مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 09-11-2006, 08:46 AM
خاتون خاتون غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2006
الإقامة: المغرب
المشاركات: 246
إفتراضي

ربما كان من المستحيل أن يمر ابن حوران على بساتين الزيتون
في هذه الأيام الجميلة، ثم لا يضفي عليها صبغته الفنية


تحياتي لرجل تحبه الأرض أكثر مما يحبها
خاتون
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 22-11-2006, 07:54 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

في معصرة الزيتون :

هناك أعمال تدوم بدوام صاحبها في مزاولتها، فنقول حراثة وحرَاث طالما أن يكون هناك من يحرث، ونقول مؤذن طالما كان الأذان يؤدى، ولكن لن يستطيع أي كان التعرف على المؤذن وهو يسير في الأسواق، دون أي يكون من ينظر إليه ليس على سابق معرفة به.

كما هناك أعمال تؤدى في مواسم دون غيرها، وتنتهي بنهاية الموسم، وقد تحتاج الى مكائن وآلات خاصة، فماكنة الحصاد للحبوب لا تستخدم إلا في الصيف عند نضج الحبوب واصفرار نباتات القمح والشعير وغيره، فيقوم أصحاب تلك الآلات بتوظيبها وتهيئتها قبل الموسم بمدة بسيطة.

كذلك هي مكائن وآلات عصر الزيتون والمحاصيل الزيتية، والتي جرى عليها تطوير مستمر منذ عهد الإنسان في استخراج الزيوت من المحاصيل الزيتية، فمن فكرة التكسير و الطحن والعجن والتخمير الى استخدام خاصية التباين في الكثافة الى استخدام خاصية الطرد المركزي المستخدمة حاليا، إذ تطرد السوائل المستخلصة من العمليات المتعاقبة ذات الكثافة العالية من خلال مخرج خاص بها لتنساب قطرات الزيت المتجمعة من فتحة خاصة قريبة من المحور الرئيسي لجهاز الطرد المركزي.

يكثر حديث الناس الذين يرتادون الى تلك المعاصر، في حساب أرباح أصحابها فيضربون عدد خطوط الإنتاج بالطاقة الإنتاجية، ثم بأجرة المعصرة، ويقدرون أرباحا مبالغا فيها لأصحاب المعاصر، شأنهم في ذلك شأن كل الناس في كل شيء فإن مروا بمحطة للوقود أشغلوا أنفسهم بكم سيارة تقف بالساعة ويضعون هامشا للربح ويحسبون، وكأنهم يعملون بدائرة ضريبة الدخل ..

لكن الحديث والحساب لن يدوم، فكما يفكر بعض أبناء العشائر ببناء ديوان للعشيرة إذا ما توفي عندهم أحد، وبعد أن تخلص أيام العزاء تتبخر الفكرة لحين وفاة أخرى. ولكن تكرار تلك العمليات الحسابية والأفكار هذه قد تدفع بمغامر أن يحول تلك الأفكار لإجراء.

عندما وصل الى معصرة الزيتون، رأى أكداسا من أكياس الزيتون مكومة مع فواصل بسيطة فيما بينها، لتبين حدود ملكية كل زبون، ورأى أصنافا مختلفة من الناس فمنهم من يقف بملابس فاخرة ويتأفف من التماس مع أكوام الأكياس التي ينز الزيت منها، وعندما يخطو يخشى على أطراف (بنطاله) من أن تعشق شيئا من لزوجة الأرضية، التي لم تعد بلاطاتها تظهر من كثرة ما التصق بها من بقايا سحب الأكياس وأقدام المارين ..

قبل عدة سنين، كان مزارعو الزيتون يذهبون لمسافات تصل الى مائة كيلومتر وراء شهرة إحدى المعاصر، فقد تنتشر الإشاعة بأن تلك المعصرة أفضل معصرة بالبلاد لما تعطي من نسبة عالية من الزيت، وقد يضيف من ينشر تلك الدعايات قصصا عن معاصر زارها وكيف أنه رأى أحد المزارعين أحضر أكثر من طنين من الزيتون دون أن يحصل على قطرة من الزيت، ويكثر الحديث بالدواوين عن أنواع الزيتون الذي يعطي زيتا وفيرا، وعن مواعيد قطف الزيتون وغيرها من المهارات التي لم يكن فيها من الصحة إلا القليل ..

واليوم بعد أن زادت أعداد الأشجار حوالي أربعين ضعفا عما كانت عليه قبل خمس وعشرين عاما، فقد يسجل أحدهم اسمه ويشترط عليه إداريو المعصرة أن يحضر زيتونه، وقد يتناوب على حراسته انتظارا للدور حوالي خمسة أيام، خصوصا أيام أوج الفيض، أو أن يصادف عطلة ما، فإن القطف سيزداد من الموظفين وطلبة المدارس ..

كنت تلاحظ عجوزا تسند ظهرها على مجموعة أكياس وهي مغمضة العينين، وتسمع حوارا بصوت عالي قرب (قادوس) الزيتون عند بداية الخط، وأيدي تمتد لتزيل أوراق الزيتون قبل أن يرفعه(السير) للغسيل و الطحن، وتلاحظ هناك من يفاوض أحد العاملين ليقدم دوره على الآخرين، وتلاحظ رجلا (فني) منكوث الشعر بوجه غاضب يحمل أدوات لفك قطعة من أحد الخطوط، وتلاحظ أحدهم يراقب (عجنته) في قادوس قبل أن تتهيأ لدفعها الى (جهاز الطرد المركزي)..

