مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 20-05-2006, 05:13 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

عاطف الحداد

تكون فرص ثبات أحد الحرفيين بمهنته ، مرهونة بمجموعة من العوامل ، فمن القدرة على إتقان عمله بمهارة ، الى بشاشة خلقته وحسن معاملته لمن يتعامل معه ، الى الصدق بمواعيد إنجاز العمل ، الى الاكتفاء بهامش ربح كريم لكنه ليس فاحش ، الى حسن نوعية المواد الخام المستعملة في صنعته ، الى حسن سلوكه إذا دخل بيوت من يتعامل معه وغض بصره ، الى صبره على مضطر في تأخير ما عليه ، الى متابعة عمله إذا ما احتاجه العميل لصيانتها ، وفوق كل ذلك حسن السوق ..

كان عاطف الحداد ، لا يحتوي من كل تلك الشمائل الطيبة إلا القيل ، فإن طلبت منه أن يصنع لك نافذة مربعة طول ضلع مربعها مترا ، فلن تجد أي ضلع من الأضلاع الأربعة بطول متر ، بل سيكون كل ضلع زائدا جزء من سنتيمتر أو ناقصا جزء من سنتيمتر ، ومع ذلك لن يتساوى أي ضلعين بالمربع ..

كان طوله يقل عن المترين بنصف شبر ، وشعره منكوثا ، ويكاد كل كتف من كتفيه أن يكون على استقامة الآخر ، ليحتضنان رأسا مائلا للأمام ، و لحية باستمرار كأنها حلقت قبل خمسة أيام ، فلم يذكر أحد أن صادفه باليوم الأول للحلاقة ، أو أنه يحلقها بأداة حلق الرأس ، فتبدو كذلك ..

كان مطاردا من عشرات الزبائن يوميا ، فكان جيرانه يسمعون كل ربع ساعة على الأقل من يصرخ ( عاطف .. عاطف ) .. أو يسمعون على الرصيف ، جدالا بين عاطف و أحد الزبائن .. كان الزبون يذكر فهرس التواريخ التي وعده عاطف لإنجاز ما طلب منه ..

أما عاطف ، والذي يطلب من زبونه التحلي بالصبر ، فإنه كان يتكلم بنبرة حادة مبحوحة كمن يتكلم من خلف ورقة ( نايلون) .. كان يشرق كلمتين من كل جملة لا تقل عن خمس كلمات ، وكان وهو يتكلم أحيانا تظهر الطبقة العليا من لحم أسنانه ، كان لا ينظر الى من يتكلم معه ، بل كان ينظر الى (لا مكان ) .. ويطالب من أحد الصناع الذين تحت إمرته أن ينفذوا له طلبا .. كان يعلم أن لا أحد يستمع من العمال لديه ، ولكنها كانت أحد طرقه لتمزيق تركيز الزبون .. فقد كان له أسلوب أشبه بأسلوب المعلقين الرياضيين ، فما أن يكون يعلق على هجمة ، حتى تراه غاص في طقس بوليفيا أو عمل شوربة العدس من ماء المطر وجودتها عن التي تعمل من ماء الحنفية ..

وبعد أن يضمن عاطف أن زبونه استوى ، ولم يعد بنفس الحماس له ، يطالبه بدفعة أو دين قديم ، فإن لم يعطه الزبون شيئا ، يضمن عاطف أنه سيحل عنه ، ويبتعد ..

وأحيانا يتجمع لديه أكثر من زبون للصراخ عليه في وقت واحد ، وكان لديه فن في استثمار هذه الحالة أفضل من الزبون المنفرد ، فكان يستعطف أحدهما ليناصره على الآخر بصفقة معنوية خبيثة ، كأن يمتدح الزبون وكيف أنه قد قصر بحقه ، وان شاء الله بعد أن أنتهي من العمل لتنفيذ طلبه ، سأقوم بإنهاء عملك مباشرة ، فيتولى الزبون الموعود بتصبير الزبون الآخر الثائر ..

كانت معظم مشاكل الزبائن تتعلق بتوفيق عمل عاطف الحداد مع حرفي آخر ، مثلا ( القصير .. المبيض ) فهؤلاء لن يستطيعوا إنجاز عملهم قبل أن ينجز عاطف عمله .. أو أن الزبون يشتكي من عدم طبق الأبواب أو سقوط أحد ظرفتي شباك ، أو انفلات لحام بعض ( المفصلات ) .. أو تكتل نقاط اللحام بحجم حبة الحمص وتحريض الصباغ للزبون على تغيير ذلك ..

لقد ظهر عاطف في أوائل الثمانينات عندما كان هناك فورة عمل ضخمة ، حيث لا يدقق الزبون في مهارة الحرفي ، بل يريد فقط من يعمل له ، فظهر بناءون ضعيفي الأداء والمهارات وظهر سباكون و صباغون و حدادون ونجارون ، كلهم تحت مستوى نقطتين من عشرة ..

وكونهم قد لمسوا حسن السوق ، فقد تجمع أكثر الصناع الذين كانوا يخدمون عند معلمين مهرة ، واستقلوا في عملهم ، و أتوا بأردأ الشغيلة ليعملوا معهم ، فكان مع عاطف ، أحد الشغيلة ، يزيد وزنه عن 150 كغم ، كان إذا صعد الى سطح قاعة تحتاج سقف من الزينكو ، فإن قمة ( الجملون ) لن تعود تظهر بشموخ .. كان مغرما بعلب ( الطون ) فان طلبته لعمل ينجز بثلاث ساعات وتم انتدابه لانجاز هذا العمل ، فبعد أن ينتهي ، ستصدف بأثره لا يقل عن عشرة علب (طون ) فارغة ..

تكونت علاقة عاطف بزبائنه بشكل متداخل ، فهم رغم معرفتهم برداءة عمله ، إلا أنهم ارتبطوا به بشكل استراتيجي ، فإما كان يأخذ منهم مقدما ، أو أن لا أحد من الحدادين يقبل أن يقوم بعمله أو يعدله .. حتى بنا بيتا وكبر أولاده وذهب أحدهم لدراسة الطب في روسيا ، وافتتح أحد ميني ماركت ، فأفلس عاطف و سجن ، وقل عمل ورشته وإذا سأل أحدهم عنه ، أجيب بأنه ذهب لزيارة ابنه في روسيا ..

خرج عاطف من السجن ، أو عاد من روسيا ، فجاءه أحدهم وكان يطلق على عاطف اسم ( مسيلمة الحداد ) .. فطلب منه أن يعمل له بوابة ، فأنجزها له بنفس الموعد ، وكانت متقنة ..

عاد صاحب البوابة في اليوم الثاني وكان طريفا ، إذ وبخ عاطف بصوت عالي جدا حتى تجمع حوله عدة أشخاص .. وعاطف يلح بالسؤال على صاحب البوابة : لماذا تصرخ علي و لماذا أنت هائج ؟ .. فيلتفت صاحب البوابة ويسأل من حوله ممن تجمعوا : أنتم .. أنتم .. ماذا تعرفون عن عاطف الحداد ؟ فأجابوا معا ( كأنهم كورال ) : إنه كاذب ..

يضحك صاحب البوابة .. ويقول لقد صدق معي .. وأنجز شغله على أحسن وجه ، فيضحك عاطف و يضحك الجميع وينصرفون ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 04-06-2006, 04:25 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

مكتب تقديم الخدمات :

لا أحد يعلم كيف يخطر على بال بعض الأشخاص أن يبدأ بافتتاح عمل ما ، فقد لا يكون هذا العمل ، قد عمله والده ، وقد لا يكون هذا العمل له علاقة بدراسته الجامعية ، وقد يكون قد رآه في عمل تلفزيوني أو سينمائي ، أو فكرة تكونت لديه أثناء خدمته المختلفة عن هذا العمل الذي ابتكره ..

