الأستاذ محمد،
دائما تبهرنا بأسلوبك في الطرح، وإنني لو لم أعلم أنك أديب، لقلت أنك باحث علمي، أكاديمي التوجه، مستغرق في التفصيل، ومؤكد للنظرية بالحجة والدليل، ولا بأس أن تكون قد جمعت بين الاثنتين.
فالأدباء يدعمون أفكارهم بالإتيان بصور جميلة تقرب المفهوم من السامع، وتحببه إليه، وقد لا يكون هناك أي علاقة بين المشبه والمشبه به من حيث النظرية التي يراد إثباتها.
أعطيك مثال:
يقول الشافعي رحمه الله:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
............. وانصب فإن لذيذ العيش في النصبِ
إني رأيت وقوف الماء يفسده
............. إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب ِ
بعد أن نقرأ هذين البيتين ينتابنا الشعور أن الشافعي -رحمه الله- قد طرح فكرة (أو نظرية:السفر خير من المكث، والنصب خير من الدعة) ثم دعمها بالأدلة والبراهين (الماء يطيب إن سال ويفسد إن مكث)، والنتيجة هي أننا اقتنعنا بأن نظرية الشافعي.
ولكن إذا نظرت بتأمل إلى النظرية وإلى الدليل تجد أنه لا علاقة بينهما، فكم من الأشياء في الحياة يطيب بالمكث ويفسد بالتنقل، وقد اختار الشافعي -رحمه الله- شيئا واحدا تنطبق عليه هذه الحالة، وسلب عقولنا فأقنعنا بما يذهب إليه.
والحقيقة أن هذا أسلوب الأديب، فهو يأتي بصور وأخيلة، تقرب المعنى من السامع، وليست هذه الصور أدلة وبراهين كما هو الحال في البحث العلمي.
لا أريد أن أكثر الكلام خارجا عن الموضوع الأصلي، إلا أنني أحببت أن أبدي إعجابي بأسلوب الجامع، وطرحك الموضوعي.
نعود للموضوع، لا شك أن الحالة التي تتكلم عنها -أستاذ محمد- كانت أظهر وأوضح في مقتبل القرن، حين كانت الدعوى إلى الغرب والمدنية أقوى وأبرز، وقد قرأنا الكثير من الأدب العربي الذي ليس فيه إلى إظهار العيوب العربية، وبالمقابل إظهار المحاسن الغربية، ولا شك أن الموضوعية تختفي في كثير من الأعمال الأدبية، فهي قبل كل شيء تعبير عن عاطفة، ولطالما حادت العاطفة عن جادة الواقع، وفي نفس الوقت فإننا نرى أن رجوع مثل هؤلاء الأدباء إلى أوطانهم، أو ما تسميه بالذات الحقيقية في الحركة التأصيلية، لا شك أنه رجوع نابع عن عاطفة، إما بسبب موقف واجهه في بلاد الغرب أو بسبب الحنين، أو غير ذلك من الأسباب، ولذلك فإن رجوع "الأدباء" إلى الذات الحقيقية يكون رجوعا غير موضوعي -في كثير من الأحيان-، فتجد فيهم من يمتدح أمورا لا يحق لها أن تمتدح (بدون ضرب أمثلة هنا
![Smilie](smile.gif)
)، وذلك بسبب أن رجوعه إلى الذات الحقيقية هو رجوع عاطفي بسبب ما عاناه من الذات الوهمية.
والذي ندعوا إليه هو أن نجعل نقدنا لأوطاننا ولبلاد الغرب نقدا موضوعيا، مع العلم أن ذلك صعب على الأدباء، وأن تذكر الحاسن والمساوئ في كل منهما، مع المحافظة على الاعتزاز بأنفسنا وبحضارتنا وتراثنا، وحق لنا أن نفتخر، وما كانت حركة الانشغال بكل ما هو غربي إلا مرحلة مؤقتة، أعتقد أننا نشهد تداعيها.
والله أعلم.
أخوكم عمر مطر