ) ..

وعندما تزوج هؤلاء الشباب ، كان من السهل التمييز بين اتجاهات هؤلاء الشباب السياسية من خلال أسماء أبنائهم .. فعند الإسلاميين كنت تلحظ تكرار اسم مصعب و معاذ وعند اليساريين والقوميين ، كنت تلحظ أسماء نضال ، كفاح ، جهاد الخ ..

كان أحدهم إذا سمى ابنه صلاح ، فانه يستحضر القائد صلاح الدين ويتقمص دور أبيه ، فهو لم يكن قادرا على اختيار اسمه الشخصي ، فيقوم بتعويض ذلك بابنه ، أو يهجس بأنه هو أبو النضال أو أبو الجهاد ، وان كانت له بنت بكر ، فقد يسميها عروبة أو تماضر أو روزا ..

كان هؤلاء الشباب الذين بالكاد قد تعرفوا على أطر أيديولوجية ، لم تكتمل لا في عقولهم ولا في النشرات التي كانوا يحصلون عليها بتكتم شديد .. كانوا يريدون التعبير عن ذاتهم بأسماء أولادهم .. و نمط ملابسهم .. وشكل المداخلات التي كانوا يسهمون بها في نقاشاتهم ..

كانوا يتفاخرون بذواتهم ، من خلال ما يحضرون من أنباء عن أقطار يفتتنون بها ، وهي عموما أنباء مبتسرة ، يضيفون عليها إضافات من عندهم ، فيحاولون إقناع من يسمعهم بأن سيارة ( لادا أو موسكوفيتج أو صلاح الدين أو النصر ) هي أقوى و أفضل من ( المرسيدس والشيفورلية و الفولفو ) .. وأن إنتاج الدولة التي يفتنوا بها هي الأولى في العالم من حيث كذا و كذا ..

كان أبو كفاح من ذلك النوع من الناس ، كان من يواظب على حضور الندوات أو المشاركة في مسيرة ، أو يحضر مأتما أو مأدبة أو عرسا إلا أن يلحظ أبا كفاح بين الحضور ..

لم يكن يقرأ ، ولا يحاول كتابة موضوع ، رغم أنه أمضى أكثر من نصف قرن على حاله .. وإن سأل أحدهم ماذا يعمل هذا الرجل ، لسمع إجابة من أحد العارفين بأنه ( متفرغ ) .. فيصمت السائل عند تلك الإجابة ، ولا يحاول الاستزادة بالسؤال ، حتى لا يظهر أمام الآخرين بأنه جاهل !

كان أبو كفاح يكتفي بتعريف نفسه للآخرين بأنه ( أبو كفاح ) .. ف (الروزنامة ) وحدها هي رصيده .. وقد يكون قد استدعي مرة أو اثنتين أو ثلاثة لدائرة أمنية هنا أو هناك .. ورصع بذلك الاستدعاء سجله الحافل بالنضال ..

كان يفترض بالآخرين أنهم يعرفونه ، ويستهجن من يحاول نقاشه بشكل مطول ، كما يستهجن ذلك الحضور الذين يشهدوا تلك المحاولة ..

لقد كان جليسا طيبا ، عنده بعض الطرافة ، و يهب لمحاولة مساعدة من يطلب منه المساعدة ، فله من المعارف في كل بقعة من البلاد ، فهو يواظب لحضور دفن كل الرجال المهمين ، ودائما يلقى من ينقله الى مكان الدفن حتى لو كان بعيدا عن مكان إقامته بسير خمس ساعات في سيارة حديثة ، وطبعا لم يمتلك سيارة ولا يعرف يقود سيارة .

كانت بشاشته و محاولته مساعدة الآخرين ، تشفع له ، عندما تفشل محاولاته وتلك الحالة قد تكررت ، ولم يتضايق من كلفه أو قصده لتلك الخدمة .. كان أصدقاءه متنوعون ، فهو يعرف وزراء و رؤساء وزارات وسفراء ، ومدراء عامين .. ولكنهم كلهم كانوا يتعاملوا معه بروح طيبة ولا تتعدى ذلك ، فيبدو أنهم قد كونوا عنه الصورة التي نراها الآن .. فلا خطورة منه ولا فائدة ضخمة يتم حسابها إذا امتنع أحد عن مساعدته ..

لقد تم توزيع خمسمائة بطاقة في حفل تأبين أبي كفاح ، ولكن الحضور فاق الألفين .. وتبارى خمسة رجال مهمون على إلقاء كلمات بتلك المناسبة ، وكانت كلماتهم سلسة ومؤثرة رغم الكذب الموجود بين ثناياها ..

رحم الله أبا كفاح فقد كان متفرغا و مات متفرغا ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 13-05-2006, 12:12 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

بائع الموز :

كان يوقف عربته ذات الإطارات الثلاثة ، بجانب رصيف شارع عريض ، وكان الشارع لا يتجول به شرطة المرور كثيرا ، ولا تقف سيارات المشترين بكثرة ، و كان عرض الشارع الزائد يسمح له بالوقوف هناك ..

كانت عربته قد فقدت ألوانها ، فقد كان لون الأخشاب الرئيسية التي تحمل جسم العربة خضراء قاتمة ، أما اللون الذي يصبغ باقي الأخشاب فكان أخضرا فاتحا ، لكن طول عمر الصبغ قد قارب أن يوحد بين اللونين ..

