جمعة العلوي وأطروحة جميلة ..
التعميم في شعر الرثاء بين الشاعرين :
محمود سامي البارودي وعبد الرحمن العشماوي
جمعة العلوي
4/1/1423
18/03/2002
لكل زمان مقاله ، ولكل عصر رجاله ، ولقد كان التعميم يوماً ما هو السائد والمرغوب فيه ، خاصّة في شعر الرثاء ، بحجّة أن القصيدة يجب أن تبقى للأبد ، لاتموت بموت قائلها أو المقولة له ،
فمرثيّة المعرّي مثلاً بقيت معلماً للرثاء رغم ذهاب الراثي والمرثي واستطاعت أن تجسّد لنا الحزن العميق الذي عاناه الشاعر بموت مرثيّه ، وكيف أظلمت عليه الدنيا ، واستوى عنده ما فوق الأرض بما تحتها ، حتى لم يعد يفرّق بين الحزن والسرور :
غير مــجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا تــــرنّم شـــــادي
أبكت تلكم الحـــــمامة أم غنّت
علــــى فرع غصـــــنها الميّاد
صاح هذي قبورنا تملأ الأرض
فأين القــــبور مــــن عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الـ . .
أرض إلاّ مـــــن هذه الأجساد
رب لـحد قد صار لحداً مراراً
ضـــاحكاً من تزاحم الأضداد
غير أن الكثير من النقاد أصبح اليوم ينظر إلى التعميم على أنّه نوع مرض في القصيدة ، يفقدها رونقها وشاعريّتها ، ويجعلها أقرب إلى نواح النائحة المستأجرة منه إلى الثكلى .
ولعل المثال يغني عن كثير من المقال ؛ فهذا الشاعر الفذ المعروف محمود سامي البارودي يرثي صديقه عبد الله فكري بهذه الأبيات :
لا بأبــــــــي مــن كان نوراً مجسّدا
يفــيـــــــــض علينا بالنـــعيـم رواؤه
ثوى برهة في الأرض حتّى إذا قضى
لبانته منـــــــــــها دعتــــــه سمــاؤه
ومــــا كان إلا كوكبـــــا حل بالثرى
لوقـــــــت ، فلمــــــا تم شال ضياؤه
نضـــــا عنه أثواب الفناء ، ورفرفت
إلى الفلك الأعـــــــــلى به مضواؤه
فأصـــــــبح في لج من النور سابحاً
سواحــــــــــــله مجهولة وفضــاؤه
تجرّد من غـــــــمد الحوادث ناصعاً
وما الســـــــــيف إلاّ أثره ومضاؤه
فإن يك ولّى فـــــــــــــهو باق بأفقه
كنـــــــــــجم يشوق الناظرين بهاؤه
ولولا اعـــــــــتقادي أنّه في حظيرة
من القدس لا ستولى على الجفن ماؤه
عليــــك ســــــلام من فـــؤاد نزا به
إليـــــــــك نزاع أعجز الطب داؤه
فمرثيّة البارودي هذه قيل عنها : إنها لا تقدّم المرثي بوصفه ذاتاً متفرّدة لها خصوصيّتها وملامحها ، التي تميّزها عن آلاف الذوات الأخرى ، بل تقدّم مجموعة من الصفات العامّة التي يمكن أن تنطبق على أي كائن آخر في الوجود .
ولم يكن من قبيل المصادفة أن البارودي كان قد كتب هذه القصيدة أصلاً في رثاء جمال الدين الأفغاني ، ثم حولها إلى رثاء صديقه عبدالله فكري .
لهذا نجد أن الدكتور العشماوي يتجنّب هذا التعميم عندما يرثى أحمد الزهراني بالقصيدة التالية :
يا أنت . . ما مرّت علينا روضة
في دربنـــــا إلاّ وتذكر أحـــــمدا
نـظر السحاب إليك نظرة معجب
وســـــــقاك ماء المكرمات مبرّدا
ورأيت أبراج الـــمعالي صافحت
كف السماء فصار عزمك مصعدا
أصبـــحت في ثغر الجهاد قصيدة
طـــــــرب الزمان للحنها وتنهّدا
هذي ربا زهــــــران أثمر لوزها
شـــــــغفاً وأينـــع شوقها وتجددا
أحـــــــــييت بالتقوى سعادة قلبها
وغـــــــــدوت فيها بالشهادة سيّدا
والـــــــطائف الولهان شدّ إزاره
فرحــــــــــــاً وأحيا ليله وتهجّدا
يُهدي إليك ســـــــــــلام كل ثنيّة
طربت للحنك حين كنت المنشدا
ويصُــــبّ في كفّيك من أزهاره
عــطراً تجود به أزاهير الهدى
أرأيت أحـــــمد كيف جرّد نفسه
في نــــصرة الحق المبين مهنّدا
ومضى على درب الجهاد مبكّراً
لم تبلغ الــــعشرين منه المقصدا
جعـــــل الشبـــاب مطيّة لجهاده
فشدا بألحـــــــان الجهاد وغرّدا
أرأيت بامــــــير التي فرحت به
فغـــــدت تمد إليه من شوق يدا
وغــدت تقول لكل من في نفسه
كبرٌ ومن ضل الطريق وعربدا
موت الشهــــيد حياته ، وحياتنا
في لهــونا الفتّاك عنوان الردى
يا من قطعت إلى الجهاد مسافة
ما زال يحـــبو دونها من أخلدا
. . . . . . . . . . . . . .الخ
فهذه الصفات خاصّة بـ ( أحمد الزهراني ) : فهو من قبيلة زهران ومن أرضها ذات اللوز والشوق ، وأحمد قد قتل شهيداً وأصبح بهذه الشهادة سيّدا ، وبلده الطائف فرحت بشهادته وتحمّست بها للعمل والعبادة ، فقد كان أحمد منشدها وكانت ( الهدا ) – وهي جزء من الطائف – ذات الأزاهير تصب أزاهيرها في كفي أحمد ، لأنّه جرّد نفسه للجهاد كما يجرّد السيف المهنّد ، وهو لم يبلغ العشرين يوم ودّع شهيداً ، وكان يوم وداعه المشهود ذاك في أرض (بامير) التي فرحت به ومدّت إليه من شوق يدا .
واستطاع العشماوي عبر هذه المرثيّة الرائعة أن ينقلنا معه على متن طيران شعره إلى هناك ، حيث أرض الجهاد:
ناديتني فسمعت صوتك والصدى
ووعــدتني فقـــبلت منك الموعـدا
ودعـوتني أخـــرى فلبّى خاطري
وحـجزت في طيران شعري مقعدا
وعــــبرت أجواء الحنين فما رأت
عينـــــــــــــاي إلاّ لهفــة وتــوددا
وأتيــت تمــــــنحني المسافة نفسها
أمة ، تســــــليني وتختصر المدى
وأتيــــت ترمقني الرياح بنـــــظرة
عجــلى ، وتحمل في يديها الموقدا
وأتيــــت ينــتحر الضياء على يدي
ويصير رمل الدرب حولي عسجدا
فمضينا معه وكلنا فخر بالجهاد ، وبالشهادة ، وشعرنا بالرياح ترمقنا بنظراتها ، وشاهدنا الموقد الذي تحمله الرياح . . الخ .
رحم الله البارودي ، ووفق العشماوي (1) .
--------------------------------------------------------------------------------
1 المراجع :
-مجلة العربي العدد 509 ،
-ديوان محمود سامي البارودي
-عندما يعزف الرصاص للدكتور عبد الرحمن العشماوي
|