أبو وائل كان موظفا في بنك ، وقد يكون أنيط به عمليات تحويل فلوس الخادمات الأجنبيات ، فتكونت لديه فكرة عن طبيعة هذا اللون من الخدمات ، وقرر بعد أن تقاعد من البنك أن يفتتح مكتبا لتأمين الخادمات في البيوت لمن يطلبهن .

عندما تتشابك الأمور لدى أحد أرباب الأسر ، وتكون امرأته مريضة ، أو أمه عاجزة ، فإنه سيفكر في حل تلك المشكلة عن طريق استقدام خادمة ، إذا كان قادرا على تأمين دفع ما يترتب على تلك الرغبة ..

لقد مضى على استقدام الخادمة الإندونيسية ، عامان ، ويعني أن عليه الآن التفكير بتسفيرها ، أحضر أوراقها لمراجعة ما يساعده في إتمام عملية تسفيرها فوجد رقم هاتف المكتب الذي أحضرها في الأساس .. فاتصل بهم ، فطلبوا حضوره للمكتب ..

دخل المكتب وبعد أن حيا الموجودين ، لم يلحظ وجود أبي وائل ، فسأل عنه فأجابت سيدة تجلس على المكتب بأنه مسافر إلى جنوب شرق آسيا ..

كان يجلس بالمكتب أشخاص كثيرون ، امرأة بالخمسينات من عمرها تتحدث مع لا أحد ، فتحكي قصة قصيرة عن عدم ملائمة الخادمة التي أخذتها منذ أسبوع ، حيث أنها تنام في النهار طويلا ، ولا تقوم بعمل ، وتنفر بمن يناديها لتناول الغداء .. لم يكن حديث المرأة موجها لأحد ، فلم تركز عينيها أو وجهتها تجاه أحد الموجودين ، ولم يكن أحد يصغي باهتمام لما تقول ..

شابان يتكلمان في آن واحد ، يتكلمان عن سيدة عجوز تطلب خادمة لمؤانستها ، لم يكن بين الشابين أي شبه وراثي ، لا من حيث حجمهما ولا من حيث تقاطيع الوجهين ولا من حيث لون العيون ، كان أحدهما ضخما يبدو عليه بعض البله ، والآخر نحيف ، يتناوب معه في سرد مبررات الطلب ، ولم يكن هناك من يصغي إليهما ، كانا يتكلمان بالتناوب ووجهتهما نحو الباب خافضين نظرهما ، لارتفاع نصف متر تجاه الباب ، فكانت الشكوك توحي بأنهما يتكلما مع مخلوق لا يراه سواهما ..

السيدة التي تجلس على المكتب ، كان خداها ساحلين و شفتاها رقيقتين ، تقضم بعض البسكويت ، وتتجرع سائلا من علبة صفيح ، ودون شعورها بأي حرج من الموجودين .. كانت نموذجا لسكرتيرات هتلر التي يختارها منتجو أفلام النازية .. و يبدو أن هناك طفلا أو طفلة تجلس على الأرض وتنادي من تجلس على المكتب ، لكنها متوارية عن الجميع ، حيث يحجب رؤيتها أثاث المكتب المزدحم بالمقاعد والمراجعين ..

على الزاوية اليسرى لسيدة المكتب ، كانت تقف فتاتان واحدة في منتصف العشرينات من عمرها ، وواحدة بمنتصف عمر الأولى تقريبا ، وكانتا على ما يبدو من إندونيسيا ، الصغرى منهما كانت كمن انتهى من البكاء قبل دقيقة ، لم يكن على خديها أثر للدموع ، ولكن عيناها كانتا رطبتين ، وتنظر نحو الجميع ، بعينين حزينتين ، كعيني أرنب ، فلت من مطاردة ثعلب ، ولكنه لم يتيقن من النجاة بعد ..

كانت الكبرى من الإندونيسيتين ، تعمل كمترجمة ، فكانت تتكلم مع الصغرى بلغة غير مفهومة ، وقد تكون مهمتها شاقة أكثر من مهمة معلقي مباريات كرة القدم ، حيث أن كل من في المكتب كان يتكلم في نفس الوقت ..

كانت السيدة التي وراء المكتب ، لها قدرة عجيبة على فهم كل ما يجري ، ففي حين تسكت الطفل الذي يناديها من أسفل مكتبها ، وتقضم البسكويت و تشرب البيبسي و ترد على التلفون ، وتشير بطلب الأوراق لتسفير الخادمة ، وتطمئن الشابين أن قضيتهما سهلة ، وتنظر للإندونيسية التي فرغت من البكاء قبل قليل ، وتقول للشابين ها هي الفتاة ، قد تكون لم تتوفق في خدمة السيدة التي ضجرت من طول نومها ، لكنها ستفيدكما ، فما عليكما إلا أن تدفعا 1500 دولار للسيدة ، وتأخذا الفتاة فورا ..

وتلتفت الى من أراد تسفير خادمته ، وتقول : أهلا أستاذ ، نحن نقوم بكل شيء ، وسيكلفك هذا 300 دولار .. فوافق و أخرج دفتر الشيكات ، وسألها باسم من أكتب الشيك ، فأجابت : باسم منى محمد الدغير ، فاستفسر : هل أكتب آنسة أم سيدة ، ولم يكن يعلم من هي المقصودة .. فابتسمت ابتسامة حمقاء قائلة : وهل تراني آنسة يا أستاذ ؟ و أنا قد رزقت بفريق كرة قدم مع احتياطهم ؟ ضحك لتساؤلها الغبي وأعطاها الشيك وخرج ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 17-06-2006, 03:24 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

مخمن الضريبة ( موسى ) :

ينشغل من يصطف في طابور للانتظار ، في النظر الى من هو أمامه ، فيحفظ طوله ، و ألوان ثوبه ، وعمر حلاقة رأسه ، وان طالت فترة المكوث بالطابور ، فإن طريقة التنفس ستكون معروفة ، هل النفس طويل أو به بحة ، أو أنه نفس متعب ؟

لكن تكون مهمة من يصطف بالطابور ، بالإضافة للانتظار ، مراقبة من يغادر الطابور عائدا ، فمعرفة ذلك تعطي حالة من الطمأنة لمن يقف بالطابور ، بأن وصول دوره قد اقترب ، بما يعادل فترة (شخص مصطف ) .. وهو التوقيت الذي يستخدم في الطوابير .. بعكس طوابير الخبز في المخابز الشعبية ، حيث يكون الرغيف هو وحدة الوقت ، بدل الثانية و الدقيقة ..

إن من يصطف بالخلف ، لا يكون مهما ولا يتم تركيز الإهتمام بتفاصيل ما يقوم به ، وإن حاول تخطي من أمامه ، فإن ثورة ستقوم لإعادته الى مكانه .

في الوظائف الحكومية ، تتشابه العلاقة بين الموظفين في سلم الوظائف ، مع علاقة من يصطف بالطابور ، فالموظف الذي في المقدمة ، يكون محل اهتمام وتركيز من يليه ، حتى يصل أسفل السلم الوظيفي .. لكن لا يهتم موظفو المقدمة بمن يتبعهم ، إلا في إعاقتهم عن احتلال مواقعهم واستغلالهم في أسوأ وجه ..