كان يجلس على حجر الرصيف الذي يفصل بين الشارع والرصيف العريض الذي كان أصحاب المحال قد اقتطعوا منه مظلات ليعلنوا عن موجودات محلاتهم وكانت معظمها مطاعم تشوي اللحوم أو الشاورما .. فكانت رائحة المشاوي تغري المارين لأخذ القليل منها أو تناولها داخل المحلات .. وقد كانوا ينجحون في تلك الحيلة عندما تم افتتاحها .. لكن تلك الحيل لم تعد تستطيع قنص الزبائن ، فكان من الطبيعي إذا غبت عن الشارع شهرا أو أكثر أن تفاجئ بتحويل بعض تلك المطاعم الى مقهى للإنترنت ، أو محل لبيع الأدوات الكهربائية ..

كان منشغلا في حشو لفافة تبغ ، وكان يضع التبغ بها على مهل ، ولم يكن متحمسا كثيرا للصوت الذي سأله بكم كيلو الموز ؟ أجابه بكلمة واحدة دون أن يرفع رأسه عن عمله في حشو لفافة التبغ .. طلب منه من سأله أن يضع له كيلوين ونصف ريثما يعود من شراء بعض الحاجات ..

وقف عند بائع المشويات ليشتري بعض الساندويشات لأحد أولاده الذين لا يرغبون بصنف طعام العائلة بعض الأحيان .. فكان وراء الساتر المكون من حافظات زجاجية مبردة لعرض بعض أصناف المقبلات .. ثلاثة أشخاص شاب بعمر خمس وعشرين عاما يقف وراء مخروط الشاورما وصبي ابن خمسة عشر عاما ، يلبي طلبات من يصدر إليه بأوامر .. ورجل يرتدي بنطلون أبيض سميك وقميص بلون زهر السفرجل و يضع نظارتين سوداويين في جيب قميصه ويتنقل من مكان لمكان يشرف بنفسه على صناعة رغيف بالشاورما ..

أكمل الرجل صنع رغيفه ، فلفه بورقة رقيقة ، وجاوب رنة جرس جهاز الهاتف في جيبه ودار من وراء الساتر وتوقف عند الشارع قريبا من بائع الموز ومستندا الى سيارة مرسيدس سوداء حديثة الصنع .. كان عيون الصبي الصغير تتبع الرجل وتنظر تارة إليه وتارة الى السيارة .. في حين انشغل الشاب بتقطيع قطع اللحم المشوي .. وكان يبدو على اللحم أنه من بقايا ( شيش ) الأمس ، فلم يكن الشيش مكتملا ، بل كان بقطر لا يزيد عن عشرة سنتيمترات ، ويعتبر المساء هو ذروة البيع لمثل تلك السلع !

دفع ثمن ما اشتراه لصاحب المطعم ، وتوجه لبائع الموز سائلا إياه : هل أكملت وزن الموز الذي طلبته منك ؟

نهض الرجل بتثاقل ووضع لفافة التبغ التي أكمل صنعها ، ووضعها على حافة العربة ، فانفلت جزء منها ولم تكن مشتعلة من مدة .. وضع الأوزان في كفة ، واقتطع بواسطة سكين صدئة خصلة من الموز الذي كان يبدو أنه في مرحلة ما بعد النضج بقليل .. وكان لونه شاحبا مغبرا ، كأنه جمع مما سقط من سيارة في صحراء ..

كان وجه بائع الموز نحاسي صارم بلاستيكي ملامحه كملامح وجوه لاعبي البوكر ، وأما لون بياض عينيه فلم يكن أبيضا لدرجة أن تفرقه عن سواد القزحية .. كان يلبس ملابس ليست لمثل هذه الأيام بل تناسب أشهر الشتاء الباردة ، وكانت ألوان ملابسه قد تحالفت مع لون بشرته ، لتجعله أحد أبطال روايات أجاثا كريستي .. فسترة جلدية سوداء شاحبة ، أكبر من قياسه بنمرتين وبلوزة ثقيلة رمادية ، وقميص أزرق قاتم ، وملابس داخلية تطل بين تلك الملابس بلون أحمر متسخ .. لعله لبسها كلها في عز الشتاء ونسي أن يبدلها .

لم يكن مقتنعا باضطرار المشتري ، لشراء بضاعته الرديئة ، وهذا زاد من صرامته وقسوة نظراته ، فقد قطع هذا المشتري تفقده لحدود زمانه ، ولعله يكون أحد ضحايا الزمان ، فقد يكون زوجا لامرأة لم تنجب ، توفت منذ مدة فباع كل ممتلكاته ، واكتفى بهذه العربة ، وقد يكون يلبس تلك الملابس لأنه يقضي ليله قرب عربته ، فيمكن أن لا يكون له بيت ، أو أنه لم يتزوج أصلا .. وقد يكون أرملا ولكن أولاده لم يطيقوه فاختار هذه المهنة ليكتفي من مضايقاتهم !

لو أردت أن تقدر عمره ، لأعطيته خمس وستين عاما ، ولكن لو تفحصت شعر رأسه الكث لما وجدت شعرة بيضاء واحدة ، فكان شعره أقرب لشعر أهل كولومبيا .. ولا يوحي وضعه أنه يعرف صبغ الرأس .. ولو قلت أنه كان سجينا أفرج عنه قبل مدة من مؤبد .. لكان ظهر على رأسه بعض الشيب !

لم ينتبه لملاحظة المشتري أن يبقي ما فضل من قطع نقدية له .. أو لعله انتبه لكنه أعاد بقية قطع النقود ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م