مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 22-04-2006, 07:30 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(8)

لو سألك أحدهم عن ملحقات الدار ، فإنك ستفاجأ للحظة ، ثم تستحث ذاكرتك ، لتكتشف أن ملحقات الدور لم يعد منها قائما في هذا الوقت أي نموذج ، فستبادر لنفض غبار السنين الطويلة من على رفوف مخططات بسيطة وبدائية لتوابع ، لن تخطر ببال أحد إلا في لحظة تصميمها ..

لم يكن في الدور ، خطوط لإسالة المياه ، لا الواردة ، ولا المصروفة ، فكنت ستجد بئرا حفر في منتصف ساحة الدار ، بعمق يصل أحيانا الى ثمانية أمتار ، ويأخذ شكل حفرته ، ثمرة الكمثرى ، كان يحفره أناس صبورون ، بعد إزالة التربة الطينية ووصولهم الى طبقات الصخر ، فإنهم ينقرون في الصخر بجلد كبير لمدة شهرين أو أكثر ، بواسطة أدوات معدنية ، العمل بها مضني .. ويضعون في أعلى الحفرة بكرة يربط بها حبل مزدوج ، لنزول من يحفر صعوده ، ولاستخراج ما يجمعه من قطع صخر ، فيضعها بقفة ويقوم بشد طرف الحبل حتى تتناول القفة في النهاية زوجته أو ابنته منه .. فترمي محتوياتها في مكان يبعد عدة خطوات عن مكان الحفر .. وستوظف تلك القطع الصخرية في شأن آخر ، ذات يوم ..

كانت الآبار تتسع بعد تشييدها و إغلاق مساماتها الصخرية بواسطة ( الجير) الى حوالي مئة متر مكعب من الماء .. وكان هذا يكفي طيلة العام ، لسقي الحيوانات و القيام باستعمال ماء البئر في شؤون أخرى ، عدا الشرب ..
وكانوا يزيلون ما ترسب به من ( سمالة ) أي الطين كل خمس سنوات ، ويوظفوا ذلك الطين في عمل ( الطوب ) بعد خلطه بالتبن ليشتد و لا يتشقق !

كان يلحق بالبئر (جرن ) وهو قطعة حجر تتسع لأكثر من خمسين لترا من الماء ، توضع في تجويفها الذي نقر ليصبح كماعون ، به فتحة في أحد زواياه السفلى ، لتصريف ما يتبقى من الماء المتسخ ، من عبث الحمام أو الدجاج ، أو ما ينزل من أفواه المجترات التي شربت منه ، وكان أحيانا يوضع به قليل من القطران لشأن يخص الحيوانات ، خصوصا الأغنام و الجمال ..

وكان يرمى بجانبه دلو من كاوتشوك أو سطل قديم ، تثبت بأعلى فتحته الواسعة ، قطعة خشب ليربط بها الحبل ، فكان من يستخرج الماء ، يرمي بالدلو الى أسفل البئر ، ثم يمتحه بثلاث أو أربع أو خمس متحات ، وكان من يراقبه عن بعد يتخيل له أن هذا الماتح ، الذي يضع قدميه منفرجتين على حافتي فتحة البئر ، كأنه يقوم بتمارين سويدية من نوع خاص ، هذا بعد أن يكون قد اطلع على تلك التمارين !

كنت ترى في جوانب ساحة الدار ، جدران أقيمت لا على تعيين ، بل لشأن لحظي ، لحبس صغار الماعز ، أو لعمل ( مرحاض) دون حفرة طبعا ، فالدجاج المتجول بساحة الدار ، كفيل بإزالة أي شيء يلقاه ، ولم تكن موجودات المراحيض قد سجلت في قائمة الممنوعات للدجاج ..

وكنت ترى ، قبة من طين صغيرة يقال لها ( قن ) لحجز صغار الكتاكيت و أمهم ( القرقة ) .. كما أنك لو تجولت ، ستجد حظيرة للأبقار ، أخذت زاوية معينة في ساحة الدار .. وسيصادفك بعض الحجارة المثقوبة الناتئة من حائط قائم ، لربط بعض الجمال أو الخيل ..

وكنت تجد بناء مكعب من مترين تقريبا ، تربض به جرة ( خابية) تتسع لحوالي ربع متر مكعب من ماء الشرب .. ومظللة بسقف يمنع أشعة الشمس . كما ستجد حفرة صغيرة في الأرض ، شيدت لوضع الماء للدجاج المتجول ، والحمام الذي ينزل بين فينة و أخرى لالتقاط رزقه أو لشرب بعض الماء .

كما أنك إذا كنت في غفلة من أمرك ، ستصطدم بحبل غسيل ( سلكي) قد هبط قليلا حتى أصبح بمستوى رأس رجل طويل ، وكان يستخدم لنشر الغسيل ، وحفظ اللحوم الزائدة عن القطط ، فاذا ما زاد بعض اللحم ، و أي لحم ، لا بد لذلك من قصة أخرى ، فإن أهل الدار سيرفعون اللحم ليبقى طازجا بقدر الإمكان في صرة معلقة على حبل .. وكانت القطط المقهورة التي تراقب الصرة ، ولكن لا تطولها ، هي من تكشف لك السر ..

أما مياه الصرف الصحي ، وهي قليلة جدا فكان يحفر لها حفرة بحجم حفرة الأشجار ، بجنب كل غرفة بها زوجين ويستحمون داخلها ، ونادرا ما تمتلئ لشدة التقنين باستخدام المياه ..