عندما يكون موظف المقدمة مستقيما وفاضلا ، فإن معايير الفضيلة ، ستسود الطابور الذي يليه ، فلذلك تقاس قوة الحضارات وازدهارها بقوة فضيلة حكامها ، وبالعكس عندما يكون من في رأس الطابور فاسدا ، فإن الفساد سيعم كامل الطابور .. تماما ، كما تفعل ( الأوكسينات) في أغصان الأشجار ، فأعلى برعم بالغصن سيزهر ، و يعطي إشارة للبراعم التي دونه أن تزهر ..

عندما يرى الموظف الثاني في الجمارك ، أن مديره قد ارتشى بسيارة موديل سنتها فإنه يتكيف مع هذا الوضع ، ليحصل على رشوة تتناسب مع مكانته الوظيفية ، محترما وضعه بين الأوضاع الوظيفية ، حتى تنتهي السلسلة بأقل موظفي الجمارك شأنا الذي يكتفي بعلبة ( سجائر ) ..

بالمقابل ، إن المواطنين الذين يفهموا شيئا عما يحصل ، عند هذا النوع من الموظفين ، فإنهم يجيزون لأنفسهم أن يقدموا الرشوة ، ويسمونها هدية ، أو يلقوا لها تبريرا يعتبرونه مخرجا ( فقهيا ـ فتوى ) .. للقيام بعملهم ، فهم يرغبون في تخفيض نسبة الضرائب عليهم ، أو إدخال بعض بضائعهم دون جمرك أو بجمرك قليل .. كما يعطون لأنفسهم مبررا لسرقة مياه الإسالة الحكومية أو الكهرباء إن استطاعوا الى ذلك سبيلا ..

وإن سألتهم لما تفعلون ذلك ؟ وفي بلاد الغرب ، تفضح الجرائد من يتهرب من دفع الضرائب وتسقطه في الانتخابات لأنه قام بعمل خائن .. فيجيبونك : إنهم في الغرب يتصرفون بأموال الضرائب بعدل ، فلا يقدمون بعثة لطالب قد حصل على معدل منحط ، ويتركون الطلاب المتفوقين يتصارعون مع بؤسهم ، إنهم يعالجون الناس وفق قانون يحترمونه .. أما نحن ، فهل ترى أن الأمور لدينا تسير حسب الأصول لدينا ؟؟

موظفو الضرائب ، يحتكمون الى قواعد وضعت لتحصيل الضرائب ، وفق عمليات حسابية ، كذا ناقص كذا يساوي كذا .. و غالبا ما يستندوا الى ظنونهم وتخمينهم ، فلذلك سمي أحدهم ( مخمن ) .

هناك من لو ربح مليونا في اليوم ، لا يظهر عليه أنه ليس فقيرا ، وهناك من لو لم يربح إلا القليل ، لبانت عليه النعمة ، وقاده سلوكه الى أن يكون فريسة المخمنين .. فلو ركب سيارة حديثة ، أو قام بوليمة كبرى دفعته عقده لعملها ، فلا يطول الوقت حتى يزوره المخمنون و يدخلوه في مسلسلاتهم ..

عند مستخدمي الكمبيوتر المبتدئين ، قد يتلف أحدهم جهازه ، نتيجة للإجابات الخاطئة التي يجيبها عن رسائل تظهر له على الشاشة ، فيقول نعم .. نعم .. وما هي إلا لحظات حتى يفقد محتويات جهازه .. وتبدأ رحلة عذابه ..

دخل موسى مخمن الضريبة ، فبان على وجه فالح الارتباك ، فبعد أن رد تحية موسى ، أجابه بصدق عن كل أسئلته ، ولم يكن فالح قد سألها لنفسه سابقا ، أو لم يكن يتدرب لإخراج صدقه بصورة صادقة ، فاختلطت أمانيه بما يجب أن يكون عليه ، مع واقعه الذي لم يكن باستطاعته وصفه وصفا دقيقا ، لا بلغة الحسابات و لا بلغة الأدب ..

قام فالح بجولة مع موسى ، فقطف له بعض ثمار الكمثرى ، و أحضر له بعض البيض ( البلدي ) .. فاعتذر موسى عن أخذها .. لكن فالح أصر أن يأخذها ، قائلا له أنت ضيفي ، وعملك شيء و ضيافتك شيء آخر .. كان يدور بخلده أنه إذا أبدى قدرا من الود تجاه هذا الموظف فإنه قد يكون رحيما ورفيقا معه في تخمين ما يستوجب دفعه كضريبة ..


يسمع أحدنا أن فلانا قد جمع ثروته من التهريب ، وما أن ينجر أحدنا لتلك المهنة ( التهريب) إلا و أن يمسك من أولها ، ويخسر كل شيء جمعه في حياته ، فالخروج من مطبات التهريب و الضريبة و الرشوة وغيرها ، له فقهه وله فقهائه .. وليس بإمكان أي إنسان أن يقتحم تلك الحقول ، لمجرد أنه رغب بذلك ، فكما يقول المثل اللبناني ( مثل ما الفارة ليها البيسي .. القضايا ليها المحامي )

ما هي إلا أسابيع ، حتى تلقى فالح إشعارا من ضريبة الدخل يطلب منه تسديد مبالغ وصلت الى أكثر من نصف رأسماله !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 25-06-2006, 06:49 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سالم .. رئيس البلدية ..

إدارة البلديات و المدن ، تقليد قديم ، وجد في أيام (حمورابي) و أشارت شرائع حمورابي في الكثير من موادها الى صلاحيات مجلس المدينة ، وفي اليمن القديم ، كانت (المزاود ) وهي مجالس كانت تنتخب من أرباب الحرف ، وممثلي القبائل ، وممثلي دور العبادة ، وممثلي التجار الخ .. وكانوا من بينهم ينتخبون حاكم المدينة ( الدولة ) .. ومن يراجع تاريخ دول ( قتبان ، وكمنهو ) يجد المثال واضحا ..

وفيما بعد ظهرت مجالس المدن ، في أثينا و إسبارطة وروما .. حتى صار مجلس المدينة ، تناط به التشريعات التي تحفظ القيم التي يعتد بها عقلاء المدينة وتنظم التعاملات فيما بين السكان ..

في العصر الحديث ، لا تجيز القوانين اليابانية ، أن يتقدم أحد للترشيح في انتخابات البرلمان ، ما لم يكن قد نجح في انتخابات لا تقل عن خمسة ، في منظمات المجتمع المدني ، من جمعيات ونقابات ، على أن يكون أحد المرات عضوية مجلس المدينة .. كما يعتبر عمدة أي مدينة في الدول المتقدمة ، شخصية اعتبارية وتنفيذية في كثير من الأحيان ، لها أهميتها التي لا يتم تجاوزها بسهولة ، حتى من رأس الدولة ..

في بلادنا العربية ، تعتبر البلديات مجالا ( لتوكيد الذات الجماعية ) عند الناس الذين ينتخبون أعضاء المجالس البلدية ، وتعتبر مخزن للرأي العام ، يرفع برقيات التأييد للحكام ، من وجهة نظر الحكومات العربية ..

لغياب التنظيمات السياسية ، أو لضعف فعاليتها الجماهيرية في بلادنا ، فإن الانتخابات البلدية ، تتم وفق قواعد فهمها الجميع ، وهي خليط بين العشائرية والقدرة المالية و رضا أجهزة الأمن عن المرشحين ، وعدم خطورتهم وفق مساطر التقييم العام لنظرة تلك الأجهزة .. ونادرا ما يتم انتخاب أعضاء مجلس بلدي وفق برنامجه الانتخابي ، أو على ضوء قدرة المرشحين لخدمة المدينة .