وتلاحظ أحدهم يجلس على كرسي ومركز ناظريه على سيلان زيته من أنبوب ليستقر في عبوة، في حين تصطف عدة عبوات مليئة بالزيت وراءه وبالقرب منه، وهناك من يزن زيته ويتحدث الى الإداري، ولما أصبحت حصتكم واحد من ثمانية ألم تكن في العام الماضي واحد من إحدى عشر، والإداري يبرر ذلك بارتفاع فواتير الوقود ..

وهناك من يحسب زيته ويحاور نفسه، عمال القطف أخذوا خمس الإنتاج وهؤلاء سيأخذون ثمن الإنتاج، سأبعث الى أخواتي كذا وسأعطي فلان كذا، فينتبه على صريخ أحدهم .. السيارة التي تريد أن تفرغ الماء تعيقها سيارتك .. أبعدها أخي لو سمحت ..

وهناك من تحمل بيدها وعاءا صغيرا تطلب المساعدة وملئه ممن يعصرون، وهناك من يراقب الأدوار وليس معه زيتون، ليجد غفلة من زمن ليأخذ كيسا من زيتون ويضعه الى جانبه ..

وهناك من يأتي بساحبة (تراكتور) ليملأ عربتها ببقايا عجينة الزيتون التي لفظتها المكائن خارج مبنى المعصرة، ليطعمها لأغنامه ..

هذا عالم المعصرة الموسمي ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 02-12-2006, 06:43 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

مندوب المبيعات

في العادة يذهب الناس لمكان السلعة ويطلبونها في الأسواق، لكن أحيانا تأتي السلعة لعند الناس أو يأتي من يبشر بها ويصنع لها الدعاية، وهذا النمط من الخدمات ليس حديثا، فإن حمل السلعة والطواف بها كان يتم قبل سوق (عكاظ)، واستمر بأشكال حتى تطور لهيئات مختلفة، فلا زلت أذكر عندما كان يطوف قبل أربعة عقود مربي الماعز بين حارات المدن ليحلبوا ماعزهم أمام المشتري حتى يلفُوه بهالة من الثقة بعدم الغش ..

لكن أن يمتهن صبايا وشباب بعمر الورد تلك المهنة ويحملون معهم حقائب كبيرة لا يستطيع حمار أن يحملها، ويضعونها برفق وابتسامة تمرنوا عليها جيدا ويرددون كلاما يطلب الصفح والاستئذان ممن يقتحمون عليه المكان سواء كان في مكتب أو بيت أو غيره، ويسارعون في إخراج أفضل ما لديهم من سلع تتناسب مع موسم ما، فدفاتر أو أقلام أو مساطر في موسم افتتاح السنة أو الفصل الدراسي، وسكاكين وأدوات مطبخ قبل موعد الغداء، لارتباط تلك الفترة بفقدان الموظفين للياقتهم البدنية وتهيؤهم للذهاب لتناول الغداء، وما للسكاكين علاقة بذلك .. وأحيانا يستخرجون زجاجات من (عطور) مغلفة بشكل جيد ويفتحون واحدة تلو الأخرى، ويرشون بعض(بخات) منها على يد الزبون، وكأنهم في تمرين للتنويم المغناطيسي، مع ذكر السعر الذي لا يساوي عُشر زجاجة عطر معروفة وتحمل نفس الماركة، وهي حيلة باتت مبتذلة .. كل ذلك كان مستجدا وحديثا برز خلال عقدين من الزمن.

عندما أوقف سيارته الفارهة أمام المكتب، ونزل منها كان يحمل معه عكازا أنيقا يتناسب مع ملابسه الأنيقة، وإن كان عندما يسير يظهر لمن يراه أنه تعرض لحادث كسرت فيه أكثر من عظمة رئيسية، وثبتت بواسطة براغي وقطع معدنية، و يخيل لمن يراه يمشي، أنه يسمع صريك احتكاك القطع المعدنية..

كان مدير المكتب منشغلا في عمل كتابي، في حين كان يجلس على بعد مترين منه أحد الزوار الدائمين الذين استنزفوا مبررات تواجدهم منذ مدة، وهؤلاء كثر يترددون على المكاتب والمتاجر وأحيانا (صالونات الحلاقة)، بشكل برنامج يومي فتبدأ سهرتهم في تلك الأمكنة منذ التاسعة صباحا.. كان يستغل انشغال مدير المكتب بعمله، ليدخل عقلة كاملة من سبابته في أحد فتحتي منخاره، عندما تفاجأ بدخول هذا الرجل المكسَر، والذي يصطحب معه فتاة قد أعياها الجهد حتى دخلت في ملابسها الضيقة و الملونة بألوان غريبة.. فأخرج عقلة أصبعه من فتحة أنفه ليتابع ما رأى..