كنت تلاحظ مجموعة من ( الطواقي ) وهي حجرات صغيرة تصنع من طين على حافات الأسطح ، يربى فيها الحمام ، وتكون بوضع يصعب على القطط الوصول الى (الزغاليل ) .. التي كانت تربى لتغذية ( النفساء ) أو تهدى للعرسان أو النقهاء من مرض ..

كنت تلاحظ سلما ، مركيا على حافة حائط ، يستخدم للصعود على الأسطح ، والتي كان لا يصعد عليها إلا في المناسبات ، حتى لا تصبح نافذة لماء المطر ، من كثر السير فوقها ، فكانت تتكون من طين وقصب و تبن و بعض الجسور الحديدية أو الخشبية ، وكان يضاف عليها طبقة من الطين ( المملس ) كل عام لإغلاق الشقوق ، التي تتكون بعد موت الأعشاب التي نمت من بين طين السقف والتي جاءت بذورها إما من التراب المستعمل أو التبن الذي خلط مع الطين .

كان الصعود على الأسطح ، يعتبر ظاهرة غير محببة ، لما سيكشف من عورة الجيران ، ولو أن ذلك قد تمت الاحتياطات له ، لكن كانت مناسبات الصعود على الأسطح يعلمها الجيران ، فهي إما لإضافة الطين ، أو لنشر القمح المسلوق ، لعمل البرغل ، أو لنشر اللبن المنطل ( الجميد ) أو ( الكشك ) ..

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 26-04-2006, 07:54 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(9)

يقال أن في اللغة العربية ، عدة ملايين من المفردات ، هناك من يبالغ بعددها فيجعله اثني عشر مليونا ، وهناك من يقول أنها أقل من مليون قليلا ..

مع ذلك فان أهل العتيقة ، لم يكونوا يستعملوا من هذا الكم الكبير ، إلا بضع آلاف من الكلمات ، وأحيانا بضع مئات تستخدم لعدة أشهر ، دون ملل .. ليس لجهل السكان باللغة ، وان كانوا كذلك ، بل لعدم حاجتهم إلا للقيل منها ، تماما كما يحدث في ورشة لتصليح السيارات ، فان الأوامر والأدوات و التشخيص يحصر في قليل من الكلام .. و أحيانا لا يفقهه إلا من يستعمله فقط ..

كانت ( الشمرة ) أي التعبير والطريقة التي تقال بها العبارة المقتضبة ، أبلغ بكثير من استعمال العديد من الكلمات المرصوصة .. فكان إن أراد أحدهم أن يمتدح زرعا في منطقة مر عليها ، يقول ( والله زرع غرب البلدة ) فيصمت قليلا ويضيف ( زرع) .. ويتوقف ، ولكنه يتكئ على ( الزرع) الأخيرة ويعطيها بعض القوة ، مع تجهم في تقاطيع وجهه .. و إن أراد أن يتهكم على قوة رجل ضعيف فيقول ( ما شاء الله عن مروة فلان ) .. فيصمت مبتسما بمكر ويضيف (مروة) .

أما إن أراد أن يأمر أحد أولاده بالنوم .. فيقول ( انغمد ) .. أي ادخل بفراشك كما يدخل السيف بغمده .. وهي إشارة قاسية وكافية لجعل الطفل ينصاع لأوامر أبيه دون تأخير .. و إذا أراد أحد أن يرد صاحب طلب من ذويه (أبناءه أو أقاربه أو معارفه ) فانه يقول له ( تخيب ) .. أي اذهب خائبا فأنا لا أوافقك على طلبك أو رأيك ..

كان لفظ الجلالة ، يحتل مساحة واسعة من كلام أهل العتيقة ، فإن أراد أن يدعو أحدا لتناول الطعام فإنه يقول ( جيرة الله ) .. وإن أراد أن ينبه من في البيت يقول ( يا الله .. يا الله ) .. وان أراد أن يستعجل أحدا فانه يقول (يا الله عاد ) .. وإن رأى طفلا يسقط صاح ( الله .. الله ) .. وإن أراد تقدير كمية ، بالحجم أو العدد أو الثمن يقول ( يا الله تطلع هالقد ) .. و إن أراد أن يرتجي من الله شيئا فيقول ( يا الله ) .. كثيرة هي الجمل المكررة التي يستخدم فيها لفظ الجلالة .. حتى في بداية احتفالات العرس تبتدئ حلقة استهلال الاحتفال ب :

أول الفال ذكر الله لزوم .... نذكر المعتلي قبل الكلام

وعند زفة العريس يقال :

يا الله يا الله يا معبودي يا عالي ... تغفر لنا ذنوب بالجهل عملناها

لقد كانت اللهجة التي يتكلم بها أهل العتيقة موحدة ، فبالرغم من أن جذور أهل القرية تعود الى فلسطين ومصر وليبيا والحجاز وسوريا ، وعائلة واحدة من العراق ، وبعض عائلات من جنوب الأردن ، إلا أنهم اتفقوا على لهجة (جلفة) تتناسب مع قساوة حياتهم .. فكانت الكاف عندهم تلفظ كما هي في (تشيكوسلوفاكيا ) فان سألك أحدهم : كيف حالك ، يقول (تشيف حالك ) .. ويتطيرون ممن يلفظ الكاف كما هي ، ويعتبرونه متكلف أو مائع ..