كان سالم عسكري متقاعد ، له ابتسامة دائمة ، يضع (ثنية ذهبية ) .. تعطي لابتسامته بعدا يوحي بعدم عدوانيته ، وخطورته ، وتحسس من ينظر إليه بأنه مكانا للثقة و التفاني في الخدمة .. كان رياضيا سابقا ، لا يدخن ، قليل الكلام ، يروي نكتة كل أسبوعين أو ثلاثة ، ويضحك لنكتة غيره ، ويعيدها في كل المناسبات التي يحضر فيها من رواها ، فيحسسه بعلاقة حميمية ..

خاض الانتخابات مع تسعة من المرشحين ، تم انتقائهم بعناية شديدة ، وفق أصول لعبة الصوت التي تضمن لتلك ( الكتلة ) النجاح .. وفعلا ، نجحت الكتلة فيما عدا واحد ، لم يسعفه الحظ لعصبية أقاربه ، و وجود بعض الملاحظات على سلوكه ، ولوجود مرشح قوي في الكتلة المنافسة ، والذي حاز أعلى الأصوات ، حتى تلك التي كانت للتسعة أعضاء الكتلة الناجحة ، وكون الأعراف تعطي للكتلة التي نجح منها عدد أكبر أن تختار الرئيس من بين أعضائها ، تم اختيار (سالم) ليكون رئيسا للبلدية ، وقد كان ذلك متفقا عليه قبل المعركة الانتخابية ..

كان خليط الأعضاء فيه من الغرابة الشيء الذي لا يجعل منهم فريقا متجانسا ، فكان من بينهم شيخ في الثمانين من عمره ، وكان هناك محامي ومهندس و مدير سجن سابق ، و مدير تموين سابق من جماعة دينية ، ورئيس للجنة نقابية عمالية ، وموظف بلدية متقاعد ، ومدرس للغة الإنجليزية متقاعد ، وللأعراف المتبعة ، تم إضافة عضوين من الكتلة التي لم ينجح منها سوى عضو .. فأصبح المجلس البلدي اثنا عشر عضوا ..

أخذ الأعضاء التسعة الذين منهم الرئيس ، عهدا على أنفسهم ألا يعودوا لترشيح أنفسهم مرة أخرى ، وحلفوا على القرآن بذلك .. لكي يكون أداء عملهم لا يتأثر بمؤثرات لعبة الصوت ، ليرتبوا أدائهم وفق رغبتهم بالعودة !

كان التسعة يجتمعون كل ليلة في بيت أحدهم ، من أجل وضع خططا لجعل أدائهم يختلف نوعيا عن أداء من سبقهم ، فوضعوا خطة تنسق مع مديرية التربية ، لحل مشاكل التسرب من المدارس ، ووضعوا خطة تنسق مع البنوك والجامعات وغرفة التجارة لنشر ( التقنية ) في عمل أسبوعا (كرنفاليا) يتم فيه تكريم المبدعين من الحرفيين ، وربط ذلك بندوات ترفع من شأن المشاريع الصغيرة و المتوسطة ، يحاضر بها أساتذة الجامعات .. ووضعوا مجموعة من الخطط لنقل قلب المدينة الى الأطراف ، ووضع الأسواق المتخصصة الخ .

كان ثلاثة من الأعضاء ، يعرفون أهمية جدول أعمال (الجلسة ) .. فيكتب بدعوة الجلسة ، النقاط التي يتوجب بحثها في الاجتماع ، وكان هؤلاء الثلاثة لا يتكلم أحدهم إلا إذا سمح له الرئيس ، وإن غاب فإنهم يطلبوا الإذن من نائبه ، ومع ذلك لم تتوقف الفوضى في الكلام إلا بعد مرور تسعة أشهر .. فقد كان الكلام يأتي من الشيخ حول تأخر سيارة نقل النفايات ، أو يأتي من آخر حول تعطل مصابيح الإضاءة في الشارع الفلاني .. وكان كل ذلك يتم وهم يناقشون نقطة لترخيص بناء لمواطن !

كان سالم فرحا في النمط الجديد الذي كان يقوده ، وتهمس بأذنه جهات معينة أن هذا المجلس من خيرة المجالس البلدية في البلاد ..

لكن ذلك لم يطول كثيرا .. فطرح أحد الأعضاء ، فكرة منع شركة (الكوكاكولا) بدخول المدينة ، لأنها شركة صهيونية ، ولم تكن في حينها قد تمت أي اتفاقية صلح مع الصهاينة .. تكهرب الجو ، عندما طرحت تلك الفكرة ، لظن الكثير بخطورة مثل هذا الطرح .. فابتسم سالم لمن طرح تلك الفكرة قائلا : كيف حالك؟

لم يدم الوقت طويلا ، فقد دفعت شركة كوكاكولا ، ما يعادل عشرة دولارات عن كل متر مربع من ( القارمات ) الخاصة بها .. وحلت بعدها بأسبوعين كل البلديات .. وعاد سالم لترشيح نفسه ، في حين لم يرشح أحد من زملاءه نفسه للانتخابات البلدية ، والتي لم يقضوا فيها أكثر من واحد وعشرين شهرا ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 04-07-2006, 05:21 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سعادة النائب أبو فايز

النائب مذكر للنائبة .. والنائبة هي المصيبة .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون مذكر مصيبة مصيب ، بل يبقى مصيبة في معظم بلادنا العربية ..

عندما وضع (مونتسكيو ) وثيقته المشهورة قبل أكثر من قرنين ونصف ، بأنه لا يجوز القتل إلا بقانون و لا يجوز استملاك أموال الغير ، إلا بقانون ، ولا يجوز سن قانون إلا بحضور ممثلي الشعب . من هناك انطلقت فكرة الديمقراطية الحديثة .. ومن هناك تم تطوير فكرة الانتخابات الحديثة .. ووضعت لها التشريعات وفق دساتير و قوانين تنظم عملية الانتخابات ..

يكون النائب نائبا عن الشعب إذا كان يمثل إرادة الشعب ، ولن تكون للشعب إرادة إلا أن يكون له ممثليات قائمة تتصل بالنائب بعد الانتهاء من وصوله (توصيله ) الى البرلمان ، لكي تجسد تلك الصلة العضوية به ، فلو كان النائب قد حصل على عشرة آلاف صوت ، فلا يعقل أن يعود في كل مرة يتخذ بها موقفا تجاه ما يطرح في البرلمان الى العشرة آلاف ناخب ، يسألهم عن موقفهم ، فيقوم بإجراء فرز لآرائهم ، حتى يحدد موقفه ..

لذا كانت التجارب الديمقراطية المتقدمة في العالم ، تربط الانتخابات بنظام متكامل ، وهو نظام تكوين مؤسسات المجتمع المدني ، فعندما تكون هناك مسألة وطنية ، يكثر الخلاف حولها ، يعود النائب الى مؤسسته التي انطلق منها ، والعودة هنا لا تكون الى الناخبين بل الى قياداتهم التي وقفت وراء الناخب ، فيكون الرأي هو رأي تلك القيادات ..

ثم لو كان النائب طبيبا ، فإنه سيناقش بكفاءة ما سيطرح في البرلمان حول قضايا الصحة ، لكنه سيكون غير مؤهل لمناقشة ما سيطرح من مشاكل زراعية ، ولا ما سيطرح من مشاكل المرأة وغيرها .. فلذلك يكون المتخصصون من مساعدي النائب و الذين يشكلوا قيادة المؤسسة الاجتماعية التي انطلق منها ، هم من يناقش بإسهاب ما هو مطروح في البرلمان ، ويقاربوه مع رؤى مؤسستهم في تلك المسألة ، ويبلغوا النائب خلاصة موقف تلك المؤسسة .