قامت الفتاة بتقديم السيد (المكسر) الذي ينتهي اسمه باسم عائلة معروفة لمدير المكتب، الذي بادر بسؤاله: هل تعرف فلانا وفلانا؟ ، فأجاب نافيا بابتسامة تدرب عليها جيدا، وقال أنها عائلة كبيرة وتتوزع في عدة مدن، بل بعدة أقطار. ثم انتقل بطريقة محترفة بسبب زيارته، وكانت الفتاة التي استخرجت جهاز كمبيوتر (نقَال)، تعمل معه ثنائي يعرف كل منهما دوره جيدا.. وقد عرضا خدماتهما بأنهما يقومان بتزويد الشركات بدفاتر وأقلام وولاعات وأدوات مكتب، وعرضا منها عينات ممتازة، وكان السعر أقل من الأسعار لسلع مشابهة بحوالي الثلث، فوافق مدير المكتب على عرضهما، وقد يكون تأثير الفتاة التي استخرجت عقلة الأصبع من أنف صاحبها لها دور ..ولم يأخذوا قيمة الصفقة التي بلغت حوالي ستمائة دولار، نقدا، بل بشيك مؤجل لثلاثة شهور، وبعد ثلاثة أيام جيء بالمطلوب الذي تم الاتفاق عليه ..

وفي السنة الثانية تكررت القصة مع نفس الشخصين .. وتم زيادة المطلوب من المواد الدعائية .. كما قام مدير المكتب بخدمة لهما أن أعطاهما بعض عناوين المكاتب ليعرضا خدماتهما عليهم، وهو نفس الدور الذي قام به في العام الفائت، إذ تم تعريفهما بعدة أسماء وعناوين وأرقام تلفونات ..

في السنة الثالثة، وبعد أن اتصل مدير المكتب بالمكسَر على هاتفه الجوَال، حضر ومعه عدة العمل بما فيها الفتاة ضيقة الملابس، وعرضا نماذج من سلع وأدوات دعائية فاخرة جدا، وبأنها بسعر منافس بالسوق، وعليها عرض فيما لو تم الدفع نقدا، وكان الفرق بين النقد والأجل يعادل الثلث تقريبا، على أن يجري التسليم بعد أسبوع، ووافق المدير (المضبوع) بالعرض، ودفع لهما شيكا يصرف بعد أسبوع ..

لكن الأسبوع ذهب، وذهب معه الأسبوع الثاني والثالث، واتصل الذين ينعمون بتلك النماذج الدعائية التي توزع قبل رأس السنة، أين حصتهم من تلك الهدايا؟ والمدير يحاول الاتصال بالمكسَر، عسى أن يجيب، ولكن لا إجابة..

وعندما استفسر من بقية الذين كان يتردد عليهم المكسَر وجدهم قد وقعوا في نفس الشرَك، وانتهى موسم توزيع الدعايات وانتهت الرغبة في البحث عنه!
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 24-12-2006, 06:08 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

الشيخ حمدان

قد يستغرب البعض أننا وضعنا عنوانا بهذا الشكل، فيستطرف من يريد الاستطراف غامزا، بأن هل من يصبح شيخا سواء بإرادته أو إرادة غيره، هل يعتبر ذلك عملا ويُدرج مع الأعمال؟

كان الشيوخ في الزمن القديم يتم اختيارهم من بين مجموعة عقلاء ووجهاء عشائرهم بأفخاذها وبطونها، فيكون هناك شيخ وشيخ مشايخ، وكان للشيخ وظيفة قيادية متعددة الجوانب، فله دور أمني وثقافي واقتصادي و قضائي، فهو الذي يأمر بالرحيل والإغارة على الغير، وهو من يعبئ القبيلة تعبئة معنوية وهو الذي في ديوانه يقال الشعر والقصص والروايات التي تحمل في ثناياها معاني ذات قيم، وهو الذي يلجأ إليه المحتاج من أبناء القبيلة وهو الذي يقيم جلسات القضاء بين المتخاصمين، وهو الذي يستجير به الغرباء المحتاجين لحمايته، وهو الذي يحضر المناسبات خارج قبيلته، فينقل لأبناء قبيلته ما سمع أو رأى، وهو الذي يعقد الأحلاف مع الغير ..

وكان الناس يقرون بالدور له طالما كانت قراراته صائبة، وطالما كان ذا نخوة وطالما كان عفيفا كريما لا يستأثر بالخير لنفسه، شجاعا يقود من يذود عن شرف العشيرة، ذا أنفة فلا يفتخر بفعل الغير بل بفعل فرسانه. كل ذلك كان يتم عندما تكون آثار الدولة بعيدة عن التأثير في أفراد العشائر وقبائلهم، فكانوا يضعون قوانينهم بالقياس و يتذاكرون بها بالمشافهة.

في العصر الحديث، لا يستغرب أحدكم إذا قيل على مسمعه أن هناك من يفكر ليلا نهارا في أن يكون شيخا، فقد ترى في أرياف بعض البلدان العربية من يحمل (عريضة) ليوقع عليها أكبر قدر ممكن من الناس يؤيدون شخصا ليكون شيخا، وعندما يصدر أمرا من الحاكم الإداري المخول بمثل تلك المسائل، فإنه سيضع قطعة على باب بيته تقول: منزل الشيخ فلان، وقد تسوِل له نفسه أن يكتب على عباءته التي يلبسها الشيخ فلان.. وقد يتجول بين الدوائر الحكومية يوميا، يدخل على المدير قائلا له : (حق سلام) أي جئتك لألقي عليك السلام فقط، ويردف قائلا: ( جيرة الله نتناول طعام الغداء في معيتكم) .. وينتقل بحركات مبتذلة بين الدوائر والأسواق، ولا يتوانى عن حضور أي مأتم أو عرس أو مراسم صلح أو غيرها .. ومع ذلك يبقى مجالا للتندر لدى الكثيرين.