وبالرغم من محدودية الألفاظ المستعملة ، فإنك تجد بأمثالهم عمق تاريخي بعيد ، ينم عن مخزون متوارث يمتد الى آلاف السنين .. فعندما يأتي المطر مبكرا ، كنت تسمع من يقول ( إلقحت ) .. أي تلقحت الأرض .. وهو اعتقاد سومري قديم بأن السماء ( ذكر ) و الأرض ( أنثى ) .. وها هي قد تم تخصيبها نتيجة المطر المبكر .. أما إذا دخل (فبراير ـ شباط ) وبدت الحيرة على وجوه الفلاحين ودخل بعض اليأس الى نفوسهم ، فإنك ستسمع مثلا ( بمشير يتساوى اللوكسي مع العفير ) ..أي أن الزرع الذي زرع مبكرا (عفير ) والذي زرع متأخرا (لوكسي ) ، سيتساويان في شهر مارس/آذار .. وهو (مشير) بالتقويم الفرعوني ..

ثم تجد في لغتهم ما يدل على معرفة بالجغرافيا ، فاستقرت قصص في مخزون ذاكرتهم الجماعية ، خصوصا عندما يقوموا بالغناء فتسمع أحدهم يغني ( يا بارزا بين السويس وجدة ) .. ثم يحكي حكاية بنمط غنائي ..

أما اختزال اللغة فكنت تلحظه ، عندما يخرج المنادي ( الصيَاح) ، يبلغ الناس عن فقدان شيء .. فيصيح بأعلى صوته ، وكنا نسمعه على بعد خمسة كيلومترات ، لسكون الجو وخلوه من ضجيج .. فيقول ( يا من شاف .. يا من سمع .. يا من علم .. يا من نشق خبر ) ويكمل بتوصيف المفقود .. فيخبر الجميع بعد أن يضعهم في دائرة العقاب من الله .. بأن من رأى أو سمع أو علم من خلال طرف آخر ، أو استخدم عقله في الاستنتاج ( نشق خبر ) عن ذلك المفقود أن يبدي معلوماته ، ثم يذكر التحذير لمن يخفي ذلك !

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 02-05-2006, 01:28 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 10 )

لم يكن هناك حاجة للعلم في تلك القرية ، فما الحاجة الى معلومات لا توظف في مجال ؟ .. هذه كانت فلسفة أهل العتيقة ، والتي كانوا يفصحوا عنها أحيانا ، كانت بعض المهارات التي تنتقل بالمشافهة ، من خلال التجارب أو الأوامر المخلوطة بالضرب ، كفيلة بتعليم الصغار ، ما سيقومون به .. فالعلم ، عادة يأتي محاذيا لعلاقات الإنتاج ، وطالما أن نوعية الإنتاج ، كانت محصورة بنمط معروف جدا وهو الزراعة البعلية ( الديمية ) التي تعتمد على الأمطار .. فلا علوم مطلوبة ، ولا حاجة للتدرب ، طالما أن المدربين والملقنين يقفون على رأس عملهم ..

مع ذلك ، وتحسبا للأخطاء في عد الأشياء التي تحتاج عدا ، كعبوات التبن أو الحبوب ، أو الخراف أو غيرها ، فقد رأى أهل القرية أنه لا بأس من التعلم قليلا ، إذا كانت كلفة التعليم غير عالية ، ووقت التعليم ، لا يؤثر على أوقات الاستفادة من الأطفال .. في حين لو أراد أحدهم أن يكتب سندا أو ( حجة) فكان بالعتيقة عدة أشخاص يحسنون التعامل مع الكتابة من هذا النوع ..

كان أهالي القرية ، يبعثون أطفالهم لكتاتيب يقومون بتعليم أطفالهم القراءة والكتابة وبعض علوم الحساب ، مقابل أن يأخذ الطفل معه رغيفا من الخبز كل صباح ، وبعض البصل يوم الخميس ، وعندما يختم ( جزء عما ) فإن للشيخ المدرس مكافأة تساوي علبة من القمح ( 60 كغم ) .. وإذا أنهى (ربع يس) فإن له ضعفها ، وإن ختم القرآن فله هدية يعرفها الجميع ، وهي تكون جديا ، أو (تنكة) سمن أو شيئا من هذا القبيل ..

كان في العتيقة ثلاثة من الكتاتيب ، أحدهم له شهرة ، ويثق بقدراته أهل البلدة أكثر من الآخرين ، وكان هو مؤذن البلدة ، كان قد تلقى تلك المهارة من والده الذي تلقاها هو الآخر من والده القادم من مصر ..

كان عصبيا جدا ، ولكنه يحفظ من قصص طريفة ، يتندر بها أمام زواره ، وقد كانت تلك القصص مقتطفة من ( كتاب المستطرف للمحلي ) .. والذي كان من بين عدة مئات من كتب ، طبعت في مطبعة بولاق منذ أكثر من قرن ..

كان يحتفظ بمحاليل معينة يستخدمها كحبر للكتابة ، وينشغل أحيانا بمعالجة بعض عيدان القصب ، لصنع أقلام للكتابة بها ، فكان يشطف رأس القصبة بطرف السكين ، ليخط على ألواح من صفيح يحضرها الأطفال معهم .. وكان يضع بجانبه مجموعة من مطارق من الرمان لضرب بها المقصرين ..

كان يتجمع ب (المكتب ) وكان هذا اسم المكان الذي يجري فيه التدريس ، حوالي ستين من الأطفال ، خمسهم أو سدسهم من الإناث ، اللواتي كن يجلسن بالقرب من الشيخ في مكان يفصلهن قليلا عن معشر الأطفال الذكور ، وحتى لو لم يكن على بعد ، فلم يكن هناك مجالا لشيء غير مرغوب فيه ، لقوة حضور الشيخ ورهبته ..

كان يقوم بتدريس كل طفل على حدا ، ويحفظ علة كل طفل و أين وصل ، وأين يخطئ ، وكان يستعين باللوح المعدني الذي في يده ، فيقرأ الطفل الذي يجلس على يمين الشيخ قرب كتفه الأيمن ، مرعوبا خائفا ، من أن يخطئ في تسميع الدرس .. فكان الشيخ يمسك باللوح و يسأل الطفل عن الحروف الخمسة الذي أخذها كدرس أول .. هذه : فيجيب أ وهذه فيجيب ب وهذه فيجيب ت حتى ينتهي ثم يعيد السؤال بترتيب مختلف فيشير الى الجيم ، ومن بعدها التاء ، وإن أخطأ الطفل في تسميع الشيخ قراءة الحروف ، يلكزه في طرف قلم القصب برأسه ، ويعيد عليه ( هذه .. يا ابن الكلب ) .. فإن وثق الشيخ بقدرة الطفل ، أضاف له خمسة حروف أخرى حتى ينتهي ، ويتعود الطفل على قراءة الحروف الأبجدية .

ثم يرتقي التدريس الى ( أبجد هوز .. حطي كلمن الخ ) .. ثم يدخل الى التشكيل مباشرة ، ألف فتحة ألف كسرة ألف ضمة ألف سكون ، وحتى الياء ، ومن بعدها ألف فتحتين ألف كسرتين ، ألف ضمتين الى الياء ..

أما درس الحساب ، فكان يتناول الحساب على الطريقة العثمانية ، فبعد الأعداد وتعلمها ، تلي ذلك الجمع والطرح والضرب والقسمة ، وكانت عمليات الضرب تخضع لميزان خاص ، لمعرفة عملية الضرب إن كانت صحيحة أم خاطئة ..

أما الحالة الجماعية للتدريس ، فكانت تتم بقراءة القرآن من سورة الناس الى سورة الفجر .. يتم قراءتها جماعيا ، حيث يقرأ الشيخ آية أو قسما منها ، والأطفال يردون عليه بصوت بهيج ( الهكم : الهكم ) .. ( التكاثر : التكاثر ) .. كان هذا اللون يتم يوميا قبل انصراف التلاميذ ..

أما المتقدمين ، فإنه يفرد لهم وقت خاص على مسمع البقية ، لكن دون تدخل غيرهم في الدرس .. فإن أنهى أحدهم ( ربع يس ) .. يجري له زفة الى مقام ولي ، وهو يلبس ثوبا أبيضا و عباءة مقصبة ، ويحمله ولد أكبر سنا على أكتافه ، ثم يمر به على بيت والده ، فيأخذ بشارة .. وعند الختمة الكبرى ، حيث يتخرج الطفل .. يكون الاحتفال أكبر ، وطبعا سيكون عمر الولد وقتها ، حوالي الخمس عشرة عاما ..

بالمقابل ، كان هناك مدرسة حكومية بها للصف الرابع ، ينظر لها المواطنون نظرة رهبة ، ولا يبعثون أبناءهم لها .. لأنهم إن فعلوا ذلك ، فعليهم أن يكملوا المشوار باستئجار غرفة لهم في مدينة قريبة تحتاج على ظهر الحمار للوصول لها حوالي أربع ساعات ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 09-05-2006, 03:57 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(10)

لاحظ أحد الأطباء الذين كانوا يشرفون على الحالة الصحية في سجن سالسبوري بروديسيا (زمبابوي الآن ) ..أن كلبا كان يركض في الساحات الشاسعة خلف السجن ، ويقوم بشم النبات هذا ويتركه ، ويشم ذاك النبات ويتركه ، والطبيب يراقبه من شرفة سكنه ، حتى توقف الكلب عند نبتة وتناول منها عدة قضمات ، وبعدها بقليل أفرغ ما في بطنه . فهرع الطبيب الى النبتة وأخذ منها قطعة وفحصها ، فإذا بها بعض المواد المقيئة .

لا تستطيع حيوانات البراري إذا ألم بها المرض ، أن تذهب لعيادة طبيب بيطري وتشتكي له من صداع أو ألم في الكبد ، فقد زودها الله بتلك الخاصية ، لتبحث عن علاجها بين نباتات الطبيعة ..

بالعتيقة ، كما في غيرها من القرى القديمة ، لم يكن هناك عيادات طبية ، ولم يكن هناك أطباء في كل المنطقة ، فاللواء كله لم يكن به إلا طبيب واحد من أصل إيراني ، ومن يدري فقد لا يكون طبيبا ، فلم تكن هناك جهات وقوانين تقرر إن كان هذا قد نال شهادة الطب أو أنه أهل لمزاولة تلك المهنة ..

لم يكن أحد يعير اهتماما بالمريض ، فالمرض والموت أكثر أصدقاء أهل القرية غير المرغوب بهم زيارة لتلك القرية . فإن مرض أحدهم وكان موكل إليه مهمة الحراثة ، فإنهم لا يمنحونه فرصة كبيرة للاستراحة ، أو حتى أن يعبر عن مرضه ، ولو بالتأوه .. ويكون هو على علم بتلك المشاعر ووجاهتها ، فإن تأخر عن أداء عمله ، فإن عليه أن يبذل جهدا مضاعفا فيما بعد لإنجازه ، فقد عرف أن هذه هي حصته من الواجبات ..

كانوا يفقدوه إذا ساءت ظروفه كثيرا ، بقليل من اللبن والثوم ، و أحيانا يعطوه بعض البصل مع الطعام كحظوة إضافية ، عله يخف ويقوم الى عمله بوقت أبكر ، أو يحضرون له عجوزا ، تحتفظ ببعض المهارات وبعض أصناف أدوية مثل ( السنامكة ، والمروحة ، والعنزروت وغيرها ) .. كانت وهي قادمة تصلك روائح تلك المواد النفاثة قبل وصولها لتنبئ عن قدومها ، دون أن تراها .

كانت تستخدم تلك المواد ، فتضبط معها من بين كل عشرين حالة ، حالة تمدها ببعض الشهرة لحين أن تضبط حالة أخرى ، كانت لا تتكلم كثيرا ، ليفضحها جهلها في تفسير ما يلم بالمريض من حالة ، حتى لو كان سرطان الدم ، فإنها تتمتم ببعض الكلام غير المفهوم ، محاولة أن تبقي على حضورها في ذاكرة أهل البلدة لفترة طويلة ..

ولم يكن لدى أهل القرية خيارات متعددة ، للقبول بتلك العجوز أو رفضها ، بل بالعكس ، ما أن يقال لهم عن وصفة ، فيهبوا إن ساءت الحالة لتنفيذها ، فإن أشار عليهم أحد بوضع لوح صبار مشوي على رقبة أو ظهر المريض ، فإنهم يقوموا بالسفر لأقرب قرية بها تلك النبتة فيحضروها ..

وإن قال أحدهم أن ( كاسات الهواء ) هي الحل ، سرعان ما يحضروا مثل تلك الكؤوس وهي أكواب زجاجية ذات مصنعية رديئة ، لها فتحة مستديرة ، ثم تنبعج لجهة الأسفل لتكون أكثر اتساعا ، فيحرقون بها ورقة أو خرقة قماش ويضعونها على أماكن في جسم المريض فيتضايق من الحرارة ، فتنتفخ أجزاء جلده نحو داخل ( الكأس) .. ومن حوله يطمئنوه بأن الفرج قريب ..

و أحيانا كان أحدهم يقوم بكي نفسه ، للخلاص من ألم المفاصل ، فيضع على مكان الألم قطعة خاصة من عشب جاف يقال لها ( قدحة) ثم يضع في بطن تلك العشبة ، حبة حمص ، ويولع بها ، وتراه يخرج صوتا كأنه ( زغرودة ) لكن باتجاه معاكس ( للداخل ) وذلك من شدة الألم .. حتى تطق حبة الحمص ، فيعرف عندها بأنه قد أتم عمليته بنجاح .. كان بين أثر الكي والآخر في جسمه لا يزيد مسافته عن ثلاثة أصابع .. وبعد يومين يخرج من جسمه صددا ، فيعتقد أن الألم قد سحب مع هذه الأوساخ ، ولم يدر بخلده وخلد من كان يتعاطى تلك الطريقة ، بأن الأثر الفيزيائي لإحداث الالتهاب هو ما فعل ذلك !

و أحيانا يحضرون عجوزا ، تتمتم ببعض الكلام ، لو راقبه أي عاقل ، لما وجد به أي حكمة ، فكانت تقول ( حوطتك بالله .. والنايمين تحت الشجرة .. لا يأكلون .. ولا يشربون .. عين الولد فيها وتد .. عين المرا بيها (...) ) .. و تتثآئب وتتكلم وتأتي بكلام شبيه بالأول معددة الرجل والبنت الخ .. والغريب أن هناك بعض الحالات كانت تشفى من هذا الفعل ..

لقد اطلعت ذات يوم على بعض كتب الطب الهندي القديمة ، وهم من قسموا طبقات الجلد الى ثلاثة أقسام بعكس ما هو معروف ( البشرة و الأدمة ) .. فقد أضاف أطباء الهند طبقة ثالثة ، هي التي اذا اخترقت هزل الجسم ، وفعل المرض فعله ، وان تحصنت وصمدت صمد الجسم ، لقد قرأت ذلك قبل أكثر من خمس وثلاثين عاما ، ولكنني عندما أرى ما يحدث لإنسان عندما يواجهه صاحبه بملاحظة ، عن لون وجهه أو لون نصفي الدائرتين المحيطتين بعينيه ، فإنه سرعان ما يمرض وتبدأ جولة بحثه في المختبرات وعيادات الأطباء ، عندها أدرك أن الإيحاء له مفعول ضخم على الحالة الصحية ..

فتمتمة العجوز وكلامها الغريب ، ما هو إلا نمط من الإيحاء .. كما أن علاج الثآليل ( جمع ثؤلل ) .. كان بوضع حبة شعير في باذنجانة ورميها في ( مزبلة) فإن نبتت حبة الشعير .. انقطع الثالول وزال .. وقد لمست عدة حالات ، قد زالت عن طريق تلك الوصفة الغريبة .. بمعنى آخر لقد قام الجسم الموحى اليه بتحشيد طاقاته الكامنة و تعاون مع من يقوم بالايحاء للتخلص مما هو فيه .

لقد كان أهل العتيقة الذين تشربوا كل معارفهم الطبية بالمشافهة من جيل لآخر ، والذين كانوا يقدمون على تناول نباتات البراري أو الاحتكاك بها ( على طريقة كلب سجن سالسوري) .. مع تلك الآلام والتعاويذ التي يتلقوها خلال مراحل العلاج من كي و تشطيب للجسم .. تلهيهم عن المرض نفسه .. فكان أقصى ما يطمحون اليه ، هو الابتعاد عن الانقراض .. فقد ثبت عدد سكان العتيقة لمدة سبع وعشرين سنة دون زيادة .. بالرغم من أن أحدا لم يهاجر منها ..

وقد تكون تلك الحكمة ، هي لإحداث التوازن بين كمية الغذاء المتوفر ، وعدد السكان ، فبالرغم من أن مساحة أراضي القرية كانت 18 ألف هكتار ، فكانت بالكاد توفر للمتبقين الغذاء ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 18-05-2006, 06:23 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 11 )

لم تكن في العتيقة طبقات .. بل كاد أن يكون الناس قد تكاثروا بطريقة التكاثر الخضري عند النباتات ، قد تكونوا من عقل ( بضم العين وفتح القاف ) .. غرست في بيئة متشابهة .. فكانت أشكالهم متقاربة رغم أن صبغة ألوانهم تختلف بعض الشيء من واحد لآخر .. فلو صادفت أحدهم بالصين أو بريطانيا ، لعرفت أنه من العتيقة ..

كانت خطوط ملامح شخوصهم تتكون من خلال قسوة ظروفهم ، فتقرأ ما في وجوههم وتردها لمنشأها دون عناء ..قد يكون للغذاء دور ، فاللحم البلدي يعرف أنه كذلك ، لنمط الغذاء الذي يتناوله الخروف البلدي .. فيسهل تمييزه عند من يأكله عن الخروف الروماني أو النيوزلندي ، ويصر من يأكل الخروف البلدي على أنه أفضل من المستورد ، رغم افتقار مراعينا عن مراعي رومانيا او بلغاريا أو غيرها .. ولكن حتى النكهات على ما يبدو ترتبط بالذاكرة ..

أحيانا يلجأ خبراء الإجرام باعتماد حدقة العين لجثة مقتول للتعرف على قاتله ، وقد تكون حدقة الأحياء من البشر تدلل على منشأهم .. فقد تكون مصادفة أفعى في فراش شخص تترك أثرا على شكل حدقته ، وقد تكون دهشة فلاح علق آمالا على حقله إثر موسم أمطار ممتاز ، ولكنه عندما زاره متفقدا قبل الحصاد رأى أن سنابله فارغة ، فبقي مندهشا وتأثرت حدقته بذلك الاندهاش ، وقد يصادف عدة خرافا قد مزقتها الذئاب ، فأضيفت بصمة جديدة على ملامح وجهه ، فأصبحت وجوه أهل العتيقة كأنها شهادات ميلاد يقرأها من عرفهم في وجوههم رغم اختلاف شكل الأنف أو عرض الجبهة أو لون البشرة .. فيقر أن فلانا من أهل العتيقة ..

هناك الكثير من المسائل التي ينظر إليها من لا يعرفها تماما ، على أنها متشابهة ، كنظرنا لأهل الصين مثلا ، أو نظرهم لنا ، وهنا يصبح تضليل وخداع لمن يريد أن يحدد المنطقة ، فيصعب علينا مثلا معرفة أفراد أهل الكمرون عن ساحل العاج ، ولكن يمكن لأهل أي قرية أو حتى عشيرة أن يتعرفوا على بعض من خلال حاسة خفية ، فقد تجد اتصال الحاجبين فوق العينين هو ما يميز أفراد أسرة عن غيرها ، أو تجد التأتأة في بداية الحديث هي ما يرد فردا لمجموعة ، هناك ملايين العوامل التي تجعل الفرد أن يتخذ قراره بسرعة ، كما يفعل حكم مباراة كرة القدم .. أو كما يفعل أفراد طائفة نحل أو نمل ، رغم أن الإنسان العادي لا يستطيع تمييز ذلك وهو أرقى من الحشرات بالطبع !
كما أن المهارات المتكررة لأي مجموعة ، تساعد في صبغها بصبغة خاصة ، فعندما تتكرر واجبات المواطن اليومية ، وتتكرر عند كل المواطنين فإنها تضيف إليهم سمة معينة ، فسكان الجبال غير سكان السهول ، بطبيعة مشيهم وطبيعة حذرهم وانحناء ظهورهم نتيجة التضاريس ، وسرعة استجابتهم للعامل الخارجي ، كل ذلك يعطيهم لونا خاصا بهم ، فلنتصور أن فريقا مكون من أفراد مختلفين قد ذهب للبحث عن الكمأة في الأرض ، إن من يتفوق في سرعة العثور ، هو من تكررت عنده تلك المهارات .. تماما كما يستطيع الرياضيون أن يميزوا أسلوب لعب البرازيليين لكرة القدم ويميزوه عن الأسلوب الأرجنتيني أو الإنجليزي ، رغم أن اللاعب الحالي ، لا يمت وراثيا ل ( بيليه ) أو (زيكو) بأي صلة ..

كان أهل القرى المجاورة ، وحتى المدن ، يستطيعون تمييز أفراد أهل العتيقة بسهولة ، لقد حصرتهم مهاراتهم وطبائع علاقاتهم مع محيطهم واللغة التي يستخدمونها في التعبير عما يقومون به ، بحيث كونت شخصيتهم الجماعية .

كان مأكلهم متشابها ، فهو يعتمد بالدرجة الأولى على الحبوب و منتجات الألبان و وبعض اللحوم والبيض والدجاج ، فيصنعون من القمح كل أصناف الطعام الرئيسية ، خبز وفطائر و طبيخ سميدة وطبيخ برغل و أذان الشائب و كبة وزقاريط و مقطعة وعصيدة ، وكلها منتجات من القمح ، مع إضافات بسيطة جدا بين واحدة و أخرى .. لم تكن الخضراوات معروفة .

كانوا لا يركزون على وجبة الغداء ، بل على العشاء ، فان تناولوا على الغداء بعض اللبن الرائب مع البيض أو دبس فكان هذا يكفي ، أما في المساء فكانوا يطبخون ( جريش البرغل أو السميد ) .. حيث يضعون قدرا من النحاس وبه ماءا ، وملحا و قمحا مجروشا ، قد يكون سلق في مرحلة سابقة وتم تنشيفه ، فصار يسمى ( برغل ) .. أو أنه لم يتم سلقه فيصبح ( سميدا ) .. ويضعونه على فوهة التنور ، ويتركونه مدة ساعة أو أكثر حتى ينضج و يصبح قوامه متماسكا ، فلا يعود يظهر منه ليونة نتيجة لتشرب الماء .. ويصبونه في قصعة واسعة ، وقد يضيفون عليه بعض (القفرة ) .. وهي إما من سمن الغنم أو البقر أو زيت زيتون ، مع قليل من البصل ويصبح اسم (الأكلة ) مختلفا .. أو يضيفون عليه اللبن المطبوخ وحده فتحمل الأكلة اسما جديدا ، أو يضعون فوقه فيما ندر إلا في الولائم والعزائم و قرى الأعراس اللحم , وعندها يصبح الأكل باسم جديد وهكذا ..

كانت كل الناس تأكل نفس الأكل ، ولم يكن هناك من يبيع اللبن أو يبيع السمن ، وكان الناس يرسلون اللبن واللحم والأكل لجيرانهم ، حتى لو عرفوا أنهم قد عملوا شبيها له ، ولم يعتذر من يرسل إليهم أنهم قد طبخوا نفس الطعام بل يقبلوه من جيرانهم ، ولا يعيدوا لهم الماعون فارغا ، فإنهم يعيدونه في اليوم الثاني مليئا ، بصنف طعام ، قد يكون نفسه ..

الفقراء من الناس ، لم يكن سهلا تمييزهم عن غيرهم ، فقد كان الناس يعطوهم قطعة من أرض ليزرعونها ، أو يعطونهم مجموعة من الأغنام ليستفيدون من لبنها ( منوحة ) .. لكن تبقى باسم أصحابها .. وعندما يستخرج الناس زكاة حبوبهم وهي ( العشر ) يعطون هؤلاء الفقراء منها ، ويتم إعطاء الأولوية للنساء الأرامل من الأقارب ، ومن ثم الجار الفقير ..

كان الفقير يأكل نفس أكل الميسور ، وكان يلبس نفس ملابس الميسور ، وكان يسكن في أمكنة مشابهة للتي يسكن فيها الميسور .. لكن تجد أنه إذا كان للميسور ثوبان ، فان الفقير ثوبا واحدا ، عندما يتسخ يغسله ويتوارى ريثما يجف ، وإن بيوت الفقراء تقل درجة في صبة أرضيتها ، أو شكل الباب إن كان محيطا بإطاره بعض الحجارة المنحوتة عند الموسر ، فإنها تكون من طين عند الفقير ، وهكذا تكاد الطبقية مفقودة في العتيقة ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 06-06-2006, 05:24 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 12 )

أحيانا يتطير أحدنا إذا نظر أحدهم إلى زوجته ، ويزداد تطيرا إذا ضحك لها ، وممكن أن يشهر أحدنا السلاح في وجه من يلمس يد زوجته ، لكن كل هذا التشدد يختفي و يتكيف في غرفة العمليات في مستشفى ، فقد يلمس الطبيب يدها أو حتى مناطق أكثر حرجا من يديها ، فلم يعد شعور الغيرة هو السائد ، بل شعور القلق على صحة تلك الزوجة ..

هذا يدفعنا الى التطلع لمنظومة الثوابت و المتغيرات ، والمحظور والمباح ، فلو صدف أحدنا أحد أبناءه يفتح التلفزيون على قناة يتم فيها تزاوج الحيوانات البرية ، لاستحى الولد وغاب عن ناظري والده ، ولو كانت المتفرجة البنت أو الزوجة ، لوضعت تلك المسألة في قوالب ظنون كثيرة ..

نحن نتكلم في السنة السادسة من القرن الحادي والعشرين ، وقد لمسنا تطور هائل في مشاعرنا وتسامحنا المجبر على تقبل كل ما جرى حولنا من مثاقفة إعلامية ، لا تستأذن في مشاغلة أجهزة حواسنا .. ومع ذلك لا زلنا نستخدم ، نفس المسطرة القديمة التي تقاس عليها ضوابط السلوك وتتأسس على تدريجها أصول القاعدة الخلقية ..

لكن لو عدنا أربعين أو خمسين سنة للوراء ، وحاكمنا المشاهد التي تعني ما تمت الإشارة إليه ، لوجدنا أنفسنا أمام ظواهر تحتاج الوقوف من أجل الفهم ، وإعادة التعبير عما يترتب على ضوء فهمها ..

كانت الصبايا ، تلحق بقطيع أبقار القرية (العجَال) بفتح العين والجيم المشددة ، وذلك لجمع روث ( شطاط) الأبقار ، من أجل استخدامه للوقيد ، ولم تكن تلك المهمة ترفيهية ، بل كانت مهمة وظيفية تناط بتلك الفتيات .. فكانت الفتاة منهن تؤشر على بقرة لتنال ما تبرزه من روث ، ولا يجوز للأخريات التعدي على اختيارها .. فهذا عرف (بضم العين) ابتدعته تلك الفتيات لتمضية وقتهن دون خناق ..

كانت إحداهن تكون قريبة من أعضاء الحيوان (الأنثى) وكيفية إتمام تلك العملية الأيضية ( الحياتية) .. بل قد يصادفهن بالقرب منهن ، حالات من مغازلة كلاب أو حمير أو أي صنف من الحيوانات التي كانت تشارك الناس سكناها و ساحات قريتها ، بل والأكثر ، كان قد يتم ركوب تلك الحيوانات ، ذكورها على إناثها ، أمام إناث البشر ، وقد يكون على مقربتهن مجموعة من الشباب الذين يحتالون بإيجاد سبب يجعلهم قريبين من البنات ..

لم تكن تلك المناظر تسبب حرجا ، فقد كانت تتم أثناء ربط الحمير أمام المطاحن ، وغالبا ما كانت النساء هن من يرتادن المطاحن ، أو قد يكون في ساحة الدار أو في الشوارع ..

وقد كان يأتي للقرية ، ناس معهم فحول من الخيل أو الحمير الضخمة ، يضعون على رؤوسها ريش نعام ويزينوها ، ليلقحوا إناث الخيل ، أمام مرأى الجميع ، ونادرا ما كان يتوقف أحد عند ذلك ، أو يزجر امرأة أو فتاة عن مراقبة ذلك ، وإن كن هن لا يراقبن ولا يحتجن الى زجر ..

لقد كانت تلك العمليات لو أخضعناها لأعيننا هذه الأيام ، لوجدناها أكثر فحشا مما يراقبه أولادنا في التلفزيون أو الإنترنت .. لكن ذلك لم يكن يتعدى المثال الذي ضربناه في غرفة العمليات بأول كلامنا .. فلم يكن له ذلك الأثر الضار ، بل كان طبيعيا مثله مثل التنفس و الشرب و الأكل ..

كان الشباب ، يراقبوا من صبا قلب أحدهم نحوها من الفتيات ، فيسير على مقربة منها ، فإن كانت ذاهبة الى بئر ماء ، تحجج في طلب الماء للشرب ليسمعها كلمة شكر مشفرة ، علها تفك تشفيرها ، بمساعدة من معها من فتيات الحي ، فلم تكن الفتيات يمشين مفردات ، بل جماعات وتحت رؤى الرادار العام للقرية ..

وإن ظهر جزء من رقبة الفتاة ، كان أقرب رجل من الحي مخولا بأن يزجرها أو حتى يضربها ، وكان سيلقى الشكر من ذويها ، حتى لو لم يكن على صلة قربى بها .. فالكل يحرس قانون الحياة .. ومن يتجاوزه من الذكور يصبح (هامل) ومن تتجاوزه من الفتيات أو النساء يقال لها ( هاملة ) ..

لم يكن هناك من يجازف ، ليصنفه الناس ضمن هذا التصنيف ، فان فعل فلا أحد يزوجه من طرفه بنتا ، ولا يتقرب للزواج من البنات التي يخصنه ، والبنت مجازفتها أكثر خطورة .. فلذلك الكل يحرس القيم ، ضمن رؤية تتضح من قراءة المصير ..

يقال أن فيض الطاقة عند الشباب ، هو ما يدفعهم لتصريف هذا الفيض في جوانب قد لا تتفق مع القاعدة الخلقية السائدة ، وهي مسألة تتعلق بالطبيعة أكثر من تعلقها بالانضباط الخلقي أو حتى الديني .. فلذلك قال الشاعر أبو العتاهية :

إن الشباب و الفراغ والجدة .... مفسدة للمرء أي مفسدة

لقد أدرك أهل العتيقة بماضيهم العميق ، أو بفطرتهم ، أو بضغط الحياة أن الفراغ ، سيوفر بعض الفائض من الطاقة التي لا يضمن أحد في أي اتجاه ستصرف ، فكان أكثر ما يؤرقهم هو أن يروا شابا بلا عمل ، فإن ذلك سيشغل خيالهم في اصطناع أسوأ الصور لهذا الشاب .. ويقوموا بسؤال ذويه كل يوم هل عمل فلان ؟

ومن الطبيعي أن تثير حالات البطالة ، تساؤلات أهل القرية ، أما الجدة وهي اليسر في المال ، وهي العنصر الثالث من عناصر انحراف الشباب ، فلم تكن متوفرة في حينه !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م