أبو فايز ، كان معلما متقاعدا ، ليس له بالسياسة ولا بالاقتصاد ، ولم يرأس يوما من الأيام أسرة صف مدرسي .. كان إنسانا مغمورا ، يميل للعزلة ، يميل للبخل ، لدرجة أنه لم يتسامح عن كسر (غماز ) سيارته الأوبل (موديل ال 1974) .. وبقي يصرخ حتى وصلت الشرطة ، وأقنعت من كسر الغماز أن يدفع له ما قيمته (عشر دولارات ) .. كان ذلك قبل أن يعتمد كمرشح عشائري بيومين فقط !

لقد اعتمده مجموعة من الرجال الماكرين ، كمخرج لخلافاتهم في تسمية مرشح متفق عليه من جميع الأطراف .. وكانوا يراهنوا أن يقوم أبو فايز بأي لحظة بالتنازل عن تلك المهمة لأي من الطرفين المتذاكيين ، وقد عملا لذلك ، لكن نجح أبو فايز ، دون أن يخسر فلسا واحدا في حملته الانتخابية ، لا بل طالب بعض المتبرعين في دعمه بتسديد ما عليهم بعد ظهور النتائج ، لعمل وليمة لمحبيه و أنصاره !

لقد بهر أبو فايز ، بأجواء الولائم ، و اتصال رجال ذوي أهمية استثنائية به في التنسيق لحملات انتخاب رئيس لمجلس النواب ، أو لمنح الثقة بالحكومة ، أو لتمرير قانون ما . وكان عندما يعود من نشاطاته المفاجئة ، يسرد من التقى بحضرتهم من هؤلاء ، دون ذكر شيء عن القوانين أو المواقف ، فقد كانت المسألة الأهم أنه قد جلس في حضرة فلان الوزير المعروف أو رئيس الوزراء .


كانت طلباته ثمنا لمواقفه ، لا تزيد عن طلبات ذاك المعدم الذي سأله صاحبه ذات يوم لو أنك تحصل على مليون دينار ، ماذا ستفعل ؟ ، فأجاب : أشتري رطلا من اللحم .

لقد اكتشفت الجهات التي تراقب نشاط النواب خصائص كل نائب ، خلال أسبوعين ، وإن كانت تعلم عن تلك الخصائص منذ اليوم الأول لاعتمادهم كمرشحين ، فتفننت في ربطهم بها من خلال تلبية طلباتهم الساذجة ، بالإفراج عن اثنين من أقارب الناخب قد تشاجرا في حفل عرس ، أو عن مهرب ل(كلوز سجائر ) .. أو تعيين فراش في مدرسة في أحسن الأحوال ..

لقد انقضت سني برلمان أبو فايز ، وقد حصل فيها على أنه كان في الخصومات ، قد حظي بوضع فنجان القهوة أمامه في فض الخصومات ، أو خطبة العرائس . كما حظي بزيارة بعض الدول ، و نال بعض الهدايا التي كتب عليها اسم حاكم الدولة التي زارها أبو فايز ، كما حظي بخط للحافلات تم صرفه له كجزء من أعطيات تمنح في المناسبات !

لكنه لم يحظ باحترام حقيقي من لدن من حوله ، فلم يستطع أحد أن يتذكر مداخلة واحدة لأبي فايز ، داخل مجلس النواب الذي كانت جلساته تبث على الهواء الطلق !

وعندما تنادى الناس لاختيار مرشح للانتخابات التالية ، حضر أبو فايز مع بعض أقاربه ، دون أن ينبس ببنت شفة تدل على رغبته في المنافسة مع المتنافسين ، لكنه ترك تلك المهمة لأحد أقاربه ، الذي ما أن أبدى رأيه في ترشيح أبي فايز .. حتى رد عليه أحد المسنين بالقول : ( إبن الخوثة ما يصير مرياع )
والخوثة هي الهبلة من النعاج و المرياع هو الكبش الذي يقود القطيع .
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 04-07-2006, 05:25 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سعادة النائب أبو فايز

النائب مذكر للنائبة .. والنائبة هي المصيبة .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون مذكر مصيبة مصيب ، بل يبقى مصيبة في معظم بلادنا العربية ..

عندما وضع (مونتسكيو ) وثيقته المشهورة قبل أكثر من قرنين ونصف ، بأنه لا يجوز القتل إلا بقانون و لا يجوز استملاك أموال الغير ، إلا بقانون ، ولا يجوز سن قانون إلا بحضور ممثلي الشعب . من هناك انطلقت فكرة الديمقراطية الحديثة .. ومن هناك تم تطوير فكرة الانتخابات الحديثة .. ووضعت لها التشريعات وفق دساتير و قوانين تنظم عملية الانتخابات ..

يكون النائب نائبا عن الشعب إذا كان يمثل إرادة الشعب ، ولن تكون للشعب إرادة إلا أن يكون له ممثليات قائمة تتصل بالنائب بعد الانتهاء من وصوله (توصيله ) الى البرلمان ، لكي تجسد تلك الصلة العضوية به ، فلو كان النائب قد حصل على عشرة آلاف صوت ، فلا يعقل أن يعود في كل مرة يتخذ بها موقفا تجاه ما يطرح في البرلمان الى العشرة آلاف ناخب ، يسألهم عن موقفهم ، فيقوم بإجراء فرز لآرائهم ، حتى يحدد موقفه ..

لذا كانت التجارب الديمقراطية المتقدمة في العالم ، تربط الانتخابات بنظام متكامل ، وهو نظام تكوين مؤسسات المجتمع المدني ، فعندما تكون هناك مسألة وطنية ، يكثر الخلاف حولها ، يعود النائب الى مؤسسته التي انطلق منها ، والعودة هنا لا تكون الى الناخبين بل الى قياداتهم التي وقفت وراء الناخب ، فيكون الرأي هو رأي تلك القيادات ..

ثم لو كان النائب طبيبا ، فإنه سيناقش بكفاءة ما سيطرح في البرلمان حول قضايا الصحة ، لكنه سيكون غير مؤهل لمناقشة ما سيطرح من مشاكل زراعية ، ولا ما سيطرح من مشاكل المرأة وغيرها .. فلذلك يكون المتخصصون من مساعدي النائب و الذين يشكلوا قيادة المؤسسة الاجتماعية التي انطلق منها ، هم من يناقش بإسهاب ما هو مطروح في البرلمان ، ويقاربوه مع رؤى مؤسستهم في تلك المسألة ، ويبلغوا النائب خلاصة موقف تلك المؤسسة .

أبو فايز ، كان معلما متقاعدا ، ليس له بالسياسة ولا بالاقتصاد ، ولم يرأس يوما من الأيام أسرة صف مدرسي .. كان إنسانا مغمورا ، يميل للعزلة ، يميل للبخل ، لدرجة أنه لم يتسامح عن كسر (غماز ) سيارته الأوبل (موديل ال 1974) .. وبقي يصرخ حتى وصلت الشرطة ، وأقنعت من كسر الغماز أن يدفع له ما قيمته (عشر دولارات ) .. كان ذلك قبل أن يعتمد كمرشح عشائري بيومين فقط !

لقد اعتمده مجموعة من الرجال الماكرين ، كمخرج لخلافاتهم في تسمية مرشح متفق عليه من جميع الأطراف .. وكانوا يراهنوا أن يقوم أبو فايز بأي لحظة بالتنازل عن تلك المهمة لأي من الطرفين المتذاكيين ، وقد عملا لذلك ، لكن نجح أبو فايز ، دون أن يخسر فلسا واحدا في حملته الانتخابية ، لا بل طالب بعض المتبرعين في دعمه بتسديد ما عليهم بعد ظهور النتائج ، لعمل وليمة لمحبيه و أنصاره !