لكن الشيخ حمدان لم يفعل ذلك أبدا، ولم يجمع تواقيع أحد لكي يصبح شيخا، ولكن الدولة والحكام الإداريين والقاصي و الداني يعترف له بالأحقية أن يكون شيخا، كان مبتسما باستمرار دون أن تظهر أسنانه نهائيا، كان في السبعين أو أكثر قليلا من عمره، لكنه بعد عودته من صلاة الفجر، حيث يواظب على الصلوات الخمس في المسجد يبقى يردد بين كل عدة خطوات (لا إله إلا الله) .. حتى يصل بيته، فيفتح مضافته (ديوانه) فيحمس القهوة ومن ثم يدندن بصوت (الهاون) وهو وعاء نحاسي ثقيل يسحن به القهوة أولا بأول .. ويركب (إبريق) الشاي فوق الفحم يتجمع حوله مجموعة من أقاربه في مثل سنه أو أقل قليلا، وواحد من أبناءه الستة أو أكثر، حتى تحضر زوجته (الحجة) الإفطار للجميع، ويكون بيضا مقليا بالسمن العربي وبعض اللبن وأحيانا بعض الكبد المقلي أو ما وجد في البيت ..

لو تفحص أحد المتابعين لهذا الشيخ كلماته التي يرددها في مناسبات مختلفة وما أكثرها، فإن كلفه أحد بأن يعيد (زعلانة) من زوجها أو أن يذهب لخطبة فتاة لأحد الشباب أو يتوسط لأحد المواطنين عند الشرطة أو في دائرة ما، أو يذهب مع أحد المرشحين للبرلمان لجمع المؤيدين وطلب الأصوات، أو أن يدخل في وساطة صلح عشائري كقتل أحد أو غيره، فإن صيغة الكلام في كل المناسبات تكاد تكون متشابهة .. فهو بعد أن يشير الجميع أن يوضع فنجان (الجاهة) أمامه فإنه يبادر بالكلام : ( نحن نتشرف أن أتينا الى بيوتنا .. وكما يقول المثل المصارين بالبطن تتقاتل.. واثنان غانمان لم يصلا قاض) .. هذا في حالة الخصام ورد من تخاصم زوجها.. وحتى في حوادث القتل .. وعندما يريد أن يطلب أصوات لأحد فإنه يقول : ( نحن نتشرف في بيوتنا .. وكما يقول المثل فإن عصانا وعصاكم واحدة ) أي نحن في طيلة حياتنا حلف ..

والعجيب أن الشيخ حمدان والذي تم انتخابه خمس مرات للمجلس البلدي، كان هو الوحيد في أي كتلة انتخابية الذي لم يخفق (يرسب) في أي انتخابات. كان المثقفون يتندرون من أن يتصدر أمثاله المجتمع المحلي، لكن ما أن تحدث مشكلة مع مثقف حتى يسارع الى الذهاب إليه ليذلل له خطبة (عروس) أو يحل له مشكلة (دهس) أحد .. فهم يعرفون جيدا أنه رغم قلة حيلة الرجل الثقافية والمنطقية ، إلا أنه لم يدخل في أي موضوع إلا انتهى لصالح من طلب معونته ، حتى غدا معظم أصدقاءه من المثقفين ..

كان المثقفون يجلسون لمناقشة تلك الظاهرة، فيبتسم أحد الظرفاء منهم ، ويحاول إنها الحديث بقوله: إنها (الكاريزمية) .. فهي لا تعرف شهادة جامعية ولا تعرف مال ولا تعرف قوة عضلات .. إنها (الكاريزمية) ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 24-01-2007, 06:47 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

موظف الضمان الاجتماعي

الإنسان كائن معقد مهما تشابهت الألوان ومصادر المعرفة وعوامل الوراثة فإن أي إنسان لا يتطابق كامل التطابق مع أي إنسان آخر.

في بعض الأحيان يُنظر للإنسان كأنه نسخة مكررة من مجموع هائل، فحتى يمكن تمييزها عن الآخرين سيعطى للنسخة رقم وتسلسل يميزها عن غيرها، فيصبح بني آدم كأنه (موتور أو شاصي) لسيارة يحمل رقما يثبت على بطاقته الشخصية و يتم تلطيف هذا الرقم بإضافة كلمة أخرى له ليصبح (الرقم الوطني) وكأن هناك (رقم عميل أو خائن) ..

كثيرة هي المجالات التي يتم التعامل بها مع الإنسان كرقم، فأيام الانتخابات توضع الأسماء وبجانبها أرقام (تكون أهم من الأسماء) في جانبها، فيتساوى الأهبل والمخترع و القائد والأصم في (الحقوق)، ففي وقت الفرز، الأهبل له صوت يضاف لحصيلة مرشح والعالم له صوت مثله.

في الضمان الاجتماعي، وهو اختراع لا أتوقع له مستقبلا زاهرا، وإن كانت صناديق الضمان الاجتماعي في بداية حياتها تتباهى في ضخامة حجم موجوداتها المالية، والسبب في ذلك أنها تأخذ حصص المشتركين ولا تدفع لأحد، ولكن بعد مرور الوقت ستجد تلك الصناديق أن ما تدفعه يفوق كثيرا ما تأخذه. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا كان قبل 15 عاما يدفع 16 مشترك ليأخذ من الصندوق مشترك واحد، واليوم يدفع 16 ليأخذ ثلاثة وبعد 18 سنة سيدفع واحد ليأخذ مقابله واحد .. وستصبح الصناديق تطلب المعونات من الخزينة..

عندما دخل دائرة الضمان الاجتماعي، لم تكن هي الدائرة التي زارها لأول مرة عام 1990، فقليل من الموظفين قد بقي على رأس عمله، ولكن (الأضابير) زادت، حتى أصبحت كأنها بلاط رصف على جانب طريق في يوم ماطر، تستطيع رؤية كثرتها دون القدرة على قراءة ما كتب على حافة الإضبارة. بحث عن أحد ما، حتى يسأله ويكون على معرفة به سابقا، فلم يكمل جولته في الوجوه المنكبة على أرقام.. فبادرته موظفة شابة (تفضل عمي) .. فأخبرها باسم الشركة التي يراجع من أجلها، ولكنها لم تستفد من ذلك، إذ طلبت الرقم الخاص بالشركة.

اكتشف أن هناك وجها، تدل ملامحه بأنه سبق وأن تعرف عليه، فحالت المدة بين آخر مرة رآه بها، حيث كان يبعث موظفا بدلا منه .. وبين اللحظة التي رآه بها للتو، فبادره الموظف (أهلا باش مهندس) .. فتوجه نحوه تاركا الفتاة تنتظر رقم شركته .. طلب الموظف منه الجلوس بجانبه على أريكة تتفوق على كثير من المقاعد المجاورة للمناضد (حيث يجلس المراجعون) .. فأخرج له من حقيبته بعض هدايا رأس السنة .. فقبلها الموظف شريطة أن يقبل منه كوبا من الشراب الساخن.. ناوله بعض المعلومات التي طلبته الدائرة من أجلها، فالتهى الموظف بمراجعة ملف الشركة ..

كانت القاعة واسعة تنتصب على أطرافها رفوف بشكل جدران محشوة بالأضابير، وكان هناك ما يزيد عن عشرين منضدة، تعتلي قسما منها أجهزة حاسوب، ويربض وراءها موظفات أو موظفون، يعرفون حدود صلاحياتهم بالأرقام، ويحددونها ليس جغرافيا بل رقميا، بعكس سيطرة أسود الغابة التي تحدد ببولها منطقة السيادة (جغرافيا) ..

كانت بعض الموظفات تخرج سخانا عملت به بعض الشراب الساخن لترتشف منه بواسطة كوب (بلاستيكي) لم يغسل جيدا، طالما أن استعماله قد حصر بمالكته. وكان يجلس في مكان قريب شخص يلبس (سترة ) لا يستطيع الإنكار أنه ابتاعها من (البالة) .. وهو يسأل: كم 18ألف ؟ فتجيبه الموظفة التي سكبت لنفسها كوبا من السائل الساخن، دون أن تعرض عليه بعضه: نعم 18ألف .. إنكم لم تلتزموا بالتسوية ولم تدفعوا أقساطكم بانتظام.. كانت دائرة الضمان ماكرة في تلك المسألة.. إذ أنها لم تصر على مطالبة باستحقاقات الدفع لتضيف على المكلفين 2% من قيمة الذمم المترتبة عليهم شهريا كفوائد .. أي بفائدة سنوية تصل 24% .. وكيف لا وهي تعرف أن معظم استثماراتها ـ عدا العقارية منها ـ فاشلة، ولا تصل نسبة استثمار الصبر على المكلفين (بمكر).. وهي دائرة حكومية، فلا خوف على ديونها من المكلفين، فهي تحجز على أموالهم بالبنوك وعلى عقاراتهم وتعطل معاملاتهم دون أن يسووا وضعهم!

أقبلت امرأة بالأربعينات من عمرها بجلباب بني فاتح وحجاب ثبتته بطريقة قوية جعلت وجهها الأبيض المليء باللحم أن يبدو وكأنه وضع له إطار إضافي من اللحم أيضا، كانت عيناها الواسعتان تنبئ من يراها بأنها في حيرة من أمرها، هل وضعت ملحا على ( طنجرة المحشي) التي أعدتها في المساء لتضعها على النار بعد انتهاء دوامها أم لا!

رمقت الموظف المشغول في مراجعة الملف، وهمهمت: الهدايا لناس وناس، تكرمي قال لها ستصلك حصتك ..

رفع الموظف رأسه وبادرها بعرض الهدية عليها، فهم المراجع بأن رتبتها الوظيفية أعلى من رتبة من ركن إليه .. تداخل اعتذارها مع طمأنة المراجع بأن حصتها ستصلها.. طلب الموظف من المراجع أن يخرج ختم الشركة ويوقع في أماكن أشار إليها الموظف .. فعل المراجع ذلك وغادر ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 15-02-2007, 03:15 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

في مكتب السجل التجاري

فرح عندما ناولته الموظفة التي تجلس خلف جهاز الكمبيوتر بعض الأوراق، مع كلمة فهم منها أن مشواره في طلب تلك الأوراق قد انتهى، وما عليه إلا أن يوقعها من مدير الدائرة و يذهب ..

بعد أن وقعها المدير، وأعطاه نسختين، لم يدقق بهما، ولم يشأ أن يطويهما حتى لا يفقدا رونقهما، بل حملهما بحذر، كأنه يحمل طبقا من بيض الدجاج، وفتح باب سيارته ووضعهما بجانبه، وانطلق، كان الوقت بعد الظهر بحوالي ساعة، وكان عليه أن يمر فوق طريق يصل فيه بلدته، حيث هناك مقبرة لمركز المحافظة. ومعلوم أن موكب السيارات التي تتبع الجنازة يكون من يقود السيارات فيها منضبطين بجلال الموقف، فيسير الموكب بانتظام و هيبة لا تعيق من يشاركهم الطريق كثيرا، ولكن وقت عودتهم لن يكونوا منضبطين، فيسقط عنهم الوقار و يتسابقون بسرعة حتى ينتهوا من تلك المراسم التي تدخل تحت باب الواجب وليس تحت باب المسئولية ..

كان عليه أن ينتبه لمثل تلك الفوضى في الطريق الذي تزامن مروره به، مع انتهاء مراسم الدفن، لأن الطريق ليس بمسربين بل بمسرب واحد للقادم والمغادر، وكان وراءه شاب يتحين الفرصة لتجاوزه في سيارة حديثة، ولا تدري ماذا يدور في رأس ذلك الشاب، أتراه يريد أن يثبت أنه قادر على المناورة بنجاح بين تلك الأعداد الضخمة من السيارات، أم وراءه مهمة مستعجلة، أم أنه في حاجة للدخول للحمَام؟

كانت هناك لحظات تتوقف به طوابير السيارات، لإفساح المجال لأحد المعيقين للمرور، ففي أثناء توقفه، سرق نظرة ليرى ما كُتب على شهادة السجل التجاري التي أحضرها .. ابتسم ثم تضايق .. لقد رأى البيانات المكتوبة بخط بارز على ورقة فاخرة : نوع التجارة: صناعة الأعلاف الجاهزة والمخلوطة، المدينة: كذا، رأس المال: كذا.. المفوض بالتوقيع: صاحب المطعم .. هنا ابتسم متذكرا تلك النكتة التي تروى عن غبي يسأل صاحبه: (النمر أسرع .. أم الزرافة أطول؟).

أما سبب غضبه فإن الجهة التي طلبت الشهادة قد ترفضها لهذا السبب، فما علاقة صاحب المطعم بالمصنع، ربما لن يسألوا فالأعلاف تعني إطعام الحيوانات وصاحب المطعم هنا هو نفسه صاحب المصنع ..

لكن ما الذي جعل الكمبيوتر يُخطئ في ذلك؟ ومن يقول أن الكمبيوتر هو من يقوم بذلك؟ .. إن مناولة الكمبيوتر للمعلومات هي المسئولة عن ذلك .. وقد تكون كلمة مطعم قد أدخلت في حالة جوع للموظف أو الموظفة ..

استعاد في ذاكرته كيف كان حال تلك الدائرة قبل تسع سنوات عندما زارها قبل تلك الزيارة، كانت غرفها أقل وهناك جهاز كمبيوتر واحد، يضعه المدير على المنضدة أمامه، ويضع على رأسه غطاء سميكا وعقالا بحجة برودة الطقس، كان المدير وقتها ضخما ووجهه مليء باللحم والشوارب، ولا يوحي وضعه أنه يتقن التعامل مع ذلك الجهاز، وعندما دخل عليه خلسة كان ذلك المدير يلعب الورق على الجهاز، ولم ينتبه لدخوله، وقد يكون استدرك تلك الهفوة فاستخدم حاجبا يقف على الباب لمنع المتسللين لتخريب خلوته ..

لقد انتقلت الدائرة الى مكان آخر، غرف مكانه على ما يبدو قد تم تفسير مخطط البناء لها بشكل مقلوب، فمخططات البناء عادة تكون غرفتين نوم وحمام أو ثلاث غرف نوم وحمام أو عشر غرف نوم وحمامين، لكن هذا البناء قد وضع فيه عشر حمامات و غرفتي نوم .. ولكن الغرف قد خلت من أطقم الحمامات وأنابيب المياه، فأبعاد الغرفة الواحدة (التي هي على ما اعتقد كانت حماما) مترين بمترين و نصف .. ولا أعلم لماذا اختيرت تلك البناية لتكون دائرة!، قد يكون اختيارها آت من دراسة سيكولوجية عميقة، فالموظف يبدو للمراجعين أنه أكبر من الغرفة .. وهي دلالة تترك انطباعا يجعل المراجع ينظر نظرة تعظيم لذلك الموظف .. بخلاف الموظف الذي يكون المكان الذي يجلس فيه واسعا، حيث يضيع بتلك المساحات ويتوزع الكادر ( والكادر هنا مصطلح يستخدمه المصورون والمخرجون في التصوير السينمائي).

لم يكن بالدائرة الجديدة نظام للتدفئة المركزية، وعليه فقد خُصص للدائرة مستخدم مسئول عن العناية بالمدفئات النفطية، فخلال الساعة لاحظته أكثر من ثمان مرات، إما يخرج مدفئة أو يدخل مدفئة، كان أصلعا ذا جسم مليء، وكان يغيظه وجود مراجعين اثنين بالعشرينات من عمرهما لهما صلعتين كأنهما قاما باستيرادهما استيرادا، ولا أدري لماذا طغى الصلعان هذا اليوم على جمهور المراجعين .. كانت الشفة العليا لأحدهما تطغى على وجه صاحبها الذي كنت أعتقد أنه أخ شقيق للأصلع الآخر .. لكنه تبين من خلال تلك الشفة أنه ليس على صلة بالآخر ..

في الممر الضيق حيث طُلب من المراجعين أن يجلسوا على المقاعد فيه، لا يستطيع اثنان أن يخطوا بجانب بعضهما لأن المقاعد المتقابلة ومن يجلس عليها سيعيق حركتهما فكان المار من الممر يتوجب السير فردا، تماما كما هي الحال في جوف الأسلحة النارية..

سيكون وجه من يجلس منتظرا، يقابل وجه من يجلس أمامه، كان الذي أمامه والد أحد الأصلعين، سأله: كيف الحال؟ أجاب بتثاقل : الحمد لله .. هناك متسع من الوقت، حتى لو كان حماس والد الأصلع غير متوفر في طرح الأسئلة، لكنه أصر على طرح سؤال آخر: أين أيامك؟ فأجابه بما يلاءم صيغة السؤال: مكانها..

يقبل من طرف الممر رجل قياساته أكبر من قياسات الممر، كان يحني ظهره، لا لأنه كبير في العمر، بل هي خصلة الطوال الذين يدخلوا من أبواب تتساوى مع أطوالهم، كان يسير واضعا كامل قدمه على الأرض، وبطريقة، كأن من يراه أمام إعادة مشهد على البطيء ..

انتهى موكب سيارات الجنازة .. وكان عليه أن يفكر في زيادة سرعة سيارته طالما أصبح الطريق أكثر أمانا ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 04-05-2007, 06:32 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

القصير (المبيض أو الملبس )

في كثير من الأمور تختلف التقييمات، من شخص لشخص، ومن متكلم لآخر، وأحيانا تختلف التقييمات لدى الشخص نفسه تجاه مسألة واحدة، لكن توقيت التقييم، هو الذي تغير .. وهذا معروف منذ القدم ..

في قضايا التصنيف الاجتماعي، تختلف النظرة السريعة تجاه شخص أو فئة كاملة، وقد يحاول صاحب النظرة أن يعمم نظرته لتصبح قانونا ثابتا، وقد تكون السرعة في تلك المسائل هي ما تجعل العالم مضطربا منذ الأزل ..

فلو نظرنا مثلا لعقائد الشيوعيين ونظرتهم للحياة، والتي تزعم في كل نظرياتها أنها تنحاز لفكرة العدالة، وإنصاف المسحوقين من مواطني العالم، لكننا لو فحصنا الضمانات التي تجعل من يقرأها أو يسمعها أو يطلع عليها والمنسوبة للشيوعيين ، لوجدناها معدومة، فلا توجد ضمانات لثبات تلك الصفة عند المدعين لتلك الأفكار. والدليل أن من قاد الاتحاد السوفييتي للانهيار هم قياداته التي تربت وترعرعت وصعدت في تسنم مراكز السلطة فيه، وهي فترة قصيرة إذا ما قيست في أعمار الإمبراطوريات، ولم يكن (جورباتشوف و شيفرنادزه، ويلتسين) مندسين في صفوف الشيوعيين ..

قد يتعجل من يبشر بعودة الحكم ذي الطابع الديني، ويقول إن الالتزام الأخلاقي، يرتبط بشكل ما بالالتزام بالدين، وكنا قد رأينا عبر التاريخ، كيف أنه، حتى هذا النوع من الحكم قد تفتت و هوى، كما هوت وتغيرت كل أصناف الحكم في العالم وعلى مر التاريخ ..

أحيانا تنحاز فئات مثقفة، الى الوقوف الى جانب العمال، لثقافة أخذت مكانها في نفس المثقف، ولكن هذا المثقف، قد تكون صورته لدى هؤلاء العمال بأنه حالم برجوازي، ولا يحتاجه العمال لأن يكون نصيرا لهم، فتكون صورته لدى العمال من السوء بمكان بحيث لا يتوقع هو تلك الصورة، وإن اكتشفها فإن صورة العمال لديه، قد يجري عليها تعديل وفق ذلك الاكتشاف، وإن حدث هذا التعديل، فإن عيبا في ثقافة المثقف قد تكون منذ البداية في تكوينه الثقافي دون أن يدري ..

القصير أو المُبَيِض أو المُلَبس، هو ذلك العامل الذي يقوم بتغطية الجدران والسقوف المبنية حديثا، بطبقة من الإسمنت والرمل، وأحيانا من الجبصين أي الجير المطفي كما يحدث في بعض المناطق بالعراق ويطلقون على العملية اسم (اللبخ) .. يحتاج العامل فيها الى لياقة كبيرة وصبر وحذر، فأحيانا تجده معلقا على واجهات بنايات على ارتفاع عشرات الأمتار، يثبت قدميه على لوح من الخشب عرضه لا يزيد كثيرا عن القدم، وعليه أن يقوم بعدة مهارات في آن واحد، أحدها وأهمها تتعلق بحفظ توازنه وعدم نسيان أين يقف، والثانية أن يتفقد المساحات التي أمامه، ليغطي شقوقها بإتقان دون أن يجعل السطح مموجا، وعمليات أخرى تتعلق بإعطاء الأوامر وتلقي الكتل المجبولة ليتزود بها في إنجاز عمله .. إنها مهمة ليست سهلة بطبيعة الحال، ومن يمتهن تلك المهنة لا يقوى على الاستمرار بها الى مالا نهاية، بل يتقاعد بسن مبكرة، وعليه أن يعرف الأجر الذي سيتقاضاه نظير عمله، حيث لا تقاعد ولا ديمومة طويلة لمثل هذا النوع من الأعمال ..

من يساعد هذا العامل الماهر، يكون عمال من الشباب الذين لا تزيد أعمارهم عن خمس وعشرين سنة، وهم يبذلون جهدا مضاعفا، في تحضير خلطات المواد، ومناولتها لمن يقوم بهذا العمل، ويتلقون منه الأوامر ويتقاضون أجورهم باليومية، في حين يتقاضى (المعلم) أجرته على المساحة، وعملية حساب المساحة معقدة، لا تقتصر على ضرب الطول بالعرض، فزوايا العمدان لها حساب والنوافذ والبرزات لها حساب، وأي سطح دائري له حساب، والعامل المساعد للمعلم عندما يحسب ما يتقاضاه معلمه ويجده يزيد أضعافا مضاعفة لما يتقاضاه هو، تتكون لديه مشاعر مركبة فهو يطمح أن يصبح معلما مشهورا يحيل عليه المهندسون والمقاولون أعمالا تدر عليه بعض الربح، ولكنه في نفس الوقت لن يكون مبتهجا ليكون مصيره معلم (قصير أو مبيض) .. لطول الفترات التي يمضيها دون عمل، واحتمالية عدم حصوله على الشهرة، وبنفس الوقت الجهد العضلي المبذول في تلك المهنة الشاقة والمخاطر التي قد يتعرض لها نتيجة السقوط أو الإصابة .. ولقلة خياراته في إيجاد عمل له، يضطر للصمت والطاعة لمعلمه .. لكنه يخفي بعض عدم رضاه عن صاحب العمل، والنظر الى معلمه على أنه يستثمر جهده بشكل غير عادل .. وهذا الشيء نجده أحيانا عند أطفال الفقراء المحرومين عندما يقشطون دهان سيارة حديثة وفارهة بواسطة مسمار أو قطعة معدنية، تعبيرا عن عدم رضاهم في توزيع الأرزاق بين البشر ..

عندما جاءت الورشة لإنجاز (تبييض) جدران وسقف صغير، لا تزيد كل مساحتها عن مئة متر مربع، وهي حمام إضافي لمكتب يقع فوق سطح فرش بالبلاط، وأقيم عليه مكتب منذ مدة مكون من ثلاث حجرات، كان صاحب المكتب ممن ينحازون الى جانب قضايا العمال. كانت مساحة السطح أكثر من أربعمائة متر مربعة، حاول العمال المساعدين للقصير أن لا يبقوا أي متر مربع دون أن يقوموا بخلط الإسمنت والرمل عليه، وكانوا إذا دخلوا المطبخ لن يبقوا أي شيء دون أن يعبثوا فيه، ولم يكن بالإمكان إغلاقه لأكثر من سبب أدبي وعملي، فقد كان يرغب أن يعملوا الشاي على طريقتهم، كما أن تزودهم بالماء لخلط المواد، كان مصدره المطبخ أو الحمام المحاذي له. كان من المتعذر على أي زائر للمكتب أن لا تصطبغ ملابسه باللون الأبيض المغبر نتيجة الطريقة التي كان العمال يقومون بها في تنفيذ مهمتهم ..

كان بعد أن ينهوا عملهم، يحاول تخفيف الحمولة الترابية والملوثة لكل شيء، فيجد أكواب الشاي أو فناجيل القهوة عبارة عن كتل إسمنتية، وأرضيات المطبخ والحمام تعلوها طبقات سميكة من المحاليل الإسمنتية ..

بعدما أنهوا عملهم، طلب منظفا للسطح فطلب ثلاثة أضعاف ما تقاضى عمال التبييض .. أعطاهم أجورهم، دون أن يبدي تذمره نهائيا .. لكنه تذكر ما كان قد رآه في مدن بريطانيا و إيطاليا في ورشات بناء عمارات تزيد عن عشر طبقات دون أن يتلوث الشارع، أو تعاق حركة المرور، بل كانت توضع الممرات المضاءة ليلا، والمزودة بلوحات فنية حتى لا يضجر المارة، وترفع المواد بطرق لا تترك ذرة من الغبار .. وقد تكون الكلف العامة أقل من الكلف لدينا (قياسا)..

لكنه عاد الى رشده، فاعتبر أن نمو علاقات الإنتاج في الغرب، وما أنجزه العمال في أخذ حقوقهم، هو ما جعلهم يسلكون سلوكا يتناغم مع السمات الحضارية المعاصرة، في حين أن بلادنا لا تزال أمكنة لا يحس بها العمال بالأمان الاقتصادي والاجتماعي، ولا يعلمون مصيرهم على وجه التحديد، فمن حقهم أن تكون علاقاتهم غير ودودة مع المجتمع ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م