وأما الحديث الثاني : فهو لا يدل أيضاً على ما قاله ، بل إن أقصى ما يدل عليه الحديث أن أبا عبد الله عليه السلام كان يدعو بدعاء النبي إلياس عليه السلام.
أما أن هذا الدعاء كان مذكوراً في أحد الكتب السماوية ، أو مما رواه الصادق عليه السلام عن آبائه الطاهرين عن النبي صلى الله عليه وآله أو غير ذلك ، فهذا لم يتضح من الحديث.
وعلى كل الاحتمالات فلا دلالة في ذلك على الاستغناء عن كتاب الله العزيز ، فإن مجرد الدعاء بمثل ما دعا به أحد الأنبياء عليهم السلام لا يدل على
--------------------------------------------------------------------------------
( 42 )
الرغبة عما جاء به النبي صلى الله عليه وآله كما هو واضح.
ولو سلمنا أن ما دعا به أبو عبد الله عليه السلام كان قد أخذه من أحد الكتب السماوية ، فإن التحديث عن تلك الكتب التي لم تصل إليها يد التحريف ولا سيما في الدعاء وما شابهه جائز ، وهو أولى من التحديث عن اليهود والنصارى الذي جوّزه علماء أهل السنَّة .
فقد أخـرج البخاري والترمذي وأحمد بن حنبل ـ واللفظ لهم ـ وأبو داود وغيرهم عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وآله قال : بلّغوا عني ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار (1).
قال ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث : أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم ، لأنه كان قد تقدم منه صلى الله عليه وآله الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ، ثم حصل التوسع في ذلك. وكأن النهي قد وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة ، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك ، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.
وقال الشافعي : من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله لا يجيز التحدث بالكذب ، فالمعنى حدِّثوا عن بني اسرائيل بما لا تعلمون كذبه ، وأما ما تجوِّزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم (2).
وقال المناوي : « حدِّثوا عن بني إسرائيل » أي بلِّغوا عنهم قصصهم
____________
(1) صحيح البخاري 4|207 كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. سنن أبي داود 3|322. مسند أحمد بن حنبل 2|159 ، 202 ، 474 ، 502 ، 3|46. سنن الدارمي 1|136. سنن الترمذي 5|40. صحيح سنن أبي داود 2|697. صحيح الجامع الصغير 2|600. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 8|50 ـ 51. الجامع الصغير 1|570.
(2) فتح الباري 6|388.
--------------------------------------------------------------------------------
( 43 )
ومواعظهم ونحو ذلك مما اتَّضح معناه ، فإن في ذلك عبرة لأولي الأبصار ، « ولا حرج » عليكم في التحديث عنهم ولو بغير سند ، لتعذِّره بطول الأمد ، فيكفي غلبة الظن بأنه عنهم ، إنما الحرج فيما لم يتَّضح معناه (1).
وقول الجزائري :
وكيف تجوز قراءة تلك الكتب المنسوخة المحرَّفة والرسول صلى الله عليه وآله يرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي يده ورقة من التوراة فينتهره قائلاً : ألم آتيكم بها بيضاء نقية ؟!
جوابه : أن ما عند أئمة أهل البيت عليهم السلام من كتب الأنبياء السابقين لم تصل إليها يد التحريف كما مر ، وحينئذ يجوز التحديث عنها وإن كانت منسوخة ، ولا سيما فيما يتعلق بالدعاء والمواعظ ونحوهما.
وأما نهر النبي صلى الله عليه وآله لعمر فلعله كان في بداية الدعوة ، ثم رُفع المنع منه لما استقرت الأحكام كما تقدم في كلام ابن حجر.
أو لعل النبي صلى الله عليه وآله علم أن عمر أراد أن يأخذ بما حوَتْه تلـك الورقـة من عقـائد فاسدة وأحكام باطلة أو منسوخة لا يجوز العمل بها ، لا مثل الدعاء والمواعظ التي لا بأس بالنظر فيها.
أو أن النبي صلى الله عليه وآله خشي أن يُعنى المسلمون بما يجدونه بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل ، فيأخـذون ما لا يصح ، ويعملون بما لا يجوز ، فنهى عمرَ عن ذلك سدًّا لهذا الباب الذي يأتي منه الفساد.
وقوله : إن اعتقاد امرئ الاستغناء عن القرآن أو عن بعضه بأي حال من الأحوال هو ردة عن الإسلام ومروق منه.
جوابه : أنه لا نزاع بيننا في أنه لا يجوز لمسلم أن يهجر كتاب الله العزيز أو يعتقد الاستغناء عنه بغيره ، وإنما الكلام في أن الشيعة الإمامية هل يعتقدون جواز الاستغناء عن القرآن بالتوراة والإنجيل كما زعم الجزائري أم لا ؟
____________
(1) فيض القدير 3|377.
--------------------------------------------------------------------------------
( 44 )
والذي أقوله : إن عقيدة الشيعة الإمامية في كتاب الله العزيز أشهر من أن نتكلف بيانها ، أو نتجشَّم إيضاحها ، إلا أنا نذكر شيئاً مما قاله بعض علمائنا الأعلام في بيان عقيدة الإمامية في القرآن ، قطعاً لشغب المشاغبين ، وتشويش المشوِّشين ، فنقول :
1ـ قال أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه المعروف بالصدوق ( ت 381هـ ) : اعتقادنا في القرآن أنه كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم ، وأنه القصص الحق ، وأنه لقول فصل وما هو بالهزل ، وأن الله تبارك وتعالى محدِثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلم به (1).
2ـ وقال الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس سره : يعتقد الشيعة الإمامية... أن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه ـ يعني النبي صلى الله عليه وآله ـ للإعجاز والتحدّي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام ، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة ، وعلى هذا إجماعهم (2).
3ـ وقال الشيخ محمد رضا المظفر قدس سره : نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم ، فيه تبيان لكل شيء ، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما حوى من حقائق ومعارف عالية ، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف ، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي ، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه ، وكلهم على غير هدى ، فإنه كلام الله الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
____________
(1) عقائد الصدوق ، ص30.
(2) أصل الشيعة وأصولها ، ص132.
--------------------------------------------------------------------------------
( 45 )
خلفه ) (1).
ومن الغريب أن الجزائري قد اختار هذين الحديثين ، وزعم أنهما يدلان على أن أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم قد استغنوا عن القرآن الكريم بالتوراة والإنجيل المحرَّفين ، ليصل إلى النتيجة التي يريدها ، وهي أن كل من اعتقد الاستغناء عن كتاب الله فهو كافر ، والشيعة يعتقدون ذلك ، فهم كفار مارقون من الدين ، مرتدون عن الإسلام.
فأقدم على تكفير الشيعة بهذين الحديثين الضعيفين ، اللذين حمَّلهما من المعاني ما لا يحتملانه ، وأعرض عن الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي أخرجها الكليني في « الكافي » في فضل القرآن ، وفضل قراءته والعمل به.
ومن راجع كتاب الكافي يجد أن الكليني رحمه الله جعل للقرآن كتاباً كاملاً ، أسماه « كتاب فضل القرآن » ، وذكر فيه 124 حديثاً ، رتَّبها في أبواب مختلفة ، منها :
ـ باب فضل حامل القرآن.
ـ باب من يتعلم القرآن بمشقة.
ـ باب من حفظ القرآن ثم نسيه.
ـ باب في قراءته.
ـ باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن.
ـ باب ثواب قراءة القرآن.
ـ باب قراءة القرآن في المصحف.
ـ باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن.
ـ باب فيمن يظهر الغشية عند قراءة القرآن.
____________
(1) عقائد الإمامية ، ص95.
--------------------------------------------------------------------------------
( 46 )
ـ باب في كم يُقرأ القرآن ويُختم.
ـ باب في أن القرآن يُرفع كما أُنزل.
ـ باب فضل القرآن (1).
فمما ورد في فضل العامل بالقرآن الحافظ له ما رواه الفضيل بن يسار في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : الحافظ للقرآن العامل به مع السفَرة الكرام البررة (2).
ومما ورد في الحث على قراءته ما رواه حريز في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : القرآن عهد الله إلى خلقه ، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده ، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية (3).
ومما ورد في ثواب قراءته ما رواه الفضيل بن يسار في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن ، فتُكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات ، ويمحى عنه عشر سيئات (4).
هذا مع أن الكليني رحمه الله قد روى في « الكافي » في باب الرد إلى الكتاب والسنة ما يدل على أنه ليس شيء من الحلال والحرام وما يحتاج إليه الناس إلا وقد جاء في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله.
ومن ذلك صحيحة حمَّاد عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سمعته يقول : ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة (5).
____________
(1) راجع الجزء الثاني من أصول الكافي من ص596 إلى ص634.
(2) أصول الكافي 2|603.
(3) المصدر السابق 2|609.
(4) المصدر السابق 2|611.
(5) المصدر السابق 1|59.
--------------------------------------------------------------------------------
( 47 )
وفي موثَّقة سماعة ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال : أّكُلُّ شيء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ؟ أو تقولون فيه ؟ قـال : بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله (1).
وروى رحمه الله أيضاً في باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ما يدل على لزوم الأخذ بما وافق الكتاب من الأحاديث المروية ، وطرح ما خالفه.
ومن ذلك صحيحة أيوب بن الحر ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : كـل شيء مـردود إلى الكتاب والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف (2).
وخبر هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى ، فقال : أيها الناس ، ما جاءكم عني يوافـق كتـاب الله فـأنا قلـته ، وما جـاءكم يخـالف كتاب الله فلم أقله (3).
وهذا كله يدل على أن مَن يعتقد ذلك في كتاب الله العزيز لا يتّجه منه اعتقاد الاستغناء عن القرآن الكريم بغيره من كتب الأنبياء السابقين عليهم السلام وإن كانت غير محرفة.
والحاصل أن تمسُّك العترة النبوية الطاهرة وشيعتهم بكتاب الله المجيد واحتجاجهم به وتعويلهم عليه مما لا يخفى على أحد ، وإنكار ذلك مكابرة ظاهرة وسفسطة واضحة.
____________
(1) المصدر السابق 1|62.
(2) المصدر السابق 1|69.
(3) المصدر السابق 1|69.
(يتبع )
|