لقد بهر أبو فايز ، بأجواء الولائم ، و اتصال رجال ذوي أهمية استثنائية به في التنسيق لحملات انتخاب رئيس لمجلس النواب ، أو لمنح الثقة بالحكومة ، أو لتمرير قانون ما . وكان عندما يعود من نشاطاته المفاجئة ، يسرد من التقى بحضرتهم من هؤلاء ، دون ذكر شيء عن القوانين أو المواقف ، فقد كانت المسألة الأهم أنه قد جلس في حضرة فلان الوزير المعروف أو رئيس الوزراء .


كانت طلباته ثمنا لمواقفه ، لا تزيد عن طلبات ذاك المعدم الذي سأله صاحبه ذات يوم لو أنك تحصل على مليون دينار ، ماذا ستفعل ؟ ، فأجاب : أشتري رطلا من اللحم .

لقد اكتشفت الجهات التي تراقب نشاط النواب خصائص كل نائب ، خلال أسبوعين ، وإن كانت تعلم عن تلك الخصائص منذ اليوم الأول لاعتمادهم كمرشحين ، فتفننت في ربطهم بها من خلال تلبية طلباتهم الساذجة ، بالإفراج عن اثنين من أقارب الناخب قد تشاجرا في حفل عرس ، أو عن مهرب ل(كلوز سجائر ) .. أو تعيين فراش في مدرسة في أحسن الأحوال ..

لقد انقضت سني برلمان أبو فايز ، وقد حصل فيها على أنه كان في الخصومات ، قد حظي بوضع فنجان القهوة أمامه في فض الخصومات ، أو خطبة العرائس . كما حظي بزيارة بعض الدول ، و نال بعض الهدايا التي كتب عليها اسم حاكم الدولة التي زارها أبو فايز ، كما أن الصفير الذي كان يرافق لفظ السين قد اختفى ، كما حظي بخط للحافلات تم صرفه له كجزء من أعطيات تمنح في المناسبات !

لكنه لم يحظ باحترام حقيقي من لدن من حوله ، فلم يستطع أحد أن يتذكر مداخلة واحدة لأبي فايز ، داخل مجلس النواب الذي كانت جلساته تبث على الهواء الطلق !

وعندما تنادى الناس لاختيار مرشح للانتخابات التالية ، حضر أبو فايز مع بعض أقاربه ، دون أن ينبس ببنت شفة تدل على رغبته في المنافسة مع المتنافسين ، لكنه ترك تلك المهمة لأحد أقاربه ، الذي ما أن أبدى رأيه في ترشيح أبي فايز .. حتى رد عليه أحد المسنين بالقول : ( إبن الخوثة ما يصير مرياع )
والخوثة هي الهبلة من النعاج و المرياع هو الكبش الذي يقود القطيع .
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 26-07-2006, 05:08 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

معالي الوزير علي

هل تحسن القول بأن قوة علاقات الدولة و مكانتها العالمية تعود لحكمة وحنكة فخامة رئيس الجمهورية ؟

هل تحسن القول بأن اقتصادنا ينمو باطراد و صعود ، وأن بلادنا من أقل بلاد العالم فقرا ؟

هل تحسن القول بأن بلادنا تشكل واحة أمن فريدة ، وأن أعين أجهزتنا الأمنية بالمرصاد لكل من تسول له نفسه العبث بأمن الوطن والمواطن ؟

إن كنت تحسن ذلك أو مثله ، وإذا كنت على قدر من التفاني في تقديم جواب ، عن أخبار أهلك و محيطك بما يرضي رجلا (مهما عند الدولة) من جواب ، و إن كنت ممن يتواجد في الاحتفالات التي يخطط لها مليا ، لتكون احتفالات ، وإن كنت ممن كان لهم ماض معارض ، فصرت تعلن توبتك بمناسبة و دون مناسبة ، وإن كنت ممن يرفع البرقيات على صفحات الجرائد ، وإن كنت صاحب أثر في محيطك أو توهم الآخرين بأنك كذلك .. فتوقع أن تكون أحد أعضاء وزارة في يوم ما .

في البلاد العربية ، لا تحل مشاكل الوزارات بوزراء قديرين ، بل تحل مشاكل الوزراء غير القديرين بوزارات .. وطبعا لن يكون اسم أحدهم وزير قبل توليه الوزارة ، بل كان رجلا ولكن ليس ككل الرجال !

تكاد أنظمة الحكم أن تكون بحكم المتأكدة أو المتيقنة ، بأن الوزراء الذين يتم اختيارهم ، سيكونون أكثر طاعة وهم داخل الحكومة منهم وهم خارجها ، وهو أسلوب قديم ظهر منذ عهد العباسيين في استرضاء الخصوم لاتقاء شرورهم . وقد اكتشف المستوزرون هذا الأسلوب ، فيكونوا نارا على الحكم وهم خارجه ، وبردا وسلاما على الحكم وهم في داخله ونارا على خصوم الحكم ..

يكفي أن يكتب أحدهم عدة مقالات ينتقد فيها الحكم ، ويضحي بجلسات للمسائلة من قبل أشخاص رفيعي المستوى من أجهزة الأمن ، ويكون يستند على قوة مضللة للحكم ، قد تلقى الحكومات فيها كتلة شعبية أو حزبية مقلقة ، فما أن يتم تعديل آراء المعارض العتيد ، حتى يستسهل حضور سهرات الصالونات السياسية ، وتصبح معظم مساهماته داخل تلك السهرات ، عبارة عن تندر بماضيه السياسي ، وقد يتعمد لذكر قصة أو أكثر في كل سهرة ، تبين إعجابه بفطنة الحاكم ومن حوله ، ويسردها بطريقة ذكية حتى لا يوصف بالابتذال ، ويكون هناك من يرقب هذا التحول النوعي عند تلك الشخصية ( المحيرة) .. ولا يطول الوقت حتى يعتبر من في الحكم أن تكليف هذا الشخص بحقيبة وزارية لا يخلو من حكمة مليئة بالمكاسب !

كان الناس ينظرون الى الأستاذ علي نظرة مليئة بالإعجاب و الحيرة في آن واحد ، وكان هو يتعمد أن يجعلهم في حيرة مستمرة ، فكان يوحي لهم بأنه على علم بأدق التفاصيل لدى الدولة ، ولكنه لا يسهب في ذكر أي منها ، بل ينتقل الى مواضيع عدة ، فيلاطف هذا و ينتقل بأسلوب رشيق الى ما قبل ثلاثين عاما مستشهدا بأحد كبار السن الجالسين ، فيضحك ذلك المسن للحظوة التي نالها ، ويبتسم أبناؤه فرحا بأن أباهم على صلة بالأستاذ ، ثم يتذكر أحد الجالسين أنه أهمل من قبل الأستاذ علي ، فيبادر بصوت قوي يدعوه للغداء هو ومن يحب في أقرب فرصة ، فيجد الأستاذ بهذا الاهتمام والتنوع ممن حوله ، ملاذا للإبقاء على غموض شخصيته ..

عندما تم إعلان التشكيل الوزاري ، وظهر اسم الأستاذ علي بين الأسماء ، هب محبوه بالتحرك الى العاصمة لتقديم التهاني و التبريكات ، ومع ذلك كان الأستاذ يحسس المهنئين بأنه قد فضل عليهم في استقبالهم ببيته ، وكان أهل بلدته يحسون بحرج شديد ، إذا دخل البيت رجال لم يشاهدوهم إلا في التلفزيون أو يسمعوا عنهم بالإذاعة و يقرءوا عنهم بالصحف .. فكانوا يهمون بالرحيل لتخفيف الحرج عنه ، لكنه كان يومئ لهم بالبقاء ، لقد كان ماكرا بما فيه الكفاية ، يريد أن يبلغ رجال الدولة بأنه رجل مؤثر جماهيريا ، ويريد أن يبلغ أهله أنه رجل مهم على صعيد الدولة ، وها هم رجالها يتقاطرون لمجاملته ..

لم تطل متعة الأستاذ علي كثيرا ، رغم أنه بقي في الوزارة عدة سنوات ، فلم يسمع أحد ببلدته أنه قدم خدمة لأحد منهم سوى حالتين ، فقد كان يغزوه في الشهور الأولى يوميا رجال ذو أهمية اجتماعية يطلبون تعيين أحد أو ترقية مدير أو إخراج أحد من ( الحبس ) .. ثم أغلق الأبواب أمام الزوار ، ولم يرد أن تهتز صورته أمام الحكومة بزهده في طلب الخصوصيات ..

كان المواطنون يتساءلون : كيف إذا أردنا أن نقابل مديرا عاما ، نقضي شهورا ولن نفلح ، وفي نفس الوقت ، كان من السهل أن يتجمع ثمانية وزراء أو أكثر على ( عزومة ) في قرية نائية ؟

قلت مشاركات الأستاذ علي في المناسبات الاجتماعية في بلدته ، واقتصرت على وقوفه القليل من الوقت في مآتم ذويه ، ولم يعد استخدامه لبعض المفردات الإنجليزية في حديثه ، أو رش نفسه بعطر كان يشتهر به سابقا .. لم يعد ذلك مؤثرا في نفوس المواطنين الذين تكونت لدى معظمهم قصص لا تترك أثرا للود بينهم و بين الأستاذ ..

عندما تم تغيير الوزارة ، ولم يكن هو ضمن التشكيل ، اكتشف أن تصنيفه بين الناس أصبح من الصعوبة بمكان ، فلا هو ممن اكتفى ماليا حتى يكون لكراهية الناس له ثمنا ما ، فاضطر لبيع بيته ، ولا هو ممن أبقى على علاقاته القديمة التي كانت توفر له بعض قرارة النفس !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #8  
قديم 08-08-2006, 06:25 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

عطوفة المدير العام عبد العزيز

إذا كان نحت شرعية أنظمة الحكم في البلاد العربية ، يتم من خلال بناء الهالة الأولى المحيطة بنظام الحكم ، فإن أفراد تلك الهالة سيكونون معنيين في اختيار أفراد الهالة الثانية ، ليستمدوا منها مبررات بقائهم بالهالة الأولى ، ولتكون تلك الهالة مصنعا لإمداد الهالة الأولى بالأفراد ..

ليس هناك الكثير ما يطلب من المدراء العامين ، في بلادنا ، فمن يعينهم يعلم أنه قطع إقطاعية و منحها لمن يستحقها حسب مسطرة الحاكم ، ولا يستحقها حسب مسطرة المصلحة العامة ، التي نسمع بها ولا نراها .


ينشغل المدير العام المعين بمرسوم عالي ، في أول أيامه في استقبال المهنئين ، وتغيير ديكور مكتبه وسيارته الخاصة ، ثم يلتقي برؤساء الدوائر الفرعية التي تتبع لإدارته ، ويتكلم معهم بكلام ، حفظوه عن ظهر قلب ، محشوا بكلمات مثل المصلحة العامة والتفاني بالعمل ، وعدم مساواة المبدع بالمهمل ، ومقارنات مع حضارات العالم القائمة ، ويذكر لهم ما رآه في فرنسا أو اليابان أو يسرد لهم إبداعاته في دوائر أخرى قبل أن يحل عليهم منقذا ..

يهز الجميع رؤوسهم ، ولا ينسوا أن يرفقوا هز رؤوسهم بابتسامة توحي للمدير العام ، بأنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر قدومه كمنقذ ، ورغم معرفة المدير العام بأنهم يكذبون ، فإنه يعتبر هذا النفاق عبارة عن دفقات من التبجيل و التوقير يستحقها عن جدارة .. ورغم معرفة هازي الرؤوس ـ أنفسهم ـ بأنهم يكذبون ، إلا أنهم يصرون على ألا يخطئوا بأي حركة !

لا يتذكر الناس أشخاصا اعتياديين ، يتواجدون بينهم بشكل طبيعي ، إنما يتذكرون أشخاصا مخترعين أو قادة أشاوس ، أو أشخاصا يسمع عنهم الناس ولكن لا يروهم ..

وبما أن معشر المدراء العامون في بلادنا ، ليس من النوع المخترع ، ولا من النوع القائد الفذ ، فإنهم يبتكرون طرقا للتخفي عن عيون العامة ، حتى يكتسبوا أهميتهم المفقودة .. فكلما تطورت وسائل التخفي والابتعاد عن العامة ، كلما ازدادت أهمية هؤلاء المدراء .

وقد نمت مهارات تتواكب مع تلك الطلبات المتزايدة من المدراء العامين ، فالسكرتيرة أو مدير المكتب ، عليه أن يتقن معرفة الأجوبة اللازمة : عطوفته عنده اجتماع ، عطوفته عند الوزير ، عندك موعد مع عطوفته ؟ الخ

كان الدكتور عبد العزيز نموذجا صادقا عن تلك النماذج ، فهو خريج دولة من أوروبا الشرقية ، في مادة لا تحتاجها البلاد نهائيا ، وكانت معظم المعلومات التي تعلمها ، قد جاء بها إشعارات من منظمة الأغذية والزراعة والدولية التابعة للأمم المتحدة ، بأنها أساليب خاطئة ، على المعنيين تجنبها وعدم تطبيقها !

لا زلت أذكر حديث خبير تلك المنظمة ( الفاو) في أواسط السبعينات من القرن الماضي ، عندما أخذ يسرد في محاضرة له : بأن مساحة البلدان العربية تقل قليلا عن أربعة عشر مليون كيلومتر مربع ، وأن 78% منها في إفريقيا والباقي في آسيا ، وأن 3.4% من تلك المساحة صالح للزراعة ، منها 30% على حوض النيل ، و44% في دول المغرب العربي ، و22% في الهلال الخصيب والباقي في الجزيرة العربية ..

وبعد أن أنهى محاضرته ، ابتسم بمكر وقال : كنت أسأل نفسي ، لو ألغيت وزارات الزراعة في البلدان العربية ، ماذا سيحصل في الزراعة .. صمت وأجاب لوحده : لا شيء !

لم أكن أدرك مغزى تلك الطرفة بشكل جيد ، ولكنني عندما تعرفت على الدكتور عبد العزيز .. أدركت حكمة ذلك الخبير ..

كان الدكتور عبد العزيز ، يرتب مع الإذاعة أو التلفزيون الحكومي ، لقاءات على الهاتف ، إذا ما جاء في شهر يناير/كانون الثاني المطر بشكل جيد أو غطت الثلوج مساحات واسعة من المحافظة التي يدير مديرية الزراعة فيها . فكان يخرج للناس و كأنه أحد الآلهة السومرية ( إنليل ) .. وأنه هو من أحضر تلك الأمطار و الثلوج .. فكان يمط حرف الجر ليأخذ مساحة بيت شعر على البحر الطويل .. ليغنم أكبر وقت ممكن يتكلم فيه ..ويبشر المزارعين بموسم خير وفير و ينصح مربي المواشي بنصائح يعرفها راعي مبتدئ و مربي النحل ومربي الدجاج ، وكان يود لو أتيح له المجال ليقول للمشاهدين أي أنواع الطبخ تلاءم مثل تلك الأجواء ..

عندما جاء كتاب تقاعد الدكتور ، بذل قصارى جهده ليبقى في مكانه ، أو ينقل للجامعة العربية ، فإن له اثني وعشرون عاما خبرة كمدير عام ، لم يشأ أن يبقي أثره على التدني بمستوى الزراعة ببلاده بل أراد أن ينعم بها الأشقاء العرب ، لكن البطء في استصدار قرار تصديره عربيا ، قد عجل في موته ، فمات وقد يكون قد عرف عن أي شيء إلا الزراعة !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #9  
قديم 20-08-2006, 05:10 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سيد غني الميكانيكي :

تجد بين البشر نماذج بطولية ، لم يتعرف الى بطولتها إلا من كان قريبا منها ، وكونها لم تكن من علية القوم ، فلم يكتب أحد عنها ، ولم تكن تلك النماذج تمارس بطولتها ، ليكتب أحد عنها . فهي كالنمل تتشابه في اللون مع أبناء طائفتها ، وتقوم بتضحيات لتطفئ نارا بجسدها الضئيل ، وهي تعرف أن ليس هناك من يخلدها بالتاريخ ..

كان سيد غني رجلا في الخمسين من عمره ، يتعلم في مدارس محو الأمية ، ويشرف على إدارة قسم المكننة الزراعية ، كرئيس فنيين ، فلديه من السواق ومعاونيهم ست وثلاثون فردا ، كان منهم العرب و الجرجر والشبك و التركمان والأكراد .. منهم من يقود ساحبة روسية ومنهم من يقود ساحبة إنجليزية ومنهم من يقود ساحبة يابانية ، أو رافعة وبلدوزر و مدرجة ..

كانت المكائن الموجودة بأعمار مختلفة ، فمنها من العهد الملكي ومنها ما بعده ، ولم تكن أعمارها تؤهلها لأداء مهامها بكفاءة عالية ، فأعطالها كثيرة ، وقطع غيارها غير متوفرة ، و الحواجز المكتبية و المكاتبات الطويلة تعيق وصول قطع الغيار من بلاد المنشأ بأقل من سنة ..

كل تلك الظروف ، وما رافقها في منتصف السبعينات من مصاعب ، صنعت من سيد غني بطلا ، رغم أنفه ، فلم يكن مسئوليه يعذروه في عدم قدرته على تصليح ما يعطب من تلك المكائن الكثيرة والتي لا يحل محلها ماكنة أخرى .. فكان لزاما على سيد غني أن يشغل مخه و يبتكر وسائلا لتصليح ما يعطب .

كان مبتسما باستمرار ، ذو بنية قوية ، وكذلك من في خدمته ، كانوا يتبارون في إنجاز ما يصعب إنجازه ، بتجريب يكلفهم جهدا عضليا هائلا ، فقد رأيتهم يتناوبون على الطرق على ( مسنن ) ضخم لبلدوزر روسي ، لمدة يومين كاملين حتى لا يكلفوا المنشأة استقدام خبير لاستخراج المسنن ، ولكن في النهاية اتصلوا بأرمني فجاء ومعه جهاز ( هيدروليك) لم يأخذ وقتا سوى ربع ساعة حتى استخرج المسنن الضخم من سلسلة الجنزير الضخم .

كان سيد غني يطوف على عدة محطات في عدة محافظات ( الحويجة/كركوك) و(صندور/دهوك ) و (اسكي كلك / أربيل) .. بالإضافة الى محطة نينوى مقره الرئيسي .. ويعود ليخبر من أرسله ، بأن مهمته تمت بنجاح ..

كان من بين المكائن ، ساحبة بلغارية بقوة 65 حصان ، تسير على جنزير (وليس إطارات) عرضها متر وربع و طولها متران دون المحراث الذي تسحبه ، كان المحراث يدور بقوة المحرك بواسطة مجموعة نقل صنعت من مادة نسبة الكربون بها عالية ، وقد امتازت هذه الساحبة في قدرتها على إزالة الأعشاب في خطوط بساتين العنب التي تزرع على أسلاك و المسافات بين خطوطها لا تزيد عن مترين .. فتزيل الساحبة كل الأعشاب و تهيض الأرض ، دون أن تؤذي الأشجار ، لأن المحراث مزود بمجس لين ما أن يمس ساق الشجرة حتى يبتعد عنها بكل لطف ..

تجمع في نينوى حوالي أربعين ساحبة عاطلة عن العمل من مختلف محطات القطر ، طمعا بأن يقوم سيد غني بتصليحها ، فكان يشخص العيب ، ثم يطلب من مديره تزويده بقطع الغيار اللازمة فيكتب مديره للمدير العام ، الذي يخاطب الوزير ليخاطب وزارة الخارجية ، لتبعث الى السفارة البلغارية ، وتعود الإشارة طالبة إرسال مواصفات وتطول المسألة ليأتي القطار القادم من بلغاريا ، به كل القطع عدا التي طلبت .. وتتكرر المسألة ..

فاجتهد سيد غني بأخذ القطعة و إحالتها لخراطين محليين في عملها من الفولاذ ، وكان ثمن القطعة 3 دولارات ، فاشترى 150 قطعة وأصلح كل ساحبات القطر ، فنال وسام الرافدين من الدرجة الثانية ..

ثم أتى لساحبة روسية ذات ثلاث إطارات تستخدم لغرس (عقلات المشاتل) كانت إذا تحركت يتبعها أكثر من 150 عاملة ليوجهن العقلة باتجاهها الى الأسفل ، فأضاف ترتيبا يتم مناولة العقل أوتوماتيكيا ، دون إشراك العاملات ، فوفر كما هائلا من الأيدي العاملة ، فنال وساما آخرا ..

ثم نظر الى قالعة بطاطا (فنلندية روسية ) .. فكانت تحطم درنات البطاطا ، ويلتصق بالدرنة كم من التراب و الطين مما يقلل من جودتها و يفقد المحصول جزءا كبيرا منه ، فلبس قضبان الماكنة المعدنية بغطاء كاوتشوك ، وأضاف مسنن ، ذا شكل بيضوي ، يزيل في حركته غير المنتظمة التراب العالق على الثمار .. فاستحق وساما ثالثا ..

كان سيد ظريفا لطيفا ، بعد كل إنجاز وبعد أي مكافئة تأتي له أو لمن معه ، يذهب فيأتي بكمية من اللحم والخبز والبصل و يضعهم في قدر ويتركهم تحت شجرة ( توت )عملاقة تقع قرب مضخة على نهر دجلة ، وبعد أن ينضج الطعام البسيط يتجمع جزء من الموظفين والمستخدمين ليتناولوا طعامهم بأيديهم بقصعات ، كانت أطيب من أي مآدب تعمل في قصور .. حتى أصبح هذا العمل تقليدا يتبرع به كل من ينال علاوة من مدير المحطة الى أصغر مستخدم من المستخدمين الستمائة .

كان سيد يروي نكاتا ممن يصدفهن في عمله ، فقد ذكر أنه يذهب للحويجة من أجل تشغيل مضخة عملاقة على (نهر الزاب ) ، وذلك في شهر أيار/مايو ، ثم يعود ليطفئها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني ، وتبقى تلك المضخة التي تصدر صوتا كصوت القذائف المدفعية المتتالية ، تعمل ليلا ونهارا وتزود بما يلزمها وهي تعمل . قال لقد نسيت أدوات التشغيل في المحطة عندما أطفأتها ، فعدت بعد يومين لآخذ الأدوات ، فإذا بمن يسكن بالمنطقة يتوسل به ليشغلها ساعتين من الزمان ، كي ينام هؤلاء الناس .. فقد تعود السكان النوم على ضجيج الماكنة .

طوبى لكل العاملين الأبطال المجهولين